فرط الحساسية من اللغة العربية كان مؤشرا خطيرا في وقت مبكر

من كتاب ” صمود الهويات ودحض المفتريات

الفصل الثامن: شواهد من التاريخ الإرتري الحديث (3)

فرط الحساسية من اللغة العربية كان مؤشرا خطيرا في وقت مبكر

من رحم المعاناة التي واكبت الرحلة الشاقة لاستعادة الوطن الإرتري السليب، ولدت ظاهرة غريبة تستحق الدراسة أسميتها “متلازمة فرط الحساسية اللغوية”. شخصيات هذه الظاهرة من الإرتريين المثقفين نسبياً، الذين أخذوا تعليمهم الابتدائي باللغة العربية ولكن اليوم لا يمانعون من أن يأخذ اطفالهم تعليمهم الابتدائي باللهجات المحلية المنطوقة “لغة الأم” والتي ليس لها قواعد ولا هياكل.

لا يحق لنا التشكيك في وطنيتهم، ولكن بالنسبة لهذه القضية التعليمية الاستراتيجية الهامة لا يمكننا القول بانهم لا يدركون خطورتها0 إنهم  يرون كل قضايا وطنهم من منظار وطني بحت وينطلقون من منطلقات وطنية، لذا يلاحظ فيهم عدم الاهتمام بالارث الثقافي الذي ورثوه عن آباؤهم مع اعترافهم بالتنوع الثقافي والحق الثقافي لكل فئة، والموروث الثقافي لكل إنسان، سواء  كان في مجال الفن الغنائي أوالرقص الشعبي  أو الثقافة اللغوية، وفي نفس الوقت يرون عدم الخطورة في الترتيبات التعليمية الحالية بإرتريا. يشعر المرء أن هؤلاء لا يمانعون لو تحول الجيل الذي يأتي بعدهم كله إلى ناطقي لغة إرترية واحدة وينسى ما عداها، ولسان حالهم يقول يكفي أنها لغة إرترية. همهم الوحيد هو أن يستقر وطنهم ويعلوا شأنه كيفما أتفق طالما استقل بتضحيات شعبهم، ودماء إخوانهم الشهداء، ولا يرونها خسارة لو خسرت مجموعات بشرية من السكان إرثها الثقافي لحساب فئة أخرى طالما سوف يحقق ذلك الوحدة الوطنية ويتم في إطار الوطن الواحد ولا يبالون لو تحقق ذلك كرهًا.  ويرون بان اللغة أداة  تفاهم فقط ويقفون في وجه من يحمـِّل تفسيرها أيّ محمل آخر حتى لا يكون ذلك عبئاً وعلى حساب بناء الدولة وسلامة النسيج الاجتماعي0المهم عندهم أن يبرز وطنهم كقوة اقتصادية وعسكرية وسياسية في الاقليم.

هي أفكارٌ ربما ورثوها من أدبيات الاشتراكية البائدة ولم يستطيعوا التخلي عنها0هؤلاء قلة بين الإرتريين  وهم يعتمدون على التصورات والأمنيات لصهر المجتمع في بوتقة واحدة  فورًا ليحصل التجانس المرجوا بأي ثمن0 لا يستطيع  أي إنسان في العالم أن يقف في وجه التجانس الثقافي والتحولات الثقافية واللغوية.

لدى أي أمة تتكون من ثقافتين أو أكثر التغيير يتم من خلال سجل من التعايش الحر المبني على الاعتراف المتبادل  بالحرية الحقيقية لكل فئة بل لكل فرد من أفراد الأمة، والاعتراف بالثقافات وبالتباين الطبيعي ( الثقافي منه والسياسي النزيه)0مثل هذا الاعتراف هو الذي يفضي إلى التكامل  فالتجانس وأخيرًا التوحد الطبيعي. إنها عملية قد تمتد لعقود أو ربما قرون ولكن يجب أن تبدأ البداية الصحيحة، وتكمل دورتها الطبيعية وتمر عبر مراحلها الزمنية وأي تدخل خارجي قد يفضي إلى الإسقاط  كما يسقط الجنين البشري إذا عومل بقساوة0

أمام هذ التسامح المفرط من بعض المسلمين، وهذه النظرية الغريبة والفريدة من نوعها في شأن اللغة،  يلاحظ عدم تسامح مفرط من الجانب الآخر، من جانب المسيحيين …

كنا نرى  في الثمانينيات من القرن الماضي في الاجتماعات الجماهيرية مواطنين من الناطقين بالتجرنية يعملون في دول الخليج وهم يطالبون أن تترجم الخطب والتعقيبات من اللغة العربية إلى اللغة التجرينية مباشرة حتى وإن أجاد الحضور كله اللغة العربية0 هؤلاء كانوا يجيدون اللغة العربية ويعملون في وظائف وأعمال تحت إمرة مواطنين عرب وليس لديهم أدنى صعوبة في فهم اللغة العربية ورغم ذلك كانو يعكرون صفو اجتماعاتنا، بينما بعض المسلمين وهم الأكثرية كانو عرضة ألاّ يفهموا التجرنية لطول إقامتهم في بلاد المهجر ولعدم اختلاطهم بناطقي التجرينية في الوطن، لم نسمع منهم مثل تلك التظلمات والشكاوي في الاجتماعات ربما كي لا يتهم أحدهم بالتقصير في عدم فهم لغة من لغات وطنه.

لم انسى ذات يوم في أحد الاجتماعات سألني أحدهم كان بجواري عن مضمون الحديث الذي دار بالتجرنية خافتاً صوته مستحيا من المطالبة علناً بالترجمة الفورية . قلت له من حقك أن تطلب بالترجمة كما يفعل الآخرين، لماذا تتنازل عن حقك إذا كنت فعلا بحاجة إلى ترجمة. قلت له  قلنا للذين يطالبون بالترجمة وقد فهمو الحديث لماذا التعصب وليس لمثلك الذي لم يفهم الحديث الذي دار.

المشكلة لا تكمن في أفكار هؤلاء أوهؤلاء (أصحاب الحساسية المفرطة وأصحاب اللآإحساس)0 وهي أولا وأخيرا أفكارهم الخاصة التي طورتها ظروفهم ومعاناتهم0

الضرر وقع على هؤلاء الذين كانو لا في الافراط ولا في التفريط والآن يتحول أبنائهم إلى متحدثي لغة غير لغة أجدادهم  أمام ناظريهم على حساب لغتهم وحرفهم الذي درج عليه أجدادهم ، وسيجدوا أبنائهم بعد عدة سنوات أشخاصاً آخرين لا يفقهون  من لغة ثقافة أجدادهم شيئاً  بدعوى تطوير كل اللغات0

وأكثر المتضررين هم  هؤلاء الذين فروا من لهيب الحرب والإبادات الجماعية، وكانو ينتظرون العودة إلى دورهم  ليعيشوا على أرضهم  دون أن يواجهوا إحتمالات تغيير الهوية قسرا. والمشكلة الكبرى تكمن في رد فعل هؤلاء أو أبنائهم ولو بعد حين، إذا استبد بهم الحال في المهجر، أو أن تخلق مشكلة إنسانية  أخرى ، مزمنة كمشكلة اللآجئين الفلسطينيين الذين حرموا حق العودة إلى ديارهم .

النضال من أجل الحرية والوحدة الوطنية والسلام يجب أن يستمر

شأنهم شأن الشعوب المجاورة لهم ، إن نضالات شعب إرتريا لأجل السلام والحرية والوحدة الوطنية وحقوق الإنسان لم تتوقف  بعد0 عندما جاء الاستعمار الإيطالي قاوم الشعب الإرتري ببسالة ولكن إمكانات العدوا كانت أقوى من إمكانياتهم في العتاد. جاءالاستعمار وحرمهم حقوقهم الطبيعية في التعليم والحرية لأكثر من 50 عاما عندما نادتْ الأوطان للتضحية، ضحوا بالمهج والأرواح0

القضية الأرترية كانت  قضية تحرر وطني ولم تكن يوما قضية مطالب إثنية أو قبلية وكان النضال من ذلك المنطلق0

فجر البطل حامد إدريس عواتي الثورة في القرن العشرين ضد التوسع الاثيوبي ولكن لم يفكربأن خلفه   سيواجهون قضايا داخلية خطيرة مستعصية  جراء عدم التوافق الداخلي0 كان يرى إن الخطر الأكبر يكمن في الاستعمار الغربي والتوسع الإثيوبي فقط0

بعد انتهاء القضية الوطنية بتحرير إرتريا، واعتراف العالم بإرتريا كدولة مستقلة ذات سيادة، طفحتْ على السطح قضايا داخلية ذات بعد استقطابي (سياسي واقتصادي وثقافي، ولغوي وتشريعي)0

كان يعتقد بأن كل القضايا العالقة في إرتريا سيحلها الزمن تباعاً مع تطور الفكر السياسي بإرتريا إلا أن هذا الاعتقاد تبدد الآن بعد ما أغلق النظام الإرتري جميع مصادر التطور الفكري ليقود الآخرين إلى ما لم يريدون وعندما بات كل شيء يتم بالقوة لا بالقيادة الرشيدة.

التدخلات الخارجية مستمرة  في الشأن اللغوي

قبل أكثر من عشرة سنوات نشرت بعض التقارير الصحفية عن قيام منظمة أمريكية غير حكومية  مقرها الإقليمي أسمرا بكتابة لغة التبداويت بالحروف اللآتينية بالتعاون مع بعض المعارضين السودانيين، لاتخاذها لغة تعليم في بعض المناطق التي تخضع للمعارضة المسلحة في شرق السودان 0

وقبل ذلك رأينا كيف إن اللغة الصومالية كتبت بنفس الحروف (الألفبائية الرومانية مع بعض التعديلات ) في القرن الماضي وحلت محل اللغة العربية التي كانت سائدة في الصومال لقرون عديدة0

في الصومال ربما ضياع الثقافة العربية الأصيلة ساعد في تشتت القبائل لعدم وجود وعاء ثقافي يؤطر وحدتهم في إطار ثقافي جامع وقد يحدث هذا ايضا في شرق السودان أو المنخفضات الإرترية لو استمر التغيير.

نعلم أن اللغة التي تعيرالحرف هي التي تفوز بالمتحدثين في النهاية وتنتهى اللغة التي تستعيرالحرف إلى نهاية سريعة وهو ما بدأ ت بوادره الآن في إرتريا بالنسبة للهجات المحكية0

هناك إتفاق قديم شهد ه وأمن عليه المجتمع الدولي متمثلاً في هيئة الامم،  وهو  الاقرار بثنائية الثقافة في إرتريا وليس بتعدديتها0ونشاهد الآن إتجاها حديثاً وهو  اللآمركزية، أو الفيدرالية ، وأن تدير كل مجموعة  شئونها  بنفسها بصيغة متفق عليها ولكن كل ذلك لن يتم إلا بالحوار الوطني0قد يحافظ الحوار الوطني على ما تبقي من الثقة للعيش في بلد واحد0 وهذا الإتجاه الحديث يحمي كل من يتخوف من الذوبان في ثقافة الآخرويمنع أن لا يتدخل طرف في شئون طرف آخر في مجالات مثل التعليم والقضاء والإدارة والأحوال المدنية إلاّ للمساعدة الفنية المتخصصة التي قد لا تتوفر لدى الطرف الآخر0

استخدام اللغات الوطنية الإرترية   

المشكلات التطبيقية للثنائية بإرتريا لا تكمن في صعوبة استخدام اللغتين الوطنيتين في دولة مركزية وليدة مثل إرتريا ولكن في الرفض المبطن والظاهر لفكرة الثنائية .  والحقيقة إن هذه المشكلة ظهرت على السطح في وقت مبكر من عمر الدولة الوطنية الإرترية في الخمسينيات. ولتفادي هذا المشكلة اللغوية والإدارية ينادي البعض باعتماد الفيدرالية بين الأقاليم الإرترية0

يذكر في عهد الفيدرالية مع اثيوبيا، أثناء  جلسات البرلمان وكذا في الأعمال المتعلقة بالقضاء والتحقيق والمرافعات كانت تظهر ارتباكات في كيفية استخدام اللغتين وعندما يتعلق الأمر في فض النزاع بين شخصين ينتميان إلى لغتين الحل كان بالجوء إلى منطقة المشتكي واعتماد اللغة السائدة وخصوصاً في مجال توثيق التحقيق الجنائي والقضاء والإدعاء العام0

ذكر باحث إرتري إن الحساسية المفرطة  في هذا الخصوص كانت تأتي من طرف الناطقين باللغة التجرينية لإحساسهم بأن اللغة العربية دخيلة عليهم0

هذه الحساسية زرعها الاستعمار بسياسته المعروفة ب “فرق تسد” وهي حساسية في غير محلها  لأن اللغة العربية  ليست دخيلة على إرتريا، بل هي لغة ثقافة وتفاهم لنصف سكان البلاد منذ مئا ت السنين كما  ذكرت في مكان آخر من هذا الكتاب بأن المسلمين الإرتريين لم يستطيعو إيصال موقفهم هذا جيدًا إلى مواطنيهم غير المسلمين البسطاء بطريقة أو اخرى أو ربما لا حياة لمن تنادي، ولذلك تطورت هذه الحساسية ولازمت مجموعات كثيرة من غير المسلمين من أهل الهضبة وتجاوزت مع بعضهم حدود البلاد لتنتقل معهم إلى دول المهجر.

شاهد أيضاً

مهرجان الرابطة بمدينة كولن في المانيا

المهرجانات الثقافية حالة تفاعل بين القيم والموروثات .. ودعوة لقراءة تاريخ الاجداد

ابو بكر صائغ قال لي أحد الاصدقاء في جلسة ودية تفاكرية إنني أؤمن بطرح رابطة …

ملبورن: إذ تحدث عن إرث متأصل

عبدالرحمن كوشي رابطة أبناء المنخفضات الارترية الفتية، بعد أن فجرت الطاقات الفنية الكامنة، من قلب …

احتفال الرابطة في ملبورن

علي جبيب شهدت مدينة ملبورن الاسترالية منذ يومين احتفال ابناء رابطة المنخفضات الارترية بمناسبة الذكرى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *