من مواضيع مجلة الناقوس-العدد التاسع

مقالات

ليس إنسانا من يحبس صوت المغني…!

بقلم: يبات علي فايد

كان الرجل الأسمر الطويل الأنيق، الهادئ، الذي يمر في طريقه إلى محطة فرا فيشو التي يتقاسمها حيا الترعة جنوب، والترعة شمال، كون الذي يفصل بين الحيين هو شارع الأسفلت هذا الذي تظلله أشجار النيم عن يمينه ويساره، ذلكم الشارع الذي يشق الحيين في مسيره بُعيد محطة فرا فيشو متأبطا بيمينه مقابر الحسن والحسين، وبشماله الزريبة وسوق الحدادين قبل تفرعه إلى حي القوازة ثم الختمية يمينا، وحلة كراي في استقامته، والشعبية يسارا، كان ذلكم الرجل الأسمر الشامخ يمر في طريقه ذاك بشارع بيتنا في الترعة جنوب مشيا إلى محطة فرافيشو مستقلا البرينسات، أو الباصات إلى السوق أو إلى الاتجاه المعاكس في مشاويره. ذات الطريق كانت كثيرا ما تمر به امرأة جميلة، بشوشة، حلوة الابتسام والمعشر، تدعى زينب. ربما كان مرورها إلى كشكي الملحمة الَّذَيْن بالمحطة، أو نساء الخضار اللواتي كن يفترشن الأرض في المربع الثاني قبيل الشارع في ظل البيت الذي يقابل بيت عمنا حسين راجح سابقا، ثم لاحقا بيت عمنا يوسف دوكه. كانت هذه الجميلة هي زوجة ذلك الرجل الجميل، الفنان إدريس محمد علي، التي ربما عانت من ضرتها كثيرا، وما تزال، ولم تكن ضرتها إلا ارتباط الفنان إدريس محمد على بالفن، وبإرتريا، تلكم المحبوبة التي ابتلى الله بحبها خيرة شبابنا، وأبطالنا، وما يزالون.

ثم إن مما يحكى في تاريخ شرق السودان، وتاريخ إرتريا، أن بعض الشفته، تعرضوا لقوافل النساء اللواتي ذهبن يعزين ويبكين سيدنا الأمين، الرجل الصالح. فنفر شباب من أبنائنا إلى الدفاع عن الحق، وحماية الناس من الشفتة التافهين أولئك. ثم قويت شوكة تلكم المجموعة بعد الانتصارات التي حققوها، مما أخاف منهم الطليان حينذاك، فحوربوا، وكان ممن وقع بأسر الطليان عازف للربابة. وقيل أنه قبيل إعدامه تمنى أمنيته الأخيرة، وهي أن يسمح له بالعزف على ربابته، وقد كان.

وظل هذا الفنان يعزف ليلته الأخيرة تلك في ربابته، ودهش حارسه ألا ينام هذا الفتى، وأن يظل في آخر ليلة له يعزف ولا يتوقف عن العزف.

يقال أن السجان رفع قصته إلى الضابط المسؤول. ولما سأله الضابط المسؤول عن شأن عزفه الليل كله، أخبره الفنان أنه كان يصور في عزفه قصة مأتمه وأصحابه، فصور فيها كيف ندبنهم النساء، كما صور فيها كلمات سادة قومه وكبرائهم في نعيهم لهم، ونقل خبرهم لأحبتهم عامة. كما صور كل المشاهد الحزينة في يوم موته، من ضرب على الدفوف، وغناء، وتعديد مآثر، الخ…

فما كان من الضابط الإنجليزي إلا أن عفا عنه، وكتبت له حياة تقديرا لفنه هذا.

أما ضابطنا، فلم يراعِ لفناننا فنه، ولا نضالاته الطويلة مغنٍ عظيما، وهذا شأنه مع كل رفقاء دربه، غدر بهم واحدا واحدا، وثلة ثلة، وجماعة جماعة، ثم يأتي من يزكيه، ويرفع شأنه.

من يمنع المغني الغناء ليس ثمة ما هو أسوأ منه.

من يحبس أنفاس المغني ليس بإنسان.

شاهد أيضاً

مواضيع مجلة الناقوس – العدد العاشر- شخصية العدد

الشهيد سليمان ادم سليمان.. عاش انسانا ومناضلا.. أعده / الأستاذ محمود أفندي تغوص بك عزيزي …

من مواضيع مجلة الناقوس العدد التاسع – الملف الثقافي

قصة قصيرة دروب مجهولة (٢) بقلم أبو محمد صالح  صمت الجميع، صمت أعقبه صراخ، الكل …

مواضيع مجلة الناقوس العدد التاسع-الملف الثقافي

مَن الذي اخترع الربابة البجاوية.. ولماذا اسماء اوتارها بالبداويِّت وليست بالتقرايت؟ بقلم عبد العزيز ابراهيم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *