الجزء الثالث والاخير
أجرى الحوار: الصحفي محمود أفندي
متابعة ما نشر:
بدوري سالته عن أسباب تهمته فقال… لي يائسا بلغة التقرايت هي نفس المشكلة التي وقعت فيها أنت،
وبما أنك قادم من سجون اسمرا … أسمح لي أن اسألك عن شخص ما؟ فقلت له تفضل، قال لي: هل قابلت شخص اسمه عبدالله علاج … قلت له هذا الشخص بخير وصحه جيدة وأعطيته الأوصاف كاملة، فرح الرجل فرحة عظيمة، وقال لي الله يبشرك بالخير هذا خبر سار جداً، وقد كان هذا الشخص هو الأخ عمر مسلم، وسألني بهذا السؤال لأن اعتقالي كان حديث مدينة كرن، وصادف نفس الصباح الذي تم اعتقالي ودخولي الى المستشفى العسكري في كرن خروج جثة مجهولة محمولة على اكتاف عمال المستشفى والذهاب بها الى المدافن، ومن هنا اعتقد سكان مدينة كرن بأن الجثة المجهولة هي جثة عبدالله علاج، وانتشر الخبر وعم المدينة حتى وصل الخبر إلى جبهة التحرير الإرترية، وبدورها نشرت خبر استشهادي في مجلة دورية كان قدم لي المناضل حسن إيمان نسخة منها بعد خروجي من السجن، وقرأت فيها خبر استشهادي. (2)
- حدثنا عن السجن الأخير وحيثيات الحكم ويوميات السجناء السياسيين؟
بعد التنقل بعدد من السجون بين أسمرا وكرن استقر بي المقام في سجن (سمبل)، ولكن دعني أكمل لك جزئية بسيطة تتعلق بسجن (شيشتا) بكرن الذي مكثت فيه شهرا كاملا،
ففي آخر صباح من صباحات هذا الشهر، جاء ضابط يحمل ملفات كثيرة ويصيح بأعلى صوته أمام الزنزانة عبدالله سعيد علاج جهز اغراضك!!!
هنا كانت المفاجأة والفرحة في نفس الوقت للأخ عمر مسلم لكنه صاح قائلا وبشكل هستيري بالتجرايت ان شاء الله تخرج ذي الشعرة من العجين …. ودعتهم وطلبت منهم العفو بعد أن مكثت معهم أيام مازالت عالقة بالذاكرة.. وقلت للأخ عمد مسلم أعذرني …وداعا وسوف نلتقي لو مد الله في الآجال.
عوداً لسؤالك في سجن سمبل وقصة حكم المؤبد، هذا السجن قصته مختلفة إلى حد ما لأنه وفي اليوم الثاني مباشرة تم تقديمي للمحكمة العسكرية وأمامي ثلاث قضاة ومدعي عام ومحامي يترافع عن قضيتي،
استمع القاضي لأقوال الشهود وهو أحد العساكر الذين حضروا المعركة التي تم اعتقالي فيها، ورفعت الجلسة في الجلسات التالية عدة مرات لأن الشهود لم يحضر، ويبدو أن الشهود كان قد توفى بعد أن أدلى بأقواله في الجلسة الأولى، وبذلك قرر القاضي في الجلسة السادسة قرار الحكم بالسجن المؤبد، ومنحني فرصة للاستئناف، وسألني محامي الدفاع هل لك اعتراض على الحكم؟ قلت له ليس لدي ما أقوله، قل ما تراه مناسب.. وفي نهاية الأمر ثبت قرار الحكم المؤبد.
وما يحز في نفسي اليوم بأن المستعمر الجائر كان يعقد جلسات للمحاكمة ويكلف محامي الدفاع عن المقاتلين والسياسيين وكافة السجناء الذين كانوا يعارضونه، ويحملون السلاح في وجهه، لكن اليوم وبعد تحرير البلاد أصبح الوطن تحكمه عصابة لا تتقيد بالأعراف والقوانين، ضاربين عرض الحائط بالمؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وأصبح مصير المواطن مجهول، لا احد يعلم بمكان اعتقال المغيبين قسرا في سجون هذا النظام لعقود، وهي مفارقة غريبة وعجيبة جداً!!
وأذكر ذات مرة كنا مجموعة نتناقش بخصوص المغيبين دون محاكمات في سجون النظام، البعض منا كان يقول لماذا لا تلفق لهم أي تهم ويحاكموا على أساسها بدلا من هذا التغييب والصمت؟ وكان معنا المرحوم الفنان عبى عبدالله الذي قال ساخراً: إن سجون النظام ليس لها لوائح ومواد قانونية هؤلاء المغيبين عندما يسلمهم المناوب في الصباح للذي يخلفه في المناوبة يصنف له السجناء حسب الجرائم التي ارتكبوها، لكن عندما يأتي للمغيبين يقول له: أما هؤلاء ال (لقمظتي) ليس لهم أي فقرة قانونية تحكمهم.
- قبل عملية اخلاء الثوار لسجن سمبل الذي كان يعج في تلك الفترة بعدد من المعقلين السياسيين والمدنيين، كيف كان يمضي الوقت بينكم، حدثنا عن يومياتكم وعلاقاتكم، ومن المهم والضروري ان تكون بينكم احاديث عن هموم الوطن، وهل كانت الفرص متاحه لمثل هذه الأحاديث؟
اغلب السجناء كانوا من السياسيين والمدنيين والناشطين في خلايا العمل السري منهم المناضل محمود سبي والمناضل محمود فرس وهيلي درع، كما كان يضم مقاتلين منهم المناضل سعد فكاك الذي تم اسره في معركة وآخرين اعتقلوا في قراهم بوشايات العملاء، وكذلك مدنيين وطلاب تم اعتقالهم أثر عملية اغتيال جنرال بالعاصمة اسمرا كان قد اشرف عليها الشهيد عمر محمد، عموما المعتقلين كانوا من كافة فئات المجتمع والقائمة طويلة لا يسع ذكر اسمائهم جميعاً في هذ السانحة.
ولكن انتقل بك للإجابة على سؤالك عن يومياتنا وعلاقاتنا ودورنا الوطني داخل السجن، حقيقة أن هذه الفترة كانت قد شهدت تحولاً كبيرا حيث تم سقوط نظام الامبراطور هيلي سلاسي وانتقل الحكم إلى نظام الدرق، وأذكر هنا بدأت مفاوضات بين الجبهة والنظام الجديد في إثيوبيا عبر وسيط ثالث لاطلاق سراح مناضلين مقابل اثنين من الطيارين أحدهم امريكي والآخر اثيوبي وقعوا في الاسر لدي الجبهة بعد أن تم الاستيلاء على استولت الجبهة على المروحية التي كانوا يقودونها، وقد وصلت هذه المفاوضات إلى مراحل متقدمة بحيث يتم إطلاق سراح سبع مناضل ليس فقط من سجن (سمبل) بل من سجون (عدي خالا) و(ألم بقا) وغيرها من السجون. لكن بعد وصول أمان عندوم لسدة الحكم انقطعت المفاوضات بحجة أنه لا يعترف بوجود أسرى اثيوبيين، وإذا كانت أمريكا لديها أسيراً فلتتفاوض هي مع الجهة التي اعتقلت مواطنها.
- كيف كنتم تتحصلوا على هذه المعلومات خاصة المفاوضات التي كانت تجري بين الطرفين وأنتم داخل المعتقل؟
حقيقة هذا السؤال مهم جدا وهنا لابد من ذكر الدور الكبير الذي كانت تلعبه الاخت الفاضلة عرفات سعد زوجة الأستاذ محمود هنقلا، هذه الإنسانة الوطنية المخلصة الشجاعة لم تكل ولم تمل عن زيارتنا، ليس هذا فحسب، بل هي التي من كانت تمدنا بالمعلومات والاوضاع في الميدان وسير المفاوضات بين الطرفين التي ذكرتها آنفا.
- ماذا عن حراككم داخل السجن؟
كنا نناقش قضايا الوطن بالتأكيد وكما اسلفت لك كنا على علم بما يجرى عبر المعلومات التي كانت تصلنا من خلال الاخت عرفات سعد واخرين، وبخصوص الزيارات في السجن أحب أن اذكر زيارتين: الاولى كانت لوالدي سعيد إدريس التي فاجأني بها دون سابق انذار، وكانت بالنسبة لي صدمة في نفس الوقت لأن والدي كان قد هرب إلى السودان خوفا من ملاحقات جواسيس الاستعمار، وكما يقول المثل العربي :- ( قلبي على ولدي وقلب ولدي على حجر)، ولهذا لم يخاف الوالد على نفسه بل حقق أمنيته وعاد إلى أهله سالما، أما الزيارة الثانية فقد كانت للأخ/ أسناي ضرار علي شيخ، هذين الزيارتين تركتا في نفسي أثراً كبيراً.
في هذه الفترة كان قد اطلق النظام الجديد في اثيوبيا سراح السجناء السياسيين الاثيوبيين وعلى هذا الاساس اقترح علينا مدير السجن بأن نتقدم بمذكرة نطلب فيها العفو العام، وهنا انقسم المعتقلين إلى مجموعتين: الأولى رفضت الفكرة وقالوا نحن لم نرتكب جرما حتى نطلب العفو وكانت تضم شخصي وقرزقهير تولدي وجميل أمان وسيوم عقبى ميكائيل ومجموعة من معتقلي الجبهة، والمجموعة الاولى كانت أكثر عدداً من الأخرى، أما المجموعة الثانية التي رحبت بالفكرة كان على رأسها هيلي درع.
في هذه الفترة استغل مدير السجن هذا الاختلاف وبيت النية السيئة للمجموعة التي رفضت فكرة العفو العام، خاصة بعد انقطاع عملية المفاوضات، حيث تم تسريب أسماء بعض المقاتلين الذين وردت أسماؤهم ضمن قائمة المفاوضات ولهذا كان قد بيت النية السيئة لهم ولجميع المجموعة التي رفضت العفو العام.
لكن شاءت الاقدار وتم نقل مدير السجن إلى أديس أبابا وحل محله مدير آخر من أصول إرترية اسمه ولد هيمانوت، وهنا تغير الوضع في السجن تماما وتنفس السجناء الصعداء ليس هذا فحسب بل قام بالتواصل والاتصال مع قيادات الجبهة وتوصل معهم في وضع خطة لإطلاق سراح السجناء، وعلى أساس هذه الخطة شرع الرجل في تخطيط وتنظيم كيفية إخلاء السجن بالتنسيق مع الجبهة، وبعد أشهر قليلة اكتملت الفكرة وانتهت كافة الاجراءات الاحتياطية وحان الوقت لوضع ساعة الصفر .
- يقال بأن الجبهة كانت قد وضعت أيضا خطة بهجوم لاقتحام سجن (عدي خالا) في نفس توقيت عملية اقتحام سجن (سمبل) لكنها لم تنجح ما هو السبب؟
هذا صحيح الخطة كانت معدة لإكمال العمليتين في وقت واحد، وقد تمت عملية عدي خالا بنجاح في نفس التوقيت الذي كان محدد لها، لكن مجموعة الثوار الذين تم تكليفهم اقتحام سجن سمبل اخطأوا الطريق وفشلت الخطة في وقتها.
نتيجة لنجاح عملية سجن (عدي خالا) بدأ الجيش الاثيوبي يأخذ حذره حتى لا تتكرر عملية اقتحام السجون مرةً أخرى، وعقد بهذا الخصوص اجتماعا طارئاً مع مدير السجن ولد هيمانوت لتشديد الحراسات وإضافة قوات احتياطية داخل وخارج السجن، لكن دهاء وحكمة ولد هيمانوت نجحت في إقناعهم وأوضح لهم في الاجتماع بأن هنالك اختلاف بين سجن (عدي خالا وسمبل) من حيث الموقع وغيرها من الأسباب الامر الذي جعلهم يتخلوا عن فكرة تشديد الحراسات وصرف النظر عنها.
- وصلنا الى خواتيم الحوار ومع محاولة نجاح أخرى لعملية اطلاق سراح سجناء سجن (سمبل) هل لك أن تشرح لنا تفاصيلها؟
الغريب في الامر في عصر اليوم الثاني الذي فشلت فيه العملية قام مدير لسجن ولد هيمانوت بزيارات برفقة نائبه خليفة على العنابر ويقول لنا كونوا على استعداد سوف نبدأ في عملية اخلاء السجن، وبعد أقل من نصف ساعه جمعنا كل المفروشات بالاتجاه الخلفي للسجن لتسهل لنا عملية الصعود للجدار وتمت العملية بنجاح واستقبال حافل في منطقة (هزقا).
- الآن هل هناك أي تواصل بين المعتقلين الذين كانوا في المعتقل في تلك الفترة؟
التواصل موجود وعملنا قروب وعقدنا لقاءات عبر خدمة الزووم، ولدينا فكرة لعمل وثائقي نعرض من خلاله الممارسات والمعاناة التي كانت تواجهنا أتمنى أن ترى النور.
ـ كان الحوار ممتعاً وشيقاً مع المناضل عبدالله علاج حول ذكرياته في المعتقل، وكان بجعبتنا العديد من الاسئلة التي لم نتطرق لها عن حياته النضالية قبل وبعد الاعتقال، لأننا حصرنا الحوار حول فترة سنوات الاعتقال ، سعدنا بوجوده معنا في هذه المساحة التي سلط من خلالها الضوء على تجربة مريرة وقاسية قضاها في سجون المستعمر الجائر، والتي انتهت بعد أن تكللت بنجاح عملية الهجوم التي نفذوها أشاوس جبهة التحرير الإرترية الابطال، واطلقوا فيها سراح المناضل عبدالله علاج ورفاقه، ومازال المناضل عبدالله وفياًً للوعد الذي قطعه على نفسه منذ ريعان شبابه، داعياًً لانتهاء هيمنة النظام الجائر الذي سرق نضالات شعبنا وتضحياته الجسيمة، متمنين أن نلتقيه في مساحة أوسع لنأخذ من معينه النضالي الذي لا ينضب .