الحرية و الوطن … من كتاب ” صمود الهويات ودحض المفتريات ”

sumud

من كتاب ” صمود الهويات ودحض المفتريات ”

الفصل الثامن: شواهد من التاريخ الإرتري الحديث (1)

الحرية و الوطن  

قال أحد رواد الاستعمار الإيطالي حرفيا في أحد كتبه : “ولا يسعنا هنا إلا إبداء الارتياح لوجود مثل هذه الروح الفردية التي يتميز بها كل المنحدرين من الجئز ( ويقصد المتحدثين بالتجري) والعرب ويقصد القبائل التي تدعي النسب العربي والوافدين من الجزيرة العربية) لأن هذه الروح هي التي تجعل استسلام هؤلاء الناس سهلا لأية سيادة أجنبية خارجية تعرف كيف تتعامل معهم للسيطرة عليهم” ( 1) . قال ذلك عندما رأى المساجد الصغيرة والكثيرة وأحيانا غير اللآئقة للعبادة حسب زعمه حيث تهيأ له إن الروح الفردية هي التي أدت إلى هذا العدد من المساجد الكثير في مدينة مصوع وحدها حيث أحصى في كتابه أكثر من 30 مسجدًا صغير  وزاوية ، كما لاحظ أمور أخرى ربما فسرها على أنها من الروح الفردية التي يعاني منها الوطنيين، كان ذلك في عام 1910م .

أقول هي فعلا حالة محلية مزمنة ربما صنعتها الحياة القاسية واسلوب المعالجة الأسهل  للمشاكل التي واجهها المواطنين عبر السنين . اكتشفها الاستعمار الإيطالي في وقت مبكر وتعامل معها . ربما هذه الروح الفردية المتجذرة في مجتمعات المنخفضات الإرترية مردها الرغبة للإستقلالية والحرية ورفضا للقهر. هذه الروح الفردية والرغبة للحرية والبعد عن القهر هي التي كانت تجعل العشائر والأسر والأفراد ينتقل من مكان إلى أخر فتجد مثلا قبائل عديدة موطنها الحدود السياسية التابع للسودان وشطر كبير من ابناء عمومتهم الأقربين في الجانب التابع لإرتريا. وربما ذات الروح الفردية ( أو سَمّها الاستقلالية) هي التي جعلتنا نحن الإرتريين نغادر ديارنا إلى بلاد الله الواسعة زرافات ووحدانا هربا من القهر والظلم والاستبداد . ربما في تراثنا الثقافي والوجداني التشبث بالأرض غلبت عليه رغبة المغادرة والهجرة إذا تعلق الأمر بالحرية والاستقلالية، ولا أدري ايهما أغلى  ( الأرض أم الحرية ) ولكن بعد هذه التجارب المريرة أجنح للقول إن الروح الفردية المفرطة مضرة للجميع إذا تعلق الأمر بالوطن…..المعادلة الصحيحة اراها في الكفاح الجماعي من أجل الحرية والوطن في آن واحد.

لذا عنما كتب الكاتب الراحل محمد صالح ضرار عن الحرية التي أرساها كنتيباي دافلا في بلاد الحباب وكيف أن الاستعمار الإيطالي قوضها وقوّض التطورالطبيعي نحو الوطن الواحد قال:-

 “حافظ كنتيباي دافلا على كل ما كان يفعله أجداده ، وساوَى  بين أقاربه والرعية ومنع كل تعدٍ واستبداد يصدر من القوي على الضعيف وبذلك أرضاهم جميعا ، تلك الحرية التي ارساها كنتيباي دافلا ونفذها بالقوة حررت جميع القبائل المستعبدة في تلك العصور المظلمة0 وعندما حاول مسنجر باشا حكمدار شرق السودان أن ينفذها سنة 1873 م  لم ينجح، إذ لم يجد لها استعدادًا عند القبائل حتى كانت سنة 1881 م”

