مَن الذي اخترع الربابة البجاوية.. ولماذا اسماء اوتارها بالبداويِّت وليست بالتقرايت؟
بقلم عبد العزيز ابراهيم
هذان السؤالان استوقفاني برهةً من الزمان وأن العثور علی إجابةٍ لهما كان أمراً عسيراً غير يسير، ولكني عزمتُ على البحث ليؤتي كل ذي حقٍ حقه، والحمد لله وجدتُ الإجابةَ الصحيحة التي لا يراودني بعدها الشك والقارئ كذلك. فالعازف الذي اخترع الربابة البجاوية هو البجاوي البَلَوي وَدْ مِسَنْغو (مِسَنغو أور) وهو أول من عزف عِيقايِّبْ قاشِيايْ ولكن البعض من العازفين يقولون إن أول من عزف ال(عيقايب) هو همدين عيسى، وهذا غير صحيح، بل أخذُ الحق بالباطل، فهمدين عيسى منتحل وليس مخترعاً. ولقد جاء بعد ود مِسَنْغو، رجلٌ من البيت معلا وابتدع (بيساي ورار) ذلك الوتر الجنوني الذي إذا سمعه البجاوي اقشعر بدنه ونفش شعره. سميَ هذا الوتر بهذا الإسم (بيساي ورار) لأنه عُزِفَ ويُعزَفُ لحث الفرسان على الغزو والقتال، فإذا سمعوا هذا النداء استردوا ما قد نُهبَ من الأنعام والمال. ومن منا لا يعرف (عَدْ ورار)! سراة القوم الذين ينتسب إليهم ذلك المبدع الفذ.
لم يتوقف عطاء أولئك الرجال عند هذا الحد، إذ قفَّی التاريخ على آثارهم بمبدعٍ آخر وهو الرجل الهمام والمقاتل المقدام سعيد نافع اللابِياع (الاسفدا) الذي عَزَفَ حركة بقرته وعجلها على آلة الربابة وأطلق على هذا الوتر اسم هَبْرَمْ (اسم بقرته). أنه لا يقل شأناً عن الذين سبقوهُ إلى ابتداع هذا التراث العتيق والفن العريق، الذي جعلنا مرفوعي الرؤوس فخراً واعتزازا.
هذا ولقد يحسنُ بنا أن نشرع في الإجابة عن السؤال الثاني والأخير، وهو: لماذا اسماء أوتار الربابة بالبداويِّت وليس التقرايت؟ إننا قد نظن أن الإجابة عن هذا السؤال ليس امراً سهلاً لنجد له إجابة في طرف اللسان وما سطرته البنان، ولكن إذا ألقينا نظرةً على أسماء المبدعين الذين أسلفنا ذكرهم في الأسطر أعلاه، نجد أن الإجابة الصحيحة تكمنُ في أسمائهم، أعني أنهم من البني عامر وأنهم كانوا يجيدون كلتا اللغتين، إلا أن لغة البداويت في مقاطعتيْ القاش وبركه كانت شبه طاغية على لغة التقرايت، ويبدو أن العازفين الأولين من البني عامر أطلقوا اسماءً على تلك الأوتار بلغة البداويت تسهيلاً للذين لا يجيدون التقرايت .ولا بد أن نذكر معقولة الشيخ مصطفى بن حسن الشهيرة تعزيزاً لأدلتنا. قيل أن رجلاً يتحدث التقرايت جاء إلى الشيخ مصطفى ممتطياً بعيراً له، وطلب منه أن يدعو له بالمال والولد، وكان الشيخ مضيوفاً فأمرَ الرجل أن ينحر بعيرهُ للضيوف، ولكن الرجل رفض أمر شيخه قائلا: ما جئتك لتأمرني بنحر بعيري لضيوفك. وانصرف راغباً عن الدعاء الذي جاء طالباً له. وبعد بضع ساعات جاء رجلٌ آخر يتحدث البداويت راكباً على جملٍ له وطلب من الشيخ أن يدعو له بشيءٍ كان يرغبُ فيه فأمره الشيخ مصطفى أن ينحر جمله، ففعل الرجل ما أُمرَ به ونحر الجَمل للضيوف. فسُرَّ الشيخ بما فعله هذا الرجل. وقال لمن كان حوله من الوفود (اصَبوحْ إبْ بداويت تَهاقَوْ) يعني تحدثوا البداويت صباحاً. قال ذلك متفائلاً بكرم الرجل، وهذا القول لا يعني أبداً أن من تحدث غير لغة البداويت فهو بخيل، وقد حدد الوقت الذي ينبغي أن يتحدثوا فيه البداويت قائلاً: صباحاً، إلا أن سكان المنطقة جعلوا يتحدثونها في كل زمان ومكان، تيمناً وتفاؤلاً بمعقولة الشيخ مصطفى، وهذا ما جعلهم يتأثرون بلغة البداويت رغم انهم يجيدون التقرايت إجادة تامة.