بقلم الأستاذ / أبوبكر جيلاني
قصة إيطاليا في إرتريا طويلة تمتد لأكثر من خمسين عاما ولا يمكن أن يغطيها مقال واحد من صفحة أو صفحتين. إذن، هذه المقال يتناول رؤوس أقلام عن موقف إيطاليا من استقلال إرتريا بعد عهد الفاشية في الأربعينيات من القرن الماضي في ما عرف بفترة تقرير المصير.
استعمرت إيطاليا إرتريا في الفترة من عام 1890م إلى 1941م. هذه المدة هي التي شـُكـِّلت فيها الهوية الوطنية الإرترية المعاصرة بكل ما حملته من وئام وتناقض ومن وفاق وتعارض.
بعد هزيمة إيطاليا الفاشية على أيدي قوات الحلفاء في1941م وجد المحتل الجديد (بريطانيا) كافة مرافق مستعمرة إرتريا وهياكلها الإدارية والتنفيذية تحت إدارة المستوطنين الطليان، ولم يكن للمواطن الإرتري أي دور في إدارة شئون بلاده إلا كعسكري أو عامل بسيط أو ممثل محلي (بوظيفة مسليني بالنسبة للقرى الثابتة في الهضبة) أو شيخ قبيلة بالنسبة لقبائل المنخفضات.
كفاءة ومستوى التعليم كان متواضعا جداً في فترة الاستعمار الإيطالي بالنسبة للمواطنين، وعاليا لأبناء المستوطنين ومتوسطاً للمواطنين الذين التحقوا بمدارس الكنائس التبشيرية. فبعد 56 عاما من الاستعمار لم يترك الطليان عند خروجهم من إرتريا سوى 24 مدرسة ابتدائية حكومية مناهجها محدودة بصفة متعمدة ليكون الشعب الإرتري أسير الجهل وليسهل لهم استعباده. لذا فمن الناحية التعليمية تركوا البلاد خرابا، وقد تجرع الإرتريون أضرار تلك السياسة فيما بعد وخصوصا عندما كان الموقف يتطلب وحدة وطنية صلبة من أجل الاستقلال الناجز.
أما ما خلفه الطليان من الناحية العمرانية يمكن أن نسميه تقدما كبيراً بالقياس إلى بعض الأقطار المجاورة في الرقي المدني والعمران والحداثة. في معرض مقارنته بين الوضع السكاني في إرتريا وإثيوبيا ذكر لي أحد المعمرين الإرتريين ما شاهده في الثلاثينيات من القرن الماضي من فرق بين إثيوبيا وإرتريا حيث قال: “ذهبت إلى غندر كتاجر حدود وإذا بجهل وتخلف مهيمن على الناس حتى إن الواحد منهم يأتي من البادية والسمن البلدي ملفوف على أوراق شجر إذا لم يبعه قبل الضحى يسيح السمن ويعود المسكين إلى أهله خاوي الوفاض، بينما في إرتريا كانت أحدث منتجات العصر في حينه متوفرة في الأسواق”. أورد ذلك للدلالة على مدى الحرمان والتخلف الذي كان سائداً حتى بعدما استولت إيطاليا على الحبشة لمدة خمسة سنوات. ويضيف قائلاً: “وعندما زرت أسمرا كأني في عالم مختلف، كان المستوطنين الطليان يوصلون أبناءهم إلى المدارس بسيارات صغيرة حديثة، ويتحركون إلى أعمالهم بالسيارات وبعضهم لديه سائق خاص من المستوطنين أو الوطنيين، في الوقت الذي لم يجد المواطن الإرتري مدرسة يتعلم فيها أطفاله.
ومن السذاجة كنا نظن إن هذه الأموال جاء بها الطليان من بلادهم وليس من بلادنا قبل أن نكتشف في النهاية بأن الإيطاليين لم يأتوا إلى إرتريا إلا بجيوب خاوية وإن هذه الأموال كسبوها نتيجة للفرص التي أتيحت لهم من حكومتهم الاستعمارية للعمل والتملك، وخصوصا بعدما توسعت حكومة (الدوتشي) في زيادة رقعة الأراضي التي صادروها بنظام الكونسسيوني (نظام مصادرة الأرض بقانون الحيازة) وسلموها للمستوطنين. وهو نظام كانت إيطاليا تصادر بموجبه الأرض وتسلمها لمن تشاء من مستوطنيها.
بعد انهيار نظام الدوتشي الفاشي في إيطاليا إثر الحرب العالمية الثانية وظهور أحزاب سياسية جديدة في إيطاليا مثل: الحزب الملكي والحزب الجمهوري والحزب المسيحي الديمقراطي والحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي الخ، بدأت هذه الأحزاب تدعو للمشاركة في مجلس الوصاية الاستشاري الذي اقترحته بريطانيا في فترة من الفترات كعملية تمويه سياسي لتشتيت أفكار الأحزاب الإرترية المطالبة بالاستقلال. وقد تبنت الأحزاب الإيطالية عن بُعُد مشروع الوصاية لبعض الوقت بهدف تمكين إيطاليا من التواجد مجدداً في إرتريا ورعاية مصالح رعاياها المستوطنين رافضة أي وصاية بريطانية منفردة أو انضمام إلى إثيوبيا، وعارضت مشروع التقسيم أيضا في بداية فترة تقرير المصير.
بالرغم من وجود جمهور على الأرض الإرترية، قريب من إيطاليا عرقاً وثقافة، لم تتمكن إيطاليا من تأسيس جناح سياسي قوي يمثلها في إرتريا حتى نهاية عام 1946م. ومع حلول عام 1947م ظهر على السطح كيان تحت اسم لجنة ممثلي الإرتريين الإيطاليين Commitato Rappresentativo Italiano Dell’ Eritrea برئاسة الدكتور فينسزينزو دي ميليو، وأصبح هذا الكيان ممثلا لإيطاليا في إرتريا، وكان يطالب بمواصلة إيطاليا لرسالتها التنموية المعاصرة في إرتريا واستكمال مشروعاتها في البنية التحتية التي توقفت بسبب الحرب الكونية. كما طفق هذا الكيان منذ تأسيسه يتهم بريطانيا بإشعال الفتنة واستخدام سياسة فرق تسد بين المواطنين الإرتريين. وفي مارس من عام 1947م تأسس تنظيم جديد تحت اسم جمعية قدامى محاربي الجيش الإيطالي. وفي يوليو من نفس العام 1947م أعلن عن تأسيس الحزب الموالي لإيطاليا Pro Italia والذي كان يطالب بفرض وصاية إيطاليا على إرتريا. وأعلنت جمعية المحاربين القدماء موقفها كجمعية مطلبية تطالب بحقوق أعضائها وليس ككيان سياسي.
أعلن حزبيْ أندنت والرابطة الإسلامية معارضتهما لقيام أحزاب أو جمعيات موالية لإيطاليا كل حسب مصالحه وبرنامجه، فهدف حزب أندنت كان أن لا يظهر منافس آخر يستهدف ابتلاع إرتريا منه، وأما موقف الرابطة كان رفضًا لعودة إيطاليا كونها دولة استعمارية محملة بسجل حافل من الاغتيالات دون محاكمة والنفي لزعماء القبائل والقرى ومعارضي حكمها إلى جزر موبوءة في البحر الأحمر، ومصادرة الأراضي وعسكرة المواطنين الإرتريين دون رغبتهم وزجهم في حروب لا جمل لهم فيها ولا ناقة كحرب طرابلس (ليبيا) في الربع الأول من القرن العشرين، وحرب عدوَا (إثيوبيا) في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والتي راح ضحيتها آلاف الإرتريين وبترتْ أرجلهم وأيديهم من خلاف من قبل منيليك ملك إثيوبيا لمن بقى منهم أسيرا، وأخيراً الحرب بين إيطاليا والحبشة قبيل الحرب العالمية الثانية. كذلك السمعة السيئة التي خلفتها إيطاليا في مجال حقوق الإنسان والتمييز العنصري بكل ما يحمله هذا الأخير من امتهان لكرامة الإنسان كان ضمن أسباب رفض الرابطة الإسلامية أي حزب موالٍ لإيطاليا. وأهم هدف للرابطة من رفض قيام الحزب الموالي لإيطاليا كان ألا يظهر حزب آخر مثل حزب أندنت يعارض استقلال إرتريا.
ولكن إرضاءً لإيطاليا ونتيجة للخطط الموضوعة للمستقبل والمتمثلة في التفاهم وإرضاء إيطاليا لقبول الفيدرالية، مـُنح الحزب الموالي لإيطاليا الترخيص من قبل الحاكم البريطاني شريطة أن لا يضم في عضويته مستوطنين طليان وأن يكون مقره العاصمة أسمرا فقط دون فروع. وبتأسيس هذا الحزب بلغ عدد الأحزاب المسجلة في إرتريا (خمسة) إلى جانب جمعية تتكون من جيل هجين من الإيطاليين والإرتريين تحت اسم الجمعية الإيطالية الإرترية.
إن أقل ما يوصف به الموقف الإيطالي تجاه استقلال إرتريا كان التذبذب والمراوغة لحين الوصول إلى تفاهمات مع الحلفاء تضمن مصالحها ومصالح رعاياها في إرتريا، وكان همها الأول طوال فترة تقرير المصير مصالح وسلامة الجالية الإيطالية الكبيرة والثرية نسبيا في إرتريا.
فبدأت بالمطالبة باستقلال إرتريا، ثم تراجعت وطالبت باسترجاع إرتريا لها، ثم في النهاية رضخت للموقف الأمريكي المطالب بالفيدرالية. ومع قبولها مشروع الفيدرالية من حيث المبدأ كان لها رأيْ مخالف في التطبيق إذ كانت ترى وجوب حكم ذاتي موسع للشئون الداخلية.
ولذر الرماد في العيون كانت البيانات الإيطالية تذيًّل بعد فترة وأخرى بعبارة “لن توافق إيطاليا على الفيدرالية إذا لم يراعى فيها حقوق الشعب الإرتري ويراعى فيها وحدة التراب الإرتري”. فأما وحدة التراب الإرتري كانت واضحة ومقبولة وأما عبارة حقوق الشعب الإرتري كانت مطاطة ومبهمة. تارة يبدو القصد من قولهم الحقوق الإرترية “الاستقلال”، وتارة تعني بالفيدرالية “حكم ذاتي موسع”، فالتلاعب بالكلمات كان سيد الموقف، وفي النهاية تبين للجميع إن مصالح إيطاليا ومصالح رعاياها في إرتريا كانت الهدف الأسمى للسياسة الإيطالية في إرتريا كما سنرى.
بعد بروز أمريكا كقوة ضاغطة لصالح مشروع الفيدرالية بدأت إيطاليا تتراخى أمام الضغوط الأمريكية التي كانت تدعي بأن استقلال إرتريا سيعطي منفذ للشيوعية إلى أفريقيا، وكان هذا الموضوع الوتر المفضل لأمريكا والذريعة الأكثر قبولا من قبل الدول الدائرة في فلكها. ولم يوضح هذا الادعاء الكيفية التي سيتغلغل عبرها المد الشيوعي المرتقب، الأمر الذي جعله زوبعة استعمارية مكشوفة أمام التاريخ. وأما الحزب الشيوعي الإيطالي الذي أثيرت حوله المخاوف من أن استلامه للسلطة في إيطاليا سيؤدي لنقل أفكاره إلى إرتريا لوجود جالية إيطالية كبيرة نسبيا ومواطنين إرتريين يتقنون اللغة الإيطالية، قد كان أضعف بكثير من الدور الذي كان يروج له.
اتفقت كل من إيطاليا وبريطانيا وأمريكا على تقديم مشروع الفيدرالية في المؤتمر التداولي الذي عقد بينهم في الفترة من 1 إلى 3 يوليو 1950م أي قبل بضعة أيام من تقديم لجنة تقصي الحقائق مقترحاتها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة. في ذلك المؤتمر التداولي استخدمت كل من بريطانيا وأمريكا سياسة العصا والجزرة مع مندوبي إيطاليا، وتعهدتا لضمان تلبية المطالب والمصالح الإيطالية في كل من إرتريا وإثيوبيا وضمان سلامة المستوطنين الإيطاليين بمن فيهم المولودين من أمهات إرتريات، والمصالحة بين إيطاليا وإثيوبيا وتسوية كل القضايا القديمة والجديدة بينهما. هذه التفاهمات كانت الجزرة التي هرولت خلفها إيطاليا في تلك الفترة، أما العصا كانت المقاطعة من قبل بريطانيا وأمريكا ومن يدور في فلكهما من الدول في تلك الفترة بما فيها الدول المستعْمـَرَة من قبل بريطانيا في أفريقيا وتأليب إثيوبيا عليها ورفع قضية تعويض عن الفظائع التي ارتكبتها إيطاليا الفاشية أثناء احتلالها إثيوبيا.
واستغلت أمريكا الأزمة الكورية أيضا وروجتها ضد استقلال إرتريا بدعوى مكافحة الشيوعية حول العالم. وأعلنت إثيوبيا مشاركتها في التحالف الذي أعلنت عنه أمريكا أثناء الأزمة الكورية لمنازلة الزحف الأحمر القادم من كوريا الشمالية وأرسلت جنودها إلى كوريا الجنوبية، الأمر الذي أعطى زخما كبير لإثيوبيا كدولة معادية للشيوعية. وانتهى ذلك الزخم الدبلوماسي الذي حقته إثيوبيا بمشاركة قواتها في الأزمتين الكورية والكونغولية بعد زوال حكم هيلي سلاسى واستلام الدرق الاشتراكي السلطة في إثيوبيا. أما بالنسبة لإرتريا لم تضمحل الذريعة الأمريكية القائلة بتغلغل الشيوعية عبر إرتريا ولم تتوقف تلك الدعاية إلا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. ومن هنا يتضح لنا أن الشعب الإرتري كان أحد ضحايا الحرب الباردة التي بدأتْ بعد الحرب العالمية الثانية والتي أغلق ملفها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.
وعندما حان وقت اعتماد الفيدرالية كمشروع مقدَّم من الإدارة الأمريكية ومدعوم من الحكومة البريطانية اشترط على إيطاليا أن لا تحرض الإرتريين بحماس للدفاع عن استقلال إرتريا داخل أروقة الأمم المتحدة وأن توافق على المشروع الفيدرالي على الرغم من عدم رضاها عنه في البداية، ما يعني أن كل الذرائع التي ساقتها أمريكا بالتعاون مع بريطانيا كانت مقبولة من قبل إيطاليا لتمرير المشروع الفيدرالي على عواهنه، ولكن كان ذلك بعد ضمان الثمن الذي كان يتجسد في تسوية كل الخلافات القائمة بين إيطاليا وإثيوبيا بوساطة أمريكية وبريطانية بما فيها قضية التعويضات، وأن تفتح إثيوبيا أسواقها أمام البضائع الإيطالية.
أما التفاهمات حول أوضاع المستوطنين الإيطاليين في إرتريا والمولودين من أمهات إرتريات كانت أن ينعم هؤلاء برعاية وحماية النظام الإمبراطوري الإثيوبي وأن تتوقف المطالبات والاغتيالات السياسية ضدهم وكذلك الثارات التي كانت قائمة نتيجة نظام الكونسسيوني (مصادرة الأرض بقانون الحيازة). كذلك ضمنت إيطاليا أن تظل الأراضي التي وضع المستوطنين عليها أيديهم في عهد حكم الدوتشي بحوزتهم وأن تعتبر أرض مباعة نظاما. ونتيجة لتلك التفاهمات من عاش من المستوطنين في إرتريا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كان في أحسن حال وطمأنينة على أمواله وسلامته الشخصية برعاية إثيوبية، بعد معاناة الأربعينيات التي كانت رعباً حقيقيا تكبد فيها المستوطنين عدداً غير قليل من الضحايا قتلا وإصابة ونهبا وإحراقاً للمزارع على أيدي عصابات الشفتا المدعومة من قبل إثيوبيا.
ترك أغلب المستوطنين الإيطاليين والمولدين إرتريا بعد ما تدهورت الأسواق وكسدت التجارة وقامت ثورة الدرق الإثيوبية في السبعينات من القرن الماضي.
أما فيما يتعلق بالدول الاستعمارية، فقد تخلت بريطانيا عن مشروعها التقسيمي وتخلت وإيطاليا عن مشروعها الاستقلالي بتفاهمات تآمريه ضَمِن فيها كل طرف مصالحه. ونتيجة للمؤتمرات التداولية والتآمرية التي كانت تجري خارج إرتريا توصلت الأطراف الثلاثة للتركيز على ذريعة التغلغل الشيوعي إلى إفريقيا عبر إرتريا، بالإضافة إلى توجسات أخرى لتبرير الربط الفيدرالي مع إثيوبيا، غير أن الأيام أثبتتْ عكس ذلك، فالشيوعية تغلغلت إلى إفريقيا نتيجة للممارسات الاستعمارية ونهب ثروات الشعوب، وإن إثيوبيا التي كانوا يظنونها محصنة ضد الشيوعية أضحت من روادها في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ولو لم ينتهي الاتحاد السوفيتي والحرب الباردة بين القوتين العظميين ربما لرأينا الشيوعية تتغلغل إلى إفريقيا اكثر فأكثر عبر إثيوبيا.
مصادر المقال
- (1) كتاب لن نفترق للمؤلف ألم سجد تسفاي ترجمة سعيد عبد الحيْ
- وثائق الأمم المتحدة عن إرتريا من 1948م إلى 1952م- من الكتاب السنوي للأمم المتحدة: ترجمة قوات التحرير الشعبية الإرترية.
- كتاب تاريخ إرتريا: تأليف الزعيم الإرتري الراحل عثمان صالح سبي
- حوار مع مسـِن إرتري كشاهدٌ على عصره.