مواضيع مجلة الناقوس – العدد السابع

شخصيــة العــدد:

الاستــاذ: صالـح محمـد محمـود

هناك أناس في هذه الحياة يمرون مرورا عابرا، وهناك من يتركون فيها أثرا جميلا طيبا، لذلك نحن مدينون لهؤلاء الأشخاص لما تركوه من أثر جميل وعلامات فارقة  في حياتنا، ، فهم وهج الحياة وقناديلها، ومنارات اشعاع  تظل متقدة دوما  لتنير لنا دروب الحياة وظلماتها، لهذا يصعب نسيانهم ويظل العمل على تجديد ذكراهم بمثابة  الامل المجدد لدورة الحياة.

درجت  مجلة الناقوس بافراد مساحة تليق بتلك القامات  في كل عدد من اصداراتها  في جوانب حياتنا المختلفة،  وعندما وقع الاختيار  على ان يتم  تسليط الضوء في هذا العدد على  مجال التعليم،  فرضت علينا شخصية هذا العدد نفسها بقوة  لما تركته من مآثر عظيمة في هذا المجال ، ألا وهو المعلم والمربي الاستاذ صالح محمد محمود اسماعيل (عليه رحمات الله  وغفرانه) الذي كان  نبراسا للأجيال في حقول العلم والمعرفة وكان نعم المعلم الذي تخرج على يديه الكثيرين من ابناء الشعب الارتري، وعلّمهم اسرار النجاح وتحقيق المستحيل، اردنا من خلال هذا الاختيار أولاً: ان نفيه بالقليل من حقه وقدره كرد جميل لهذه الشخصية العظيمة بالوقوف على بعض من صفحات حياته المضيئة عبر جزء من سيرته ومسيرته ودوره العظيم في مجال التعليم، ثانياً: ان نبث روح الأمل في هذا الشعب  بأنه يستطيع ان يصنع المستحيل مقتدين بهؤلاء الذين أناروا دروب حياتنا.

 وكأننا بلسان حاله يردد: –

بالعلم يدرك أقصى المجد من أمم                ولا رقــــي بغيـــر العلــــم للأمــــم

يا من دعاهـم فلبــــــوه عوارفها                 لجهودكم منه شكر الروض للديم

ولد الأستاذ صالح محمد محمود في مدينة كرن في ثلاثينيات القرن المنصرم، ونشأ وترعرع بها، والتحق بالدراسة حيث تدرج في دراسته حتى الفصل الرابع وكان ترتيبه الاول على فصله مما أهلهُ ليتقدم لامتحان القبول بمعهد تدريب المعلمين بأسمرا الذي كان قد ذاع صيته انذاك، ولم يكن قد تجاوز هذا الصبي حينها  الخامسة عشر عاما من عمره، الامر الذي ادى الى إعتراض  قبوله للجلوس للامتحان نظرا لصغر سنه، لكن  نظرا لإصراره الشديد استجابت لجنة الامتحانات وتم قبوله، وكانت المفاجأة النجاح الباهر والدرجات العالية التي أحرزها بين الممتحنين، حيث تم اختياره ضمن أفضل ستة طلاب من المتفوقين الذين وقع عليهم الإختيار لمواصلة دراستهم في معهد تدريب المعلمين، والمدهش حقا هو مفاجأة لجنة الامتحانات يوم إعلان نتيجة التخرج من المعهد بوجود هذا الصبي الطموح والواثق من نفسه يقف بكل شموخ وإباء بين الخريجين الذين حققوا أعلى الدرجات.

 لم تتوقف عجلة النجاح  والتطور عند شخصية الأستاذ صالح المعطاءة خلال مشوار حياته، فهو كما وصفه اصدقائه بأنه قامة وصاحب مواهب متعددة،  هذا بجانب ميزاته الخاصة، فقدكان سمح الأخلاق هادئ الطبع، لا يحب الأضواء والضجيج والشهرة، قليل الحديث كثير العمل يهتم بكل أمر يحتاج الى التقييم والتقويم، كما لم يكن عطاءه قاصراً على حقل التعليم بل قدم لوطنه الكثير أثناء مسيرة حركة التحرر الوطني  بذات الاخلاص والوفاء الذي عرف به، لذا كان لزاما علينا أن نقف على سيرة هذا الانسان النبيل،  ونعرج على البعض من مواقفه واسهاماته الجليلة ودوره الجبار في مجال التعليم بشكل خاص .

 تخرج الاستاذ صالح من معهد تدريب المعلمين حيث عمل معلما يشار اليه بالبنان وتنقل بين مدن البلاد، ولم يكن مجرد معلم يقوم بتأدية واجبه الوظيفي فحسب، بل كانت له مواقف لا تنسى شهد له بها سكان المدن التي عمل فيها معلما او مشرفا تربويا، وذلك من خلال تواصله الدرؤب بأؤلياء الأمور لحثهم على الاهتمام بتعليم ابنائهم، وتشجيع الطلاب وحثهم على العلم ومواصلة دراستهم. ولم يتوقف طموحه في تطوير ذاته عند هذا الحد، بل جعله يدخل التحدي في أحلك الظروف ليواكب مسيرة التعليم، دون أن يشعر بالحرج في ان يجلس في مقاعد الدراسة مع تلاميذه، بل كان لهم بمثابة الاخ والصديق والاب الى أن تخرج بامتياز حاملا درجة البكالوريوس.

 وبعد تخرجه لم يسعى لاستغلال هذا الانجاز من أجل تحسين وضعه المادي – كما اتضح ذلك في مسيرة  حياته – بل عمل على بذل المزيد من الجهود الجبارة لرفع شأن مجتمعه خاصة في مجال التعليم الذي كان يرى فيه الاستاذ صالح انه السلاح الأنجع لرفع ِشأن المجتمعات، حيث كان يعلم أن  مجتمعه في أمس الحاجة اليه في ظل الظروف التي كان يمر بها أبناء المجتمع من عزوف عن التعليم نتيجة لتغيير إثيوبيا نظام التعليم وإدخال الامهرية كلغة دراسة في المرحلة الابتدائية، الأمر الذي نفّر الطلاب في منطقة المنخفضات عن الدراسة، وكان هذا  احد الاسباب التي تؤرق الاستاذ صالح لمعرفته بنتائج هذا في الفاقد التربوي، لذلك كرس جهده  لتحقيق  ماكان يطمح إليه  بتأسيس مدرسة ثانوية في مدينة اغردات ، وبالفعل نجح في انجاز ذلك الحلم  وتم افتتاح المدرسة الثانوية التي اعتبرت احد القلاع التعليمية ، وارتبط اسمها بالاستاذ صالح   في ذهن المجتمع للدور الكبير الذي لعبه في تأسيسها ، وعمل مديرا لها حتى لاتعيق سلطات الاحتلال  استمرارها بحجة عدم وجود مديراً مهلا لها ، ليس هذا فحسب بل بذل الجهود عبر التواصل مع الجهات الرسمية والمعلمين الذين عمل معهم من أبناء المجتمع بأن يعملوا في التدريس بها لتثبيتها مثلها مثل بقية المدارس الثانوية.

وكم هو جميل ان تجد من يشيد بهذه السيرة العطرة من أحد طلابه الذين عاصروا هذه الفترة وأحد من حظي بشرف الجلوس بمقاعدها عندما تم افتتاحها، وهو الاستاذ محمود أنصره، وان يدلي لنا بشهادته وافاداته قائلا: –

إن الاستاذ صالح لم يهدأ له بال منذ أن بدأ تشييد هذه المدرسة في العام 1966م، ولم يكتمل مراحل بناء فصولها إلا بعد عامين من تاريخ التشييد، وبدلا عن الاعلان عن  افتتاح المدرسة الثانوية  فقد عمدت وزارة التعليم بنقل المرحلة المتوسطة (الفصلين السابع والثامن) إلى المدرسة، وظلت تماطل وتضع المعوقات في سبيل عرقلة عملية الافتتاح وتتحجج  بالمشكلات التي كانت تستعرضها، منها على سبيل المثال عدم وجود مدير مؤهل يدير شئون هذه المدرسة، وكذلك انعدام الطاقم التعليمي وقلة عدد الطلاب، بالاضافة الى قلة الكتب والوسائل التعليمية الاخرى، لكن الاستاذ صالح لم يمل أو  يكل بل كان يخطط بلا هوادة للتصدي لكل المعيقات التي كانت تضعها الوزارة وإيجاد الحلول لها عبر الجهود الحثيثة التي كان يبذلها من خلال علاقاته الشخصية بالتواصل مع كبار المسئولين وأعضاء البرلمان من ابناء المنخفضات وكان حينها يشغل منصب  مفتش تربوي للمديرية الغربية التي كانت تضم بركة والقاش ثم  تواصلت تلك الجهوداثناء فترة دراسته الجامعية باديس ابابا.  حتى تكللت جهوده أخيراً بالنجاح وتم افتتاح المدرسة الثانوية في العام 1972-1973م وبدأت باستقبال الطلاب بالفصل التاسع لتصبح اضافة للثانويتين في كل من كرن ومصوع، موفرة بذلك عناء السفر والانتقال لطلاب المديرية الغربية الى مدينة كرن، وايضا إلى تخفيض الضغط على ثانوية كرن التي كانت تستقبل جميع الطلاب من بركة والقاش والساحل.

ويضيف الأستاذ أنصرة أن الأستاذ صالح لم يكن يسعى للوصول الى هذه الغاية من أجل أن تخدم وتلبي ثانوية أغردات رغبات مجتمع المدينة فقط، بل كان يسعى ان تكون هذه المدرسة منارة وصرح كبير يقدم خدماته التعليمية لكافة أبناء المدن والقرى والارياف البعيدة في المنطقة الغربية وكان الاستاذ صالح أحد المنادين والمطالبين بالخدمات التعليمية لهذا الاقليم الذي تصل مساحته ثلثي مساحة البلاد ولا يملك سوى مدرستين ثانويتين في كل من مصوع وكرن، وكان يتواصل مع الجميع في سبيل تحقيق هذا الهدف.

ويسترسل الاستاذ أنصرة مشيرا إلى المزيد من جهود الاستاذ صالح في خدمة الطلاب التي لم تقتصر في الجانب التعليمي فقط، بل تعدته الى الجانب الاقتصادي ليذلل  للطلاب عقبة  اكمال تحصيلهم العلمي، ومن ضمن تلك  المجهودات في هذا الصدد كان قد قدم الدعوة لاعيان مدينة على قدر لزيارة المدرسة وحضور طابورها الصباحي لحثهم على الحاق ابنائهم  بها من ناحية واتاحة الفرصة لطلاب الثانوية للعمل خلال عطلات الخريف بمشروع على قدر الزراعي من اجل توفير احتياجاتهم المادية، وايضا نظم مع وزارتي الزراعة والصحة في اغردات لاستيعاب بعض الطلاب في العمل خلال عطلة الخريف، من اجل نفس الغرض.

ويواصل الاستاذ أنصرة افاداته حول نضالات الاستاذ صالح، قائلا بانه كان يحث الطلاب على المطالعة لتوسيع مداركهم المعرفية والثقافية العامة بتوزيع الكتب المكتبية عليهم ومتابعته ما قاموا بتحصيله منها.

كما أشار الاستاذ انصره الى ان جهود ودعم الاستاذ صالح لمدرسة أغردات الثانوية لم تبدأ عندما تم تعيينه مديرا لها بل لم يتخلى عنها حتى عندما كان في فترة عمله بوزارة التعليم ومرحلة دراسته بالجامعة، حيث كان يقوم بتنظيم كورسات صيفية لتقوية الطلاب عن طريق طلاب جامعة اديس أبابا من أبناء المجتمع الذين درّس الاستاذ صالح بعضهم في المتوسط، ودَرَسَ معهم في الجامعة، وكان ذلك من أجل تحسين مستوى الطلاب حتى يثبت قدرة الطلاب على الدراسة.

وتبقى ذكرى الاستاذ صالح محمد محمود حاضرة  وراسخة في أذهان  مجتمع مدينة اغردات والمديرية الغربية عموما للدور الذي لعبه في تاسيس مدرسة ثانوية خففت الأعباء على بعض اولياء الامور الذين كانوا يرسلوا ابنائهم الى مدينتي كرن واسمرا ، كما أتاحت الفرصة للطلاب الذين لا تتحمل اسرهم تكاليف دراستهم في المدن المذكورة، والاهم من هذا كله أن الطلاب الذي قدموا من الارياف لمواصلة دراستهم في هذه المدرسة لم يرتفع مستواهم الاكاديمي فقط بل ارتفع وعيهم الثوري مما انعكس ذلك لاحقا في نشر اهداف جبهة التحرير الارترية ، ومن هنا يمكن القول ان المدرسة أصبحت جسرا ربط كل مناطق المديرية الغربية  بقضايا مجتمعاتهم ورفع وعيهم الثوري.

ويقول الأستاذ أنصرة حول الأدوار البارزة التي لعبها الاستاذ  صالح  في تعليم أبناء الوطن في السودان أنه قام بالتواصل مع زملائه من المعلمين والمسئولين في الثورة الارترية والاجهزة المختصة في الأمم المتحدة حتى تكللت تلك الجهود بإفتتاح مدرسة (اليونيسكو) 1977م في مدينة كسلا بشرق السودان، وأصبحت هذه المدرسة منارة تعليمية وملاذا لكل أبناء اللاجئين الإرتريين في السودان، وكعادته كان يسعى لاستقطاب الطلاب والمعلمين والكوادر التعليمية المؤهلة، نذكر منهم  على سبيل المثال لا للحصر، الاستاذ ميكائيل قابر والاستاذ صالح حمدي، وفي مرحلة لاحقة الاستاذ محمود محمد ابراهيم والدكتور محمد خير عمر، وهنا لا يفوتنا ايضا ان نلفت الانتباه بأن الاستاذ صالح لم يسعى يوما للمنصب والمال حيث كان يوزع الفرص لزملائه من المعلمين على الرغم من انه كان أهلا لهذه المناصب، في الوقت نفسه كان يقدم هذه الخدمات ولم يعمل معلما بمدرسة اليونيسكو ولم يتقاضى أي راتب، نظير خدماته.

ومن ناحية اخرى كان للاستاذ صالح دورا بارزا ومشهودا في التعليم  في عمق الاراضي الارترية المحررة ، حيث لم ينقطع عن تحقيق هدفه التعليمي في كل مراحل حياته، بل ظل متسقاً بشكل متصل و كان همه وشغله الشاغل طيلة حياته، وكان له شرف تأسيس مدرسة التأهيل التربوي حيث كان لديه اهتماما خاصا بتعليم صغار السن من الجنسين من بين الملتحقين بالثورة كحل وطريق افضل لمساهمتهم في النضال حيث سحب أعداد غفيرة من الدفاعات والعيادات العسكرية والشعبيه، وبالفعل خرّجت هذه المدرسة كوادر مؤهلة، فمنهم من حمل راية التعليم وعمل في المدارس ومنهم من التحق بالسلك الاداري بعد التحرير داخل الوطن أو في دول المهجر، والجدير بالذكر انه استقطب من خريجي الجامعات من أبناء المجتمع الملتحقين بالثورة  ليدرّسُوا  باللغة العربية، ومنهم المناضل محمد حسين هيابو، الذي تخرج من كلية التربية جامعة الخرطوم ونال درجة الماجستير في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وعين مديرا للمدرسة، وكذلك زميله الشهيد عبد القادر ادريس كرارالذي تخرج من كلية التربية جامعة الخرطوم وآخرين من خريجي الجامعات العربية الأخرى.

هذا بالاضافة الى دوره في تخطيط ووضع المناهج التعليمية لمدارس الثورة بمختلف مراحلها كقيادي في جهاز التعليم بمكتب الشؤون الاجتماعية لجبهة التحرير الارترية.

وعلى المستوى الخارجي كان صاحب حضور مميز وفعال في اجتماعات ومؤتمرات المحافل الدولية كعضو في اتحاد المعلمين العرب، التي كان يقدم فيها الأوراق والبحوث العلمية لتطوير المناهج التعليمية وتأهيل وتدريب المعلمين في الوطن العربي، الامر الذي اكسبه علاقات واسعة واحترام مع نظرائه العرب حيث شهدوا له بكفاءته وقدراته وإمكاناته العلمية، وأبرز تقييم لدور الاستاذ صالح هو ما كتبه عنه الأستاذ يوسف عبد الرحمن من دولة الكويت والذي خصص له ملفا في جريدة الأنباء الكويتية عند السماع بخبر وفاته.

تصعب الكتابة عن القامات في أن تفيها حقها في سطور قلائل، ولكن كما اشرنا في المقدمة أننا تناولنا جزء يسيراً من مسيرة الاستاذ صالح محمد محمود المليئة بالعطاء والتحديات ونكران الذات والعمل بصمت دون ضجيج، والقيام بعمليات نوعية ناجحة دقةً وتنفيذاً حقق من خلالها المكاسب العلمية لمجتمعه، منطلقاً من ايمانه الراسخ بأن العملية التعليمية لها الدور الرائد في نهضة المجتمعات   وبدونها لن يكتب لها  أي تقدم أو ازدهار . 

اللهم ارحمه رحمة واسعة بقدر معين عطائه الذي لا ينضب، واجزيه عنا خير الجزاء.

 

شاهد أيضاً

مواضيع الناقوس-العدد 11- مقابلة العدد مع المناضل/ عبدالله سعيد علاج

الجزء الثاني أجرى الحوار: الصحفي محمود أفندي متابعة : ماذا حدث لك بعد نجاح العملية …

مواضيع الناقوس-العدد 11- مقابلة العدد مع المناضل/ عبدالله سعيد علاج

الجزء الأول أجرى الحوار: الصحفي محمود أفندي   تحاور مجلة الناقوس المناضل الكبير عبدالله سعيد …

شخصية العدد- المناضل المغييب محمد عثمان داير (الناقوس العدد 11)

       المناضل المغيب / محمد عثمان داير                   …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *