الجزء الثاني
أجرى الحوار: الصحفي محمود أفندي
متابعة :
- ماذا حدث لك بعد نجاح العملية التي أجراها لك الدكتور اليوغسلافي؟
بعد ثلاثة اسابيع من اجراء العملية الجراحية حضر الى المستشفى إثنين من الضباط معهم رسالة مضمونها تحويلي الى سجن تابع لقوات الاسلحة الثقيلة في منطقة فورتو، وبالرغم من اصرار الدكتور اليوغسلافي ببقائي فترة ثلاثة أشهر لإكمال العلاجات إلا أنهم أجبروا الدكتور على توقيع إذن الخروج وأخطروه بأن هذا الامر صادر من الجنرال طلاهون الذي كان قائد المنطقة حينها، لم يجادلهم الدكتور، بل اكتفى قائلا هذه وجهة نظري الطبية وفق حالته الصحية، ولكن أنتم من جئتم به وبإمكانكم أن تأخذوه أيضا.
لم يستمر الحديث بضع دقائق حيث دفعوا بي في عربة لاندروفر عسكرية توجهت بنا صوب الفورتو ذاك المعسكر التابع لقوات الاسلحة الثقيلة، حيث زجوا بي في غرفة بها مدخل واحد لكنها مقسمة من الداخل الى زنازين صغيرة تصل مساحة كل منها متراً مربع، وكالمعتاد بدا التحقيق وأذكر أن ضابط برتبة عقيد اسمه برهانو هو من كان يجري معي التحقيق، واعتقد أنه كان ضمن قيادات الدرق لاحقا.
الجزء الثاني:
على أي حال جلس معي هذا الضابط وكانت معه حقيبة صغيرة بداخلها مجموعة من الصور الفوتوغرافية سبق أن التقطت مع عدد من المناضلين في دورات سابقة واخرى في مدينة عدن اليمنية لا ادري كيف تحصلوا عليها. بدأ التحقيق ووضع الصور امامي وقال لي هذه مستندات وأدله وبراهين تدينك بأنك أحد قطاع الطرق المجرمين، قلت له لم أنكر أنني جندي ووقعت في الأسر في معركة وبحيازتي سلاح، هنا أدار وجهه نحو الصور وقال لي اذن من هذا الشخص؟ وكان قد وضع علامات على الصور الخاصة بي، قلت له هذه صورتي أنا، صمت قليلا وبدا يسألني عن الاشخاص الموجودين في الصور وأذكر من ضمنهم الشهيد سعيد صالح ومحمد برهان بلاتا وآخرين، قلت له لا أعرف أين هم الان، رد علي قائلا هؤلاء الاشخاص راحوا ضحية الحروب الأهلية وهم في عداد الموتى، وبما أنك شاب في مقتبل العمر عليك أن تفكر في مستقبلك ونحن سوف نرسلك للعلاج إلى أديس أبابا وبإمكاننا إرسالك إلى أمريكا …كان ردي ليس لدي مانع إذا قمتم بعلاجي. نهض مسرعا وقال لي لا بأس سوف نتفاكر في موضوعك وغادر المكان.
- هل وجدت في سجن فورتو سجناء من المناضلين أو حتى من السياسيين الإرتريين؟
لم أجد أي شخص في هذا السجن ولكن بعد سبعة أيام جاؤا بشخص وضعوه أمام زنزانتي مباشرة كان هذا الشخص يلبس ملابس نظيفة وكان يوحي لي أنه من كبار تجار العاصمة أسمرا، وبدأ هذ الشخص يصيح بأعلى صوته، ويقول أريد أن أصلي… وأريد ماء للوضوء… قلت له أخي لا أحد يسمعك، بإمكانك ان تتيمم ….لم تمضي دقائق قليلة حتى وصلت المجموعة المكلفة بالتعذيب، مارسوا معه أبشع أنواع التعذيب حتى وصل إلى حالة من فقدان الوعي، وفي هذه الأثناء فتح أحدهم باب الزنزانة الخاصة بي لمشاهدة هذا المنظر من صور الرعب الخوف والألم والغيثان والدماء وصنوف التعذيب التي لا تخطر على قلب بشر .
- بماذا شعرت وانت تشاهد هذ المشهد الغير إنساني؟
في هذ اللحظة فكرت في التخطيط للهروب مهما كلف الأمر، وبدأت أدرس مخارج ومداخل المعسكر والساعات المناسبة للهروب وتحركات المدنيين المقيمين بالمعسكر، وبالفعل فكرت في أول محاوله أن أبدأ بشباك زنزانتي الانفرادية، ولكن لم أتمكن بسبب إصابتي البالغة في اليد اليسرى.
وبعد يومين حاولت أتفقد أحوال الشخص الذي رموه جثة هامدة، وتبادلت معه أطراف الحديث وسألته عن جريمته وأخبرني أنه طالب يدرس بالقاهرة، وأن كل ما في الأمر أنهم وجدوا معه بطاقة طالب أثناء دخوله للبلاد من معبر مدينة تسني، واطلقوا سراحه بعد ضمانته من الشيخ أبوبكر ياقوت، إلا أنه لم يسلم منهم وتمت ملاحقته والقبض عليه قبل دخوله لبوابة مدينة كرن.
لم أشبع فضولي لمعرفة المزيد وسألته عن المدينة التي كان يقصدها… قال لي انا من أبناء مدينة كرن … قلت له انا ايضا من كرن، عرفني بنفسه وذكر لي اسمه واسم عائلته ومن غرائب الصدف أنه كان قد درس معي في خلوة الشيخ آدم لتحفيظ القران بمدينة كرن لكن لم نتقابل لسنوات طويلة.
- من هو هذا الشخص؟
هذا الشخص هو محمد ابن القاضي موسى وأسرته اسرة معروفة بالمدينة، هذا التعارف شجعني أن أطرح عليه فكرة الهروب بحيث يساعدني في بعض الجوانب وكذلك اقوم بمساعدته بالتخطيط.
- وهل طرحت له فكرة الهروب فعلاً، وماذا كان رده؟
نعم طرحت له الفكرة لكنه تفاجأ واعتبر الأمر شبه مستحيل، ومن هنا لم أتحمس للموضوع، لكن للأسف الشديد أن محمد حاول الهروب بمفرده أثناء فترة الخروج الى الحمامات وأطلقوا عليه الرصاص الكثيف وبفضل الله لم يصب وتم القبض عليه وانهالوا عليه بالضرب الذي لم اسلم منه أنا أيضاً، وأصبح كلانا أشبه بجثث هامدة متقابلة.
- ماذا حدث لكم بعد ذلك؟
هذه المحاولة خلقت في نفوس قادة معسكر فورتو مخاوف من وجودنا داخل معسكر الأسلحة الثقيلة، ولهذا تقرر إرسال الأخ محمد إلى سجن دنقلو، أما انا فكان نصيبي سجن (شيشيتا) بمدينة كرن.
- وجودك بالقرب من مناطق تواجد الثوار وكذلك من مسقط رأسك مدينة كرن كيف كان شعورك؟
قبل الوصول الى سجن (شيشيتا) في مدينتي كرن، هناك حدث مهم كان سبباً لمبعث الأمل في نفسي، لابد من الإشارة إليه. عندما تحركنا من أسمرا متجهين صوب الطريق المؤدي إلى منطقة عدي تكليزان مع رتل من المركبات، ومن بين هذه المركبات كانت هناك شاحنة كبيرة تحمل الامدادات ومجموعة من العساكر بما فيهم شخصي، شاءت الأقدار أن تتوقف هذ المركبة الكبيرة في الطريق، وإذا بالضابط الذي كان في المقعد الأمامي لهذه المركبة نظر لي بغضب وقال لماذا هذا المجرم هنا؟ وعلى الفور أمر الحراس بتحويلي إلى سيارة اللاندروفر، لم تسير مركباتنا مسافة طويلة وإذا بالشاحنة التي نزلت منها تتعرض لحادث مروري قلبها رأساً على عقب، ولم ينج منها أحداً بمن فيهم الضابط الذي أمر الحرس بتحويلي للسيارة الصغيرة.
كان هذا الحادث بالنسبة لي بارقة امل وميلاد جديد ومنذ تلك اللحظة لم أفقد الأمل.
- حدثنا عن فترة وجودك في سجن شيشيتا بكرن؟
بمجرد وصولي سجن شيشيتا استلمني الضابط المناوب وأمر حراسه بوضعي في زنزانة بحيث يكون عدد أفرادها لا يتجاوز أربع أشخاص، كان الوقت ليلا وكانت الزنزانة مظلمة حيث استغرق فتح أبواب هذه الزنزانة زهاء ربع الساعة أي أنها كانت محكمة بسلاسل طويلة وأغفال حديديه كثيرة، وإذا لم أبالغ فإن أصوات السلاسل يكاد أن يسمع خارج أسوار السجن.
- هل وجدت سجناء سياسيين او مقاتلين داخل سجن شيشيتا؟
المفاجأة ان بداخل هذه الزنزانة كان هناك شخصان من أبناء مدينة كرن، وعلمت بذلك من خلال حديثهما عن ذكريات أمكنة المدينة بعد دخولي للزنزانة بدقائق، ومن خلال سماعي لهمساتهم ظللت استمع إليهم بإمعان وعلمت من خلال صوت أحدهم بأنه صوت الاخ احمد شيخ زايد، كان الوقت متأخراً وكنت مرهق من هول و أحوال السفر، وقررت ان أستيقظ مبكرا حتى لا يتم تحويلي لزنزانة أخرى قبل أن أخبر الأخ أحمد بما كان يدور معي في التحقيقات وذكر اسمه في أكثر من تحقيق، وأخبره بأنني انكرت معرفتي به، وبعد أن أخبرته بذلك ذكر لي بأنه أيضا سبق أن تم معه نفس التحقيق لكنه أنكر تماما معرفته بي، وعلى هذا الاساس اتفقنا على أن لا نغير أقوالنا . اما الشخص الثاني فق بدأ يتقرب مني ويسألني عن أسباب اعتقالي وعن الإصابة على كتفي واسمي … قلت له اسمي محمد وتهمتي تقديم وجبه عشاء للثوار، أما الاصابة هي رصاصة أطلقها العسكر أثناء محاولتي للهرب منهم، وكان لزاما علي أن أخفي المعلومات الحقيقية لأسباب أمنية.
بدوري سالته عن أسباب تهمته فقال… لي يائسا بلغة التقرايت هي نفس المشكلة التي وقعت فيها أنت،
وبما أنك قادم من سجون اسمرا … أسمح لي أن اسألك عن شخص ما؟ فقلت له تفضل، قال لي: هل قابلت شخص اسمه عبدالله علاج … قلت له هذا الشخص بخير وصحه جيدة وأعطيته الأوصاف كاملة، فرح الرجل فرحة عظيمة، وقال لي الله يبشرك بالخير هذا خبر سار جداً، وقد كان هذا الشخص هو الأخ عمر مسلم، وسألني بهذا السؤال لأن اعتقالي كان حديث مدينة كرن، وصادف نفس الصباح الذي تم اعتقالي ودخولي الى المستشفى العسكري في كرن خروج جثة مجهولة محمولة على اكتاف عمال المستشفى والذهاب بها الى المدافن، ومن هنا اعتقد سكان مدينة كرن بأن الجثة المجهولة هي جثة عبدالله علاج، وانتشر الخبر وعم المدينة حتى وصل الخبر إلى جبهة التحرير الإرترية، وبدورها نشرت خبر استشهادي في مجلة دورية كان قدم لي المناضل حسن إيمان نسخة منها بعد خروجي من السجن، وقرأت فيها خبر استشهادي.
يتبع ………