ويضيف الكاتب قائلاً  “ولكن جاءت حكومة إيطاليا في إرتريا سنة 1884 م فسلبت الحرية من المستعبدين وأخضعتهم لأسيادهم الأقدمين فقام الإمام  المهدي وأرسل منشوراته بتحرير كل المستعبدين، ولما  فتحت إنجلترا السودان حذت حذو إيطاليا، ونحن نعتبر كنتيباي دافلا أول زعيم محلي ساوى بين الرعية في منطقة بلاد الحباب”(2)

هل يعتبر هذا  دليلا على أن الحرية والوطنية تتطور تدريجيا من الداخل ولا تأتي من الخارج ، وأن  الزعماء الوطنيين غالبا ما يجنحون نحو الحرية وخير الرعية؟ نعم ذلك الزعيم الحبابي كان يؤسس للوطن الواحد  من خلال المساواة بين أفراد القبائل التي كانت تحت إمرته، إلاّ أن الاستعمار الإيطالي كان بالمرصاد حيث قوض المسيرة في وقت مبكر جدّاً، وخدمته روح الفردية المحلية وعتاده المتقدم.

الدلائل التاريحية المعاصرة تشير بأن الاستعمار هو الذي قوض التطور الطبيعي والتلقائي والتطور من القبلية إلى الوطنية في إفريقيا كلها وله (أي للاستعمار) دور في الأوضاع الراهنة البائسة في إفريقيا. الاستعمار قوض التطورالذاتي أينما حل و صنع  بريقا مؤقتا ونظماً حديثة سرعان ما أختفت بزواله لأنها لم تكن أصيلة نابعة من المكونات المحلية، ولم تأتِ بالتدرج الطبيعي النابع من تطور السكان المحليين والدليل ما تعانيه إفريقيا من التقهقر والانحدار منذ خروج الاستعمار.

وعندما كان يتحدث محمد صالح ضرار عن الوحدة الوطنية التي قوضها الاستعمار أينما حل  بإفريقيا: قال

” لولا احتلال إيطاليا لبلادهم لبقوا كلهم في وطن واحد وليس في وطنين ( ويقصد قبائل الحدود بين إرتريا والسودان ) . ويضيف ولكن قاتل الله مطامع الاستعمار الأوروبي، فقد قضى بالتفرقة بين أبناء الأوطان الواحدة . (3)

تلك كانت أمنيات رجل من القرن العشرين، رجل وجد قومه وقد انقُـسموا بين دولتين بفعل قوة أجنبية0 إن أحلام إنسان القرن الواحد والعشرون أوسع من ذلك بكثير، إذ  يرَى إنسان اليوم مصلحته في التكامل الاقتصادي والتعاون السياسي الاقليمي والتعاون مع الشعوب المجاورة0إن إنسان القرن الواحد والعشرين يتوقع من حكامه أن  يرتقوا بأدائهم نحو التعاون الإقليمي والقاري بكل أشكاله والتكامل الاقتصادي بعيدًا عن الخطوط الوهمية التي خطها الاستعمار، وهذا ما اتجهت اليه النخب السياسية الإفريقية خلال العقود الماضية.

إن حديث الكاتب الراحل محمد صالح ضرار كان بدافع الانتماء الحديث “الوطنية” التي أنتابت الشعوب الإفريقية خلال النصف الثاني من القرن العشرين هرباً من الحكم الأجنبي وربما تمردًا على نظام القبيلة في بعض المناطق .

ديموغرافيا متداخلة

تأكيدًا للتشابه الديمغرافي والثقافي بين البجة في شرق السودان والبجة في إرتريا على سبيل المثال إذا  انطلق أي سائح أجنبي مشيا على الأقدام من كسلا نحو الشرق أو من قرورة نحو الجنوب لن يلاحظ أي فرق في السكان (مساكن وأزياء )  حتى يصل إلى مدينة كرن أو بلدة زولا وافتا على ساحل البحر الأحمر جنوب مصوع لأن القبائل هي ذات القبائل الموجودة  في الجانب الآخر من الحدود السودانية، وتمتد هذه المسافة  لأكثر من 400 كيلو متر داخل الحدود الأرترية وأكثر من 400 داخل الحدود السودانية على شاطئ البحر الأحمر وصولا إلى حلايب التي يقطنها البجة الناطقين بالتبداويت .

الأزياء والمساكن وحتى البيئة الجغرافية شبه متطابقة كليا ويعرف السكان في كلى الجانبين من الحدود  بالبجة واللغات في هذه المنطقة هما التجرايت والتبداويت واللغة العربية تستخدم كلغة ثقافية وتعليمية وللتواصل بين ناطقي اللغتين المحليتين ولغة الأم لقبيلة الرشايدة . وهناك عشائر تقطن ضفتي الحدود وتملك أراضي زراعية على جانبيْ الحدود والمراعي والمياه بين ضفتي الحدود مشاعة  لكل القبائل الحدودية. ويبدو إن الحكومتين في إرتريا والسودان تتفهمان ظروف السكان التى خلفها الاستعمار في هذه المنطقة من أفريقيا وهي ظاهرة تجدها في أماكن كثيرة من إفريقيا حيث القبيلة الواحدة أو العشيرة الواحدة وأحياناً الأسرة الواحدة منقسمة على دولتين أو ربما ثلاث دول ، تقسيمات خلفها الاستعمار على عواهنها وورثتها النخب التي حكمت إفريقيا بعد الاستعمار، وأعتمدت من قبل النظام العالمي المتمثل في هيئة الأمم المتحدة لذلك يسميها الجغرافيون والديمغرافيون الحدود السياسية، هذه الحدود السياسية الآن هي من الأسباب الرئيسية للكثير من النزاعات والتوترات في إفريقيا.

إن الشعوب الإفريقية بإمكانها أن تعيش متحدة متفاهمة متعاونة حتى في الحالة الحدودية التي خلفها الاستعمار بقليل من الترتيبات التوفيقية وبعدم زج سكان الحدود في الخلافات السياسية بين السياسيين وهذا معمول به بين إرتريا والسودان والعديد من الدول الإفريقية الأخرى والأمل معقود على الإتحاد الإفريقي للمضي قدما بهذا المشروع لباقي الدول ذات الحالات المماثلة وهو في نظري مشروع يوحد الشعوب الإفريقية دون جهد في المستقبل للوصول إلى الدول الإفريقية المتحدة عبر الاتحاد الإفريقي وأولى الخطوات في نظري هي تحجيم الحدود السياسية والمرور عبر الدول بالبطاقات.

تلاحم شعبي عفوي

أكثر من مرة لوحظ بجلاء رفض جميع أفراد الشعب السوداني والإرتري التراشقات السياسية التي تبرز بين الدولتين الشقيقتين (السودان وإرتريا ) بين الحين والآخر، واثبت ذلك من خلال فعالياته خارج إرتريا والسودان يعيش حتى اليوم مئات الآلاف من الإرتريين على الأراضي السودانية ، ويتعلم عشرات الآلاف من الطلبة الإرتريين في المدارس والجامعات السودانية، وهناك حتى الآن مدارس إرترية في السودان تعتمد اللغة العربية كلغة تعليم حسب رغبة أولياء أمور الطلبة.

وكان للمثقفين والمدرسين السودانيين دورً فاعلاً في إعادة نشر اللغة العربية في إرتريا في الأربعينيات من القرن الماضي بعدما أقر الانتداب البريطاني نشر اللغة العربية كلغة تعليم بالمنخفضات الإرترية والعمل  بها في الدواوين الحكومية.

والحقيقة إن الاحتلال البريطاني سمح بذلك عندما شاهد التشابه الكامل إلى حد التطابق بين أهل شرق السودان وشعب المنخفضات الإرترية ، وخصوصا قبائل البجة الناطقين بالتجرايت والتبداويت والبلين والنارا.  فقد لاحظ الإنجليز هذا التشابه في الملامح  والسحنات والمأكل والمشرب والملبس والزي النسائي والرجالي ومن أنواع المأكولات والمشروبات ، ولاحظه في الفنون والرموزالشعبية المشتركة ( كالنقارة وهي النحاس الذي كان يمتلكه  الزعماء القبليين ويضرب أثناء الحروب أو المناسبات التي تستدعي الاجتماع الطارئ، و العطفة وهو الهودج المزين للرحيل، والطمبور، وهو عود العزف ذوالمقامين ويسمى بلهجة التجرايت المسنقو (ربما مشتقة من  كلمة موسيقى وبالتبداويت يسمى باسنكوب )

ولاحظه في اسلوب الحياة والرزاعة كالطورية والسلوكة وطرق زراعة متشابهة في القطرين ،  ولاحظه في التصوف وحلقات الذكر والمدائح النبوية ،  وتجمع الشعبين  طريقة الحياة الاجتماعية والأعراف القبلية وفوق كل ذلك العقيدة المشتركة .

يتذوق شعب المنخفضات الإرترية كل أشكال الغناء السوداني الأصيل بجانب فنونهم المحلية ، وفي الستينيات من القرن الماضي كان شباب مدن  المنخفضات الإرترية يعرف أسماء عمالقة الفن السوداني ويحتفي بهم أيما احتفاء إذا زارو إرتريا و يستمتع  بالفن السوداني في التجمعات الشعبية وفي المناسبات السعيدة، كذلك أسماء المذيعين والرياضيين السودانيين وبعض العرب معروفة لدى الشعب الإرتري منذ ظهور عصر الترانسيستور. وكان الناس في إرتريا يتابع الإذاعات العربية وإذاعة أم درمان على وجه الخصوص لمتابعة الأخبار العربية والعالمية ، وكان لأحاديث الراحل المقيم الدكتور عبد الله الطيب وتلاوة الراحل المقيم القارئ الشيخ صديق حمد حمدون شعبية كبيرة في إرتريا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ويقلد العديد من قراء  إرتريا طريقة تلاوة مشايخ السودان ، وكانت من الأمور الراقية أن يجتمع الناس حول الروادي الترانسيستور ويتابع ويستمتع بالإذاعات العربية وخصوصا أوقات الأزمات والحروب مع إسرائيل ، وكان الشعب الإرتري في عهد نضاله التحرري يتفاعل مع القضايا العربية ويتلقف بنهم كبير كل ما يصله من الثقافة العربية المعاصرة من خلال المطبوعات والإذاعات، وهو يكافح تأثيرالوجود التوسعي الإثيوبي ويقاوم محاولات طمس الهوية.

والمرأة الإرترية متأثرة بالموضة السودانية بل ثوب المرأة البيجاوية هو ذات ثوب المرأة السودانية وكانت تتلقف كل ما يصل إليها من السودان من فنون التجميل وتقتني ما يسمح به الحال من الحلي والعطور والبخور والأثواب وتتداول  بعض المفردات الحديثة ذات الصلة بالموضة القادمة من السودان وتضمها ضمن مفردات لهجتها (التجرايت) تلقائياً .

في عهد الاستعمار الإثيوبي الامبراطوري والدرقاوي كانت كل الرموز الثقافية القادمة من السودان ومن الدول العربية الأخرى، تجد طريقها نحو وجدان المسلمين الإرتريين بسرعة مذهلة بالمنخفضات الإرترية ، ولذلك عندما استفحلت جرائم الإبادة الجماعية من قبل الدرق وحانت ساعة الرحيل نحو السودان لم يجد الإرتريين صعوبة للتأقلم مع البيئة السودانية والثقافة السودانية والدارجة السودانية، ولم يشعر أحدً بوطئة الغربة واللجوء.

رغم كل المصاعب ومحاولات التذويب التي واجهتهم خلال 100 عام  الماضية، حافظ شعب إرتريا المسلم  حتى الآن على هويته العربية والإسلامية ويعزى هذا النجاح والحفاظ على الهوية العربية الإسلامية إلى الآن للتواصل الديني والتعليمي والتجاري المستمر بين إرتريا والسودان خاصة والأمة العربية والإسلامية  بصفة عامة منذ مئات السنين.

إلى  يومنا هذه نجد الحدود السياسية التي خطها الاستعمارالغربي (بريطانيا وإيطاليا ) بين إرتريا والسودان عامرة بالعابرين ليل نهار حتى أثناء أحلك الأزمات بين الدولتين ، وفي زمن الحرب إن الغربة الحقيقية للإرتري تبدأ عندما يخرج من السودان وهذا من أسباب اثبات الثورة عروبة الشعب الإرتري منذ البداية ، واعتبار اللغة العربية لغته الرسمية خلال معركة التحرير الطويلة والمريرة رغم أنف الضغوط الاستعمارية.

رد فعل ترحيل الجنسيات العربية من إرتريا

في الستينيات من القرن الماضي أشعل النظام الإمبراطوري  بتحريض من بقايا رموز حزب الانضمام المنحل ظاهرياً  فتنة معاداة العرب وطرد العرب من إرتريا كخطوة  حسبوها نهائية وحاسمة  في بتر علاقة  إرتريا بالعالم العربي،  حيث طال ذلك الإبعاد المئات من التجار والمقيمين العرب الذين أسهموا  في إنعاش الاقتصاد الضعيف. وطال الإبعاد أيضاً قبيلة عربية مزارعة (قبيلة البسيس) كانت تسكن منطقة وقيرُو ومعشيات شمال  مصوع ، ولمزارعي تلك القبيلة دورًا فعالاً في إدخال طرق الزراعة بالريْ إلى إرتريا ، وهو الأسلوب المعروف بزراعة العقوم أي( الجروف الموسمية بالسدود الترابية )

كان الأسى والحسرة يمزقان أفئدة المسلمين الإرتريين لما لحق بإخوانهم العرب من إبعاد وجاءت تلك الخطوة بنتيجة عكسية على نظام هيلي سلاسي حيث التف الناس حول الثورة أكثرمن ذي قبل ، وأزدادت النقمة الشعبية على إثيوبيا وارتفعت وتيرة الانضمام إلى الثوار لأن المسلمين الإرتريين  اعتبروا ترحيل إخوانهم العرب إهانة إضافية موجهة ضدهم، وكمقدمة للانفراد والتنكيل بهم وهذا ما حدث فعلا ، فبعد شهور قليلة من ترحيل العرب بدأ إحراق القُرى الإرترية في منطقة سمهر والساحل الشمالي وبركة  وسنحيت ثم تطورت جرائم إحراق القرى إلى الإبادة الجماعية فيما بعد،  وناضل ضمن الثورة الإرترية عددا من شباب الجالية العربية اليمينة المولودين بإرتريا.

تبعات الثورة الإرترية المسلحة

تكبد الشعب الإرتري تبعات الثورة المسلحة لثلاثين عاما إلا انه لم يبتعد شبراً عن هويته العربية وكانت أكثر المواجهات المسلحة ضراوة في مناطق المنخفضات الإرترية واستشهد عشرات الآلآف من الشباب والشيوخ والنساء والأطفال العزل  ظلماً وعدواناً ، وأحرقت مئات القرى، وشرِّد مئات الآلاف من اللآجئين إلى السودان وإلى الدول العربية المجاورة ، ودمـِّرالاقتصاد الفقير، وأحرقت الغابات عمدًا حتى لا تأوي الثوار، ولوثت الآبار بالسموم وأبيدت الثروة الحيوانية (الجمال ) والدواب بالسموم والقذف الجوي كي لا تحمل مؤن للثوار، وردمت مصادر المياه بهدف إفراغ الأرض من سكانها وحيوانها وغطاؤها النباتي

زعماء إرتريا  لجأوا  إلى أشقائهم العرب عبر السودان عندما انقلبت إثيوبيا على الاتحاد الفيدرالي

عندما قرر الزعيمان الراحلان الشيخ/ إدريس محمد آدم والشيخ/ إبراهيم سلطان الكفاح المسلح لاسترداد الحقوق الوطنية الإرترية وخرجا من إرتريا خفيةً ، ذهبا إلى السودان  ثم إلى مصر ثم بدآ اتصالاتهما وزياراتهما للأقطارالعربية واستشارَا معظم الزعماء العرب في ذلك الزمن قبل إعلان الثورة بغية التقدم بقضيتهم إلى مجلس الأمن الدولي وحظيا بجوازات دبلوماسية من الصومال الشقيق وحظيت الثورة الإرترية بدعم مادي ومعنوي من الدول العربية ومن الشعوب العربية حتى انتصرت ولم يلجأ الزعماءالأرتريين إلى الدول الأوروبية أو الأفريقية أو الأسيوية ، وفي ذلك دلالة ومغزى وإثبات عروبة الشعب الإرتري.

الشعب الإرتري لجأ إلى وطنه الثاني (السودان) هرباً من الإبادة الجماعية على أيدي الجيش الإثيوبي   

منذ الخمسينيات من القرن الماضي انفتح الشعب الإرتري على أشقائهم العرب من جديد ، حيث هاجرت أعداداً غفيرة من الطلبة والشباب إلى الدول العربية للعمل والتعليم المهني والأكاديمي ثم بعد انطلاق الثورة كان التدريب العسكري ونال الشباب الإرتري جرعة قوية من الثقافة العربية المعاصرة الأمر الذي عزز انتماءهم المتجذر من جديد.

عندما اندلعت ثورة الدرق بإثيوبيا في السبعينيات من القرن الماضي، وشرع الدرق في حملات إبادة جماعية جديدة استهدفت شباب المدن الكبيرة بشكل عشوائي، لجأ الشعب الإرتري من سكان المدن إلى وطنه الثاني السودان للإحتماء بأشقائه الشعب السوداني وقد سبقهم إليها سكان الريف منذ 1967م .

تقاسم الشعب السوداني الأبي كل ما في البلاد من دواء وكساء وغذاء وكتاب مع أشقائه الإرتريين، وصار لهم سندًا وظهيرًا الأمر الذي أكد من جديد التلاحم العضوي والتاريخ المشترك لهذين الشعبين الشقيقين وأكد من جديد أن الحدود الوهمية التي خطها الاستعمارالغربي من أجل مصالحه الخاصة  ليس ذات أهمية أثناء الملمات والأزمات.

هناك مئات اللآلاف ممن عبروا الحدود نحو السودان هربا من القهر والإبادة الجماعية منذ الستينيات من القرن الماضي ومنهم من استوطن السودان وانصهر في مجتمعات الشرق السوداني وهذا بدوره يثبت للعالم بأن المسلمين أمة واحدة وبإمكانهم العيش سوياً دونما صعوبة وإن الاستعمار هو الذي فرقهم أينما حل. وحتى اللحظة قدر للشعب الإرتري أن يهاجر عبر السودان في الغالب إلى مناطق أخرى حول العالم ويصل مأمنه حتى أعلنت مصادر بالإتحاد الأوروبي مؤخرا بأن أكبر كتلة بشرية لاجئة إلى القارة خلال السنين القليلة الماضية هم من إرتريا. واقول الاستعمار كان السبب الأساسي لما يعانيه الشعب الإرتري وشعوب القارة الإفريقية عامة ولذا لا تمن يا غرب على من هم ضحايا السياسات الاستعمارية.

الثوة الإرترية احتمت بالأراضي السودانية حتى آخر يوم  

في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وعندما حمل نظام الدرق على الثورة الإرترية والشعب الإرتري حملات متتالية من جديد مستعيناَ بأسلحة الكتلة الشرقية هذه المرة ، وعندما زحفت الجيوش الإثيوبية برًا وبحرا وجوا بإتجاه آخر معاقل الثورة الإرترية في الهضبة الشمالية وفي الساحل الشمالي الإرتري، وضاقت الأرض الإرترية على الثوار بما رحبت، انسحبت الثورة الإرترية باتجاه الجبال الجنوبية لولاية البحرالأحمر السودانية، وهي مناطق تقطنها قبائل البجة التي تنطق بلهجة التجرايت. من هناك أعادت الثورة ترتيب صفوفها،  من على الأرض السودانية وبدأت هجومها المعاكس والنهائي .

ربما الآلاف من المقاتلين الإرترين لا يعلمون حتى اليوم بأنهم كانوا يدافعون عن وطنهم من على أرض سودانية في تلك الظروف الصعبة لأن الديموغرافيا والتضاريس الجغرافية والأحوال السكانية متطابقة ، و كانوا يظنون أنهم على أرض بلادهم لأن العنصرالبشري المحيط بهم لم يختلف عليهم لغةً ولا سحنة .

خطوط إمداد الجيش الشعبي الإرتري كان يمتد من بورتسودان وسواكن ويمر فوق الأراضي السودانية نهارًا جهارًا لمسافة تمتد مئات الأميال حتى يصل الحدود الأرترية .

نذكر هذه كمواقف تاريخية من الشعب السوداني والدولة السودانية لا بد من ذكرها، ولا يعني هذا إن أحدًا من الإرتريين أنكرها، وذكرتْ هنا من أجل المزيد من التوثيق ليس إلاّ.

وقبلها كان الثوارالإرتريين يستفيدون من ميناء عقيق ومن المياه الاقليمية السودانية للوصول إلى إرتريا عبرخط إمداد آمن وسليم وكل إمكانات السودان الجغرافية والإجتماعية كانت مسخرة للثورة الإرترية دون منٍّ ولا أذى  بخلاف بعض التجاوزات في فترة حكم عبود العسكري الذي انقلب على الديمقراطية السودانية الأولى وبالطبع لا يمثل العسكر الشعب السوداني. إن السودان ممثلا لذاته وللأمة العربية والإسلامية لعب دورًا لوجستياً حاسماً ً في استقلال إرتريا حيث كان من الصعب تحرير إرتريا  لولا تعاون حكومة الإنقاذ السودانية والشعب مع الثورة الإرترية ، وإن ذاكرة الشعب الإرتري تحفظ ما فعله السودان وشعبه من أجل إرتريا.

إن المناوشات السياسية بين السياسيين من حين لآخر لا تؤثر في ما يكنه الشعب الإرتري لدولة السودان ولشقيقه الشعب السوداني ، يتجلى ذلك في محيا كل إرتري حرعندما يتعلق الأمر بتعاون إرتريا مع السودان .

واصل الشعب الإرتري كفاحه حتى دحر التوسع الإثيوبي بدعم معنوي ومادي فعال من السودان والأمة العربية، واعترف المجتمع الدولي بإرتريا كدولة مستقلة ذات سيادة في عام 1993 م  بعد استفتاء شهير في الداخل والمهجر وبدأت إرتريا مسيرة جديدة،  ولكن قوى الشر والاستكبار الذي وقفت بجانب المعتدي الإثيوبي قديماً ، وأوردت الشعب الإرتري المهالك، وارادت أن تورده مهالك جديدة وأن لا  تتضح معالم إرتريا وهويتها الحضارية الحقيقية بعد 24 عاما من الاستقلال ، وتتحرش إثيوبيا لجولات جديدة من الغزو.

إبادات جماعية منسية

الحقيقة التي لا بد من ذكرها إن الإبادات الجماعية في إرتريا بدأت في وقت مبكر منذ قدوم إيطاليا حيث كان الوطنيين الرافضين للوجود الإيطالي يعتقلون حتى الموت في  جزر موبوئة بالبحر الأحمر. هناك سجل من الأسماء من المسيحيين والمسلمين سجلها المناضل الراحل محمد سعيد ناود في كتابه المعنون “قصة الاستعمار الإيطالي”.ولا ننسى الإبادات التي كان يقوم بها رؤوس التجراي في القرن التاسع عشر ( آخرهم ألولا) وما قبله لإخضاع الشعب الإرتري لا بد من توثيقها للتاريخ .

وهناك مجزرة منسية حين قصفت الطائرات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية زقا شيخ في الساحل الشمالي من إرتريا، وقتلت أكثر من 40 مواطناً واصابت  أكثر من 50  بشتى الإصابات بشكل متعمد في موقع كانو قد اتخذوه ملجئاً مؤقتاً  لهم يدعى ” قطاريت” بالقرب من جبل دندن عندما علمو بزحف الجيش البريطاني باتجاه الجنوب قادما من قرورة إلى كرن.. وتعتبر تلك المجزرة باكورة الإبادات الجماعية بالطيران على  الإرتريين في العصر الحديث لم يسجلها التاريخ بل تم تجاهلها حتى لا تطالَب بريطانيا العظمى بالتعويض. الواقعة كما حدثت وأسماء القتلى والجرحى محفورة في ذاكرة السكان حتى اليوم ومن يريد أن يتبنى هذه الدعوة يتصل بمن بقي من تلك المجزرة أو من ذويهم الكبار لتسجيل أسماء القتلى والجرحى في تلك المجزرة .

إن ذاكرة الشعب الارتري سوف  تظل  تردد وتذكر الضمير العالمي بهذه الجرائم التي تمت في حقه إلى أن يستجيب العالم ويستفيق الضمير العالمي. على القانونيين والكتاب والنشطاء الإرتريين وأصحاب الضمائر الحية مسؤلية كبيرة لمقاضاة المعتدين مهما كانوا ولتعويض ذوي المتضررين الإرتريين منذ قدوم الاستعمار الإيطالي إلى يومنا هذه.

إهمال استراتيجي

للأسف الشديد التطابق الثقافي والديمغرافي بين شعب شرق السودان والمنخفضات الإرترية لم يحظى برؤية استراتيجية ثاقبة من قبل النخب السياسسة السودانية الحاكمة منذ استقلال السودان حتى يومنا هذه، ربما تبلورت لدى النخب السودانية قراءات خاطئة ومعلومات مدسوسة  حتى لا يخطو السودان خطوات إيجابية نحو تحقيق مصالح مشتركة استراتيجية وطويلة المدى بين الشعبين الشقيقين دون ضرر ولا ضرار. أو ربما النخب السياسية السودانية لم تبذل جهداً كافياً للتعرف على تركيبة الشعب الإرتري السكانية بشكل مفصل وعلى مكوناته الرافضة وعلى مكوناته الفاعلة في غمرة صراع تلك النخب السودانية المستمر على الثروة والسلطة خلال العقود الماضية حتى جاءت ثورة الإنقاذ الوطني. تجلى تأخر السودان في هذا الجانب من خلال التذبذب الذي إتسمت به سياسات الحكومات المتعاقبة على السودان في الشأن الإرتري ودفعت حكومة الإنقاذ الوطني السودانية ثمن  فاتورة 50 عاماً من القراءات الخاطئة لخريطة إرتريا السياسية .

المراجع:

  • كتاب المستعمرة الإرترية – مفوضية مصوع الإقليمية : دراسة للكافيليري دانتي أودو ريستي ، موظف بالمستعمرة 1910 م – صفحة 152 ترجمة الاستاذ جوزيف صغير- هذا الكتاب من منشورات قوات التحرير الإرترية. ( الكافيليري لغة إيطالية تعني الفارس) .
  • كتاب تاريخ قبائل الحباب والحماسين في إرتريا وشرق السودان– ص 33-34 الحماسين لا يقصد بها منطقة حماسين المعروفة بالهضبة الإرترية بل قبائل ساحلية تقطن ضفتي الحدود الشمالية بين إرتريا والسودان تبدأ أسمائها ب بيت : بيت معلا بيت عوض الخ…بيت .

 هي قبائل كبيرة تعرف بقبائل البجة اهمها البني عامر والحباب والهدندوة والحلنقة ويتبع هذه القبائل عشائر وبطون عديدة،  وقبائل أخرى منها قبيلة الرشايدة التي لا تعتبر بجاوية…

شاهد أيضاً

مهرجان الرابطة بمدينة كولن في المانيا

المهرجانات الثقافية حالة تفاعل بين القيم والموروثات .. ودعوة لقراءة تاريخ الاجداد

ابو بكر صائغ قال لي أحد الاصدقاء في جلسة ودية تفاكرية إنني أؤمن بطرح رابطة …

ملبورن: إذ تحدث عن إرث متأصل

عبدالرحمن كوشي رابطة أبناء المنخفضات الارترية الفتية، بعد أن فجرت الطاقات الفنية الكامنة، من قلب …

احتفال الرابطة في ملبورن

علي جبيب شهدت مدينة ملبورن الاسترالية منذ يومين احتفال ابناء رابطة المنخفضات الارترية بمناسبة الذكرى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *