من كتاب ” صمود الهويات ودحض المفتريات ” الفصل الثالث (2)

sumud

الفصل الثالث:إطلالة على الهوية الثقافية والاجتماعية لسكان الهضبة الإرترية (2)

طقوس ثقافية ودينية واجتماعية متوارثة في الهضبة الإرترية

من الطقوس الثقافية والاجتماعية لسكان الهضبة الأرترية الأرثودوكس اعتماد كل قرية من القرى يوم معين في السنة واعتباره عيد القرية للاحتفاء بالكنيسة المحلية على روح القديس الذي تحمل الكنيسة إسمه حيث تعطى كل كنيسة اسم من أسماء القديسين مثل ( قدوس ميكائيل – قدوس قرقيس – قدوس تاتسيوس – قدست مريم   قدوس جبرئيل الخ) وكلمة قدوس تعني القديس أو المقدس.ويحضر هذه المناسبة حتى أبناء وبنات القرية البعيدين عنها بسبب العمل أو السكن. وتدعى في هذه اليوم القري المجاورة للمشاركة في الاحتفال وتقوم كنيسة القرية بواجب القداس والترتيبات الدينية.ويتميز قداس الأرثودوكس بإيقاعاته الإنشادية التي يقوم بها القساوسة وهم بعمائمهم البيضاء وبردهم العتيقة الملونة والمزخرفة بخيوط ذهبية اللون. وفي قداس الهواء الطلق ذلك يهتز القس أو الكاهن بشكل يشبه الرقص على أنغام  الطنابر والأجراس والدفوف. ويلبس الأطفال والنساء والكبار ملابس جديدة في عيد القرية ( يطلق عليه بالتجرنية عـوْدي عامت) ويعني عيد العام . وتشكل لجنة لهذا الغرض لتوزيع الوفود القادمة من القرى المجاورة والبعيدة على مساكن القرية لتناول الغداء، وتستمر الاحتفالات الراقصة والغناء الشعبي والقداس الديني من 24 إلى 48 ساعة متواصلة.

وفي الأيام العادية يزور المتدينين من النساء والرجال الكنيسة يوم الأحد من كل أسبوع إلا أن القساوسة لا يغيبون عن الكنيسة لفترات طويلة وبعضهم لا يبرحون الكنيسة معظم أوقاتهم.

ومن الثقافة الخاصة بالزواج لا يقترن الأقارب مثل أبناء العمومة أو أبناء الأخوال أو الخالات حتى الجد السابع ويفضل معظمهم الزواج من القرى المجاورة . بعض أنواع الزواج في الماضي كان يترتب عليه خطف العروس من الطرقات بالتفاهم مع ذويها وغالبا تبلغ الفتاة حتى لا تفاجأ. ويحدث الاختطاف إما وهي ذاهبة إلى العين أو قادمة منه أو ذاهبة إلى  المدرسة أو من أي مكان خارج منزل ذويها وتزف قسرا إلى منزل الزوجية بهيئتها التي خطفت بها فوق بغلة يقودها شخص أو شخصين من ذوي العريس وتحمل إلى قرية العريس . والميسورين منهم يقيمون وليمة العرس فيما بعد. ولا أدري هل هذا النوع من الزواج موجود إلى الآن ام اختفي .

ومن ثقافة المآتم والأتراح يدفن الأموات في مقابرعميقة بجوار الكنسية ويبلّغ سكان القرى المجاورة ليلا أو نهارا لحضور مراسم الدفن في اليوم التالي من الوفاة، والمتوفي خارج القرية يرتب له ليتم دفنه في مقابر قريته بقدرالمستطاع وإن كلف ذلك كثيرا من الجهد والمالً.

وتعتبر الكنيسة المركز الأهم  في القرية حيث تقوم بجميع الخدمات الدينية من تعميد المواليد وتسميتهم ومباركتهم إلى تشييع الموتى وعقد القران ومباركة المتزوجين . وكانت الكنيسة قديماً تقوم بحفظ سجل المواليد والوفيات والزيجات إلا إن هذه المهمة أوكلت إلى مسليني الحاكم ( ممثل الحاكم ) (شيخ القرية) بعد قدوم الاستعمارالإيطالي.

لدي بعض الكنائس والأديرة العريقة ثروة ضخمة تتمثل في الأراضي الزراعية والمواشي يقوم على رعايتها طلاب الكهنوت بالدير. وللقسيس إحترام خاص في القرية ودائماً يدعى من قبل أسر القرية لتناول الطعام والدعاء أو لنصح مريض قبل وفاته ليكشف عن كل أسرار حياته قبل الموت وتسمى هذه المكاشفة (منّزاز).

ومن ثقافتهم في الملبس يفضلون الملابس البيضاء  في المناسبات والأعياد ذكورا وإناثاُ وحتى في الأيام العادية تفضل الإناث في الأرياف الزي الشعبي المعروف ب “زوريا” يتألف من فستان وطرحة بيضاء . القماش الأعلى رقيق ببطانة كثيفة مع تطريز دائري على حافة الفستان السفلى وتطريز طولي على شكل صليب في الجهة الأمامية يبدأ من أسفل الخاصرة .أما الطرحة تكون عريضة ومطرزة بعض الشيء من الأطراف. والزي الشعبي للذكور أيضا أبيض ويسمى “إج طباب” وتعني ضيق اليد. وفي المأكل الإنجيرا وهي شبيه باللحوح اليمني أو الكسرة السودانية إلا أنها أكثف وأكبر قطرا وتصنع من حبوب الطاف أو الذرة الرفيعة أو الذرة الشامية وأيضا القتشا ( خبيزة عريضة) تصنع من القمح أو الشعير وهي القراصة الصباحية بالتجرنية للفطور (يلفظ قورسي)  والحنباشا وهي أكثف من القشا وتصنع من القمح أو من الذرة الشامية ، وبعضهم يفضل العصيدة  للمناسبات يسمونها (جعت) ربما محرفة من( الجعة) وتصنع من القمح.

ومن الإيدامات المشهورة الزقني والشيرو والأليشا ( والأخير طرشي مطبوخ يؤكل في موسم الصيام) . ومن المشروبات المشهورة القهوة من البن والبرزي يصنع من الحلبة  – والمِيس يصنع من العسل والسوا ويصنع من الحبوب والأخيران مشروبان مسكران.

ومن الثقافة التربوية لا يسمح للصغار بالأكل مع الكبار ويأكل ما بقي من أكل الكبار. يربون الصغار على العمل منذ الصغر بدعوى تربيتهم على الاعتماد على أنفسهم عند البلوغ، وعلى الكدح نظرا لظروف المنطقة المعيشية والاقتصادية وتعمل المرأة في المنزل والحقل معا. عموما يؤخذ على ثقافة الهضبة الإرترية قساوتها على المرأة والطفل خلافا لثقافة المنخفضات الإرترية المتأثرة بالتعاليم الاسلامية.

لدى السكان رغبة كبيرة للتعليم النظامي العصري منذ عهد الانتداب البريطاني أما في العهد الإيطالي لم يستفد أبناء الأرثودوكس من خدمات المنصرين كثيرا بسبب اختلاف المذاهب خلافا لأبناء الذين تحولوا إلى المذهب الكاثوليكي أو البروتستاني الذين استفادوا كثيرا من الخدمات التعليمية والخدمات الأخرى التي كانت تقدمها المنظمات التنصيرية.

تطور اللغة التجرنية 

التراث الشعري والنثري لسكان الهضبة الأرثودوكس كان يعتمد على اللغة التجرنية المنطوقة . رجال الدين ودارسي الكهنوت هم فقط المعنيين بحفظ وتعليم النصوص الدينية بلغة الجئز القديمة . وتعتبر التجرنية الوريث الشرعي للغة الجئز وحروفها لأن موطنها هو ذات المنطقة التي سادت فيها لغة الجئز قديما وهما منطقة تجراي الإثيوبية والمنطقة المعروفة بالهضبة الإرترية حالياُ.

تأثرت اللغة التجرنية بلغة الأجوْ الحامية قليلا بعد نزوح قبائل الأجو من إثيوبيا إلى الهضبة الإرترية إلا أنها حافظت على خصائصها السامية . ذابت قبائل ” أجو” في النسيج  الثقافي واللغوي للهضبة الأرترية مثل من سبقهم من الأقوام الحامية.

ومن أوائل النصوص المكتوبة بالتجرنية نجد ” قانون لوجو طيوا ” وهو قانون عرفي تعارف عليه كبار القوم ” الشماقلي ”  ُيعني بترتيب الأحوال المدنية لعشائر لامزا وظوا وهم سكان المنطقة الواقعة شمال سرايي إلى الجنوب من أسمرا وتم ذلك في القرن التاسع عشر الميلادي. بعد تلك النصوص العرفية توالت الكتب الدينية والأدبية والتاريخية والتعليمية باللغة التجرنية.

بعض الباحثين الأوروبيين أبدو الاهتمام بدراسة اللغة التجرنية منهم كونتي روسيني ومورو داليونيسا وبراتوريوس وفرانسيسكو دا باساتو ولاسيلا وكتبوا عدداً من الكتب والقواميس عنها.

وكتب اسحق قبريسوس (من سقنيتي) عدداً من الكتب ذات الطابع الديني وبعض الكتب التاريخية والقصصية منها كتيب للأطفال بعنوان ” مرقوساي ويني حمباشاي” ومعناها مرقص والخمرة والخبز.

ساعدت الصحف في عهد الانتداب البريطاني في تطويرالتجرنية حيث أوجدت مفردات مناسبة لأدب الصحافة.

ومن مثقفي الهضبة الإرترية الأوائل الذين اهتمو بتطويراللغة التجرنية في القرن العشرين، يذكر ولد آب ولد ماريام وقبرتنسائي حقوي واسرسي تسما وآخرين.

وتم تأليف أول كتاب مدرسي نظامي باللغة التجرنية بقلم اسحاق تولد مدهن في عام 1946 م حيث اعتمدت اللغة التجرنية للتعليم الإبتدائي في الهضبة الإرترية لأول مرة خلال الانتداب البريطاني واستمرت حتى نهاية العهد الفيدرالي ثم عادت للاستخدام كلغة تعليم الأساس بعد الاستقلال الإرتري.

اعتماد اللغة الأمهرية كلغة تعليم في الهضبة الإرترية

منذ الأربعينيات من القرن الماضي كان تياراً متزمتاً من حزب الاتحاد مع إثيوبيا في الهضبة  يرى ضرورة اعتماد اللغة الأمهرية للتعليم في الهضبة وإثيوبيا – قبل ضم إرتريا  . كان ذلك ربما بتأثير الرشاوي التي  كان يقدمها ممثل الإمبراطور لبعض النخب السياسية أو لخوف هؤلاء النخب من أن لا تجاري التجرنية اللغة العربية فيفرض على أبناؤهم تعلم اللغة العربية، وهو ذات التيار الذي عارض بقوة إدراج اللغة العربية كلغة رسمية في الدستور بعد إقرارالاتحاد الفيدرالي مع إثيوبيا، والذي تحمّس لإحراق الكتب المدرسية التي طبعت باللغة التجرنية والعربية لاستبدالها بالأمهرية بعد الإنضمام القسري إلى إثيوبيا.

لم تقابَل إجراءات إحراق الكتب المدرسية بالرفض الذي تستحقه من قبل أهل الهضبة المسيحيين بل اعتبر الأمرعاديا بعكس ما أبداه المسلمين في المنخفضات الإرترية من رفض ومقاطعة المدارس الإثيوبية التي اعتمدت الأمهرية لغة للتعليم الإبتدائي .

حدث ذلك لأسباب سياسية أو ربما بسبب وحدة الحرف والمذهب الديني وتقارب الهوية الثقافية. وهنا مرة أخرى فقد لعب العامل الثقافي في المنخفضات الإرترية دوره للوقوف في وجه إثيوبيا منذ الوهلة الأولى عندما خرقت الاتفاقيات الخاصة بالاتحاد الفيدرالي منها إعتماد اللغات الإرترية الوطنية للتعليم والعمل.

بعد الانضمام القسري إلى إثيوبيا اعتمدت اللغة الأمهرية بكل سهولة ويسر في مدارس الهضبة الإرترية التي تقطنها أغلبية مسيحية خلافاُ لما شوهد في مناطق المنخفضات الإسلامية من أرتريا من رفض منقطع النظير للإجراء ات التذويبية التعسفية التي ظهرت من جانب إثيوبيا. تجسد الرفض بترك الطلاب المدارس بموافقة أولياء الأمور والتحول إلى المعاهد الدينية أو مقاطعة التعليم نهائيا أو الذهاب إلى السودان لمواصلة التعليم . واستفاد الطلاب الذين ذهبوا إلى السودان من أبناء المنخفضات الإرترية في ذلك العهد هربا من اللغة الأمهرية حيث يعملون اليوم في شتى مرافق الحياة في السودان والخليج العربي وأوروبا وأستراليا. إلا أن الأغلبية الساحقة تضررت من استبدال لغة التعليم وما تلاها من رفض وأثر ذلك فيما بعد على جيل كامل من شباب المنخفضات الإرترية . بعد فرض الأمهرية كلغة تعليم انخفض أعداد الطلاب في مناطق المنخفضات الإرترية إلى 25 %مما كان عليه قبل استبعاد اللغة العربية ولم يتأثر التعليم وعدد الطلاب في مناطق الهضبة ذات الأغلبية المسيحية بعد تلك الإجراءات.

 

..

..

..

شاهد أيضاً

تهنئة

بمناسبة عيد الفطر المبارك تتقدم رابطة ابناء المنخفضات الإرترية للشعب الإرتري الأبي بأصدق التهاني القلبية …

الاعلام بين الماضي والحاضر

بقلم محمد نور موسى ظهر الإعلام الإرتري مع ظهور الحركة الوطنية الإرترية في مطلع أربعينات …

من مواضيع مجلة الناقوس-العدد التاسع

سعدية تسفو فدائية من جيل آخر! نقلا من صفحة الاستاذ ابراهيم حاج لترجمته من كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *