من مواضيع مجلة الناقوس العدد التاسع – الملف الثقافي

قصة قصيرة

دروب مجهولة (٢)

بقلم أبو محمد صالح

 صمت الجميع، صمت أعقبه صراخ، الكل كان يصرخ بأعلى صوته حتى أنا، يبدو أني كنت أطلق الصرخات معهم، وآخرون كانوا يطلبون النجدة لا أدري مِنْ مَنْ لكنهم كانوا يتوسلون، كان الموج يعلو فوقنا بينما نحن نتأرجح والبعض يتساقطون في البحر.. حينها تأكدت إني مودع. استعدت ذكرياتي سريعا، تحسرت على نفسي على حياتي وأهلي، كيف ستستقبل أمي نبأ موتي، كيف ستتلقى خبر موت ابنها الذي هرب لأنه لم يستطيع العيش في وطنه؟؟ وقتها كنت أريد أن أكتب وصيتي أن أعبر عن ذاتي.. أن أرسل لأمي لأبي لأخوتي لأهلي لأبناء وطني للطاغوت للوحش الذي ربما لا يدري ما فعله بشعبه!! أعلم أنه لن يبالي بما سأكتبه لن يغير به شيئاً، بل سيسعده حالي أو أنه سيتلذذ بذلك، لن يشعر بالذنب كما الناس، فلست أنا أول ضحاياه. لكن وددت أن أكتب رغم معرفتي بذلك.. أن أحظى بفرصة أن أكتب وصيتي كما يفعل كل الذين يعلمون أنهم ذاهبون. أحتاج أن أشرح موقفي.. أحمل الكثير لأقوله، لكن لا وقت لذلك فالموت أقرب.. حتى عند الموت لا أحظى بقلم بورقه بإذن تنصت؟؟ سأموت هنا، عشت منسيا وها أنا أموت منسيا، لا أعرف ماذا فعلت ربما يكون ذنبي هو أنني انتمي لتلك الأرض المنكوبة المكلوم أهلها التي خرجت من ظلم لظلم أشد، وحتى هذا لم يكن خياري.

استدركت نفسي والماء قد غطى المركب، ليس هناك ما أستطيع فعله سوى أن أتشهد في تلك اللحظة، بعدها لم أدر بنفسي إلا وصوت يحدثني بلغة لم أفهمها، فتحت عيناي فإذا بي أجد نفسي محاطا بأشخاص ذوي بشرة بيضاء، تحدثوا معي لم أستطع فهم حديثهم، تهامسوا، ثم تحدث معي أحدهم بالإنجليزية، عرفت فيما بعد أنهم فريق إنقاذ بحري لا أعرف كيف أنقذوني، وكيف جئت إلى هنا؟ لكن الحمدالله أنني بخير. حملوني في عربة إسعاف، كنت أود أن أسألهم عن أصحابي الذين كانوا معي لكن الشخص الذي كان يجيد الإنجليزية لم يصعد معي في نفس العربة، حاولت أن أتحدث مع السستر التي كانت بجواري، لكن لم أجد إجابة، حقنتني بحقنة بعدها لم أحس بنفسي إلا وأنا بالمشفى.

كان سليمان يحكي قصة نجاته من الموت وأنا كنت أستمع له بكل حواسي، لكن عندما جاءت تلك الفتاة وهي تحمل القهوة لنا، فقدت تركيزي مرة اخرى، لها حضور طاغي ادخلني في غياب لا أدري سره.. فبالرغم من قصة سليمان المؤثرة والتي كنت مشدودا لها، أفقدني حضورها تتبع حكاية سليمان. هذه المرة لم يكن صديقي بجانبي ليلكزني كما فعل عند الباب، أظنه كان مندمجاً مع حكاية سليمان وسرده للأحداث.. ربما لأن أكثر ما هو مهم بالنسبة لي في القصة هي نجاته من الموت.. أو ربما لأنها فاتنة أو أن سحرا أصابني؟؟

 لكن ما أستطيع أن أجزم به هو إنها أزاحت عني الكثير من الهموم التي كنت ثقلني.. فأنا اليوم غير الذي كان بالأمس، تبسمت ابتسامة خفيفة على خجل – حينها تبسم المكان والزمان وتبسمت أنا – هنا أشار لي سليمان قائلا ما رأيك في ذلك، فقلت له حقا انها قصة مؤثرة جدا، عندئذ تبسم سليمان بينما رمقني صديقي بنظرة احسست إن هناك شيء ما! لكن لم أدر ما هو! نظرت في المكان يمنة ويسرة، ثم لنفسي، لم افهم الامر! اعدت نظري صوب صديقي تبسم في وجهي وهو ينظر للفتاة، هنا عرفت أن الأمر يتعلق بالفتاة.. وأنا أفكر في ذلك، قال لي سليمان: يبدو إنك سرحت بعيدا ولم تكن معنا فقد تخطينا ذلك لمواضيع عدة، وأظن أن سليمان قد عرف أنها هي السبب في حالة التوهان الذي بي.. لذا قال لي، أعرفك يا عزيزي بنور – قلت في نفسي حقا هي نور – نور هي شقيقة زوجتي، قلت له تشرفت بها، وعرفها بي فقالت: منور، فقلت لها أنت نور والنور كله، صدقا كما يقال لكل نصيب من أسمه، بينما أدار صديقي دفة الحديث وقال: يا سليمان هل ترى أن هناك أمل للعودة للديار والوطن أم أننا سنفنى هنا كما نعيش اليوم بهويه اخرى؟ أوقفتني تلك الكلمات مع إن الحديث لم يكن موجه لي لكن سبقت سليمان في الرد، فقلت لهم حتما سنعود وسيعود الوطن وستشرق شمس الصباح وإن طال الانتظار.. لا بد وأن نعود. نظر لي صديقي مندهشا، وكان محقا في ذلك، فقد كنت دوما أحدثه بأن لا أمل لدينا، لكن اليوم أحس بأن هناك أمل.. ربما تكون قصة سليمان، أو ربما نور، أو الإثنين معا.. لكني اليوم أحس أن اشياء كثيرة قد تغيرت لدي، وأن نظرتي للحياة والمستقبل تغيرت أيضا. نظر إلي سليمان وقال حقا لدينا أمل وأمل كبير بأننا سنعود لديارنا وللوطن.. وسنغني هناك تحت رايات الحرية والعدالة، ونرقص على أنغام الديمقراطية.. وهنا تدخلت في الحديث نورة، وقالت أنا لدي حلم إننا سنعود إلى هناك ووطننا قد توشح بالحرية.. إننا نستحق ذلك.. وشعبنا الصابر يستحق أن ينعم بالرفاهية والديمقراطية، حتما سيزول الطغيان.. وعند تدفق هذه الكلمات التي أحسست أنها تخرج من أعماقها.. جعلتني اكثر يقيناً بأمل العودة.

شاهد أيضاً

مواضيع مجلة الناقوس – العدد العاشر- شخصية العدد

الشهيد سليمان ادم سليمان.. عاش انسانا ومناضلا.. أعده / الأستاذ محمود أفندي تغوص بك عزيزي …

مواضيع مجلة الناقوس العدد التاسع-الملف الثقافي

مَن الذي اخترع الربابة البجاوية.. ولماذا اسماء اوتارها بالبداويِّت وليست بالتقرايت؟ بقلم عبد العزيز ابراهيم …

من مواضيع مجلة الناقوس-العدد التاسع

مقالات ليس إنسانا من يحبس صوت المغني…! بقلم: يبات علي فايد كان الرجل الأسمر الطويل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *