ما بين دعاوى العودة .. وضرورات التغيير
بقلم : موسى إدريس
هناك دائما سؤال محوري يتبادر إلى الذهن، وهو من أين يستمد طاغية العصر أسياس أفورقي قوته، وبالتالي سيطرته الظلامية على وطننا الغالي لأكثر من ثلاثة عقود؟؟
هل الأمر يتعلق بدهاء وخبث الطاغية؟ لا أعتقد ذلك بقدر ما أن هناك الكثير من العوامل ساعدت وتساعد على بقاءه في الحكم حتى اللحظة الراهنة، وعلى رأسها السند والدعم الذي وجده من حاضنته الاجتماعية وتبنيها لمشروع الهيمنة القومية، واعني هنا قومية “التجرينية” والتي حقق لها بالمقابل الكيان والنفوذ الذي لم تحلم به يوما، هذا إلى جانب مساندة القوى الأخرى الدولية والإقليمية، تبعا للحفاظ على مصالحها في المنطقة بسبب الموقع الجغرافي والإستراتيجي الهام لارتريا المطل على البحر الأحمر، لأهميته كممر تجاري عالمي، وأعتقد إن كل هذه العوامل مجتمعة، إضافة لضعف العمل الإرتري المعارض لإخفاقه في توصيف النظام وتحديد طبيعة الصراع والتوافق على رؤية للحل، كانت كلها وراء السيطرة المطلقة للنظام على الحكم ، والتغاضي عن سلوكه المعادي لحقوق الإنسان تجاه شعبه أولا وتجاه دول الجوار عموما .
أفورقي الذي عاث فسادً في البلاد والعباد منذ تربعه على عرش البلاد، هو في الواقع رئيس تنفيذي لمنظومة عقلية هيمنة قومية متجذرة في الواقع التاريخي لمسيحيي كبسا، لذا حتى ولو هلك الرجل، فأن مشروعه التدميري ماض، عكس ما يتوقع السذج الذين يرون الخلاص في موت الرجل طال أو قصر، وهو ما يدحض فرضية العمل من الداخل لإسقاط النظام، وهنا قد يرى البعض إمكانية أو نجاح هذا الاحتمال اعتمادا على الجيش، وهي فكرة مستبعدة لعدم وجود جيش نظامي عقيدته حماية الوطن وشعبه، لأن الموجود هو مليشيات شبه عسكرية ولائها لرأس النظام ومنظومته الفكرية، لا أكثر أو أقل .
ما أثار حفيظتي ودفعني لكتابة هذا المقال هو ما تشهده الساحة هذه الأيام من حراك محموم يقوده بعض ممن كنا نحسبهم من معارضي النظام الشوفيني، بغرض تجميل الوجه القبيح لنظام الطاغية، من خلال إطلاق إشارات أو بالونات هواء هنا وهناك تدعو ضمنا الشعب الاعتراف بشرعية أفورقي حفاظا على السيادة الوطنية، وكأن الوطن يقف على شعرة من “شوارب” القائد الملهم، إذا اهتزت سقط الوطن بأكمله..
لا أدري، كيف يبدل الثوري المقاوم مواقفه التي يمليها عليه واجبه الوطني، في كل مرحلة ومحطة من مراحل حياته، كما يبدل ملابسه وفقا للموضة السائدة!!
قد تتغير المواقف عند الثوري … !!!، نتيجة حزمة من الأسباب، أبرزها الاحباط المتكرر، عدم التوافق في قضايا سياسية معينة مع رفاق السلاح، أو في حالات نادرة نتيجة ضعف أو تآكل في جدار العقيدة النضالية، وقد حدث هذا بشكل وآخر أبان الكفاح المسلح في صفوف جبهة التحرير الإرترية تحديدا، لكنه لم يكن سبباً في تغيير المبادئ التي انطلقوا من أجلها.
أما دعوة الشعب للعودة إلى الوطن طواعية، بحجة أن البلد يشهد تغيرات جوهرية غير ظاهرة للعيان إلا في خيال أصحابها، هي دعوة حق أريد بها باطل، لأن الارتماء في حضن أفورقي هو بمثابة منحه صك براءة من كل ما ارتكبه من جرائم نكراء في حق مكونات الشعب الإرتري، بالتالي المصادقة له على شرعية الحكم.
شخصيا لست معترضا على عودة الشعب المشرد منذ عشرات السنين إلى أرضه ووطنه وهذا حقه شرعا، قبل أن يكون هبة من حاكم متسلط، إلا أن دعاوي العودة الطوعية لابد أن تسبقها خطوات عملية تفسح المجال واسعا لحياة سياسية قابلة للتطبيق، وفي مقدمتها إفراغ السجون من المغيبين داخل الزنازين والأقبية المظلمة، والكشف عن أماكن المختفين قسرا ورد الاعتبار لهم وتعويضهم بما يرضيهم عن سنوات الظلام التي فقدوا خلالها آدميتهم، إلى جانب الكشف عن المخطوفين الذين قضوا نحبهم على أيدي فرق الموت أو تحت التعذيب وسوء التغذية والإهمال الصحي.
هذا إلى جانب، ضرورة توفير مناخ سياسي يسمح بالاستقرار السياسي والتأكيد على ثوابت حقوق الإنسان، كالعدالة الاجتماعية وعدم التمييز بين أفراد الشعب سواء في العرق أو العقيدة، فضلا عن كفاءة الحكومة وفاعليتها في صياغة السياسات العامة، واستقلال القضاء واحترام القانون، وحرية الصحافة والإعلام وأيضا العمل على إيجاد حل مرضي لأخطر قضية يتجاهلها الناس والتي تهدد الأمن والسلم المجتمعي مستقبلا، ألا وهي قضية أراضي المنخفضات الخصبة التي تم تمليكها لغير أصحابها من قبل النظام لخلق واقع “ديموغرافي” يخدم مصالحه.
إن أصحاب أقلام تجميل صورة النظام القمعي في الواقع لا يختلفون كثيرا عمن يبدلون مواقعهم بين النظام والمعارضة بشكل مستمر ليحدثونا في كل مرة عن الوطنية والمبادئ وضرورات المرحلة، وهؤلاء يشكلون مصدر قوة لأنظمة القمع والاستبداد المسلطة على رقاب شعوبها…!!
أمام هذا الواقع المزري فإن التغيير المنشود مرهون بوضوح الرؤيا لدي كافة مكونات الشعب الإرتري تجاه الوضع السائد في الوطن جراء سياسات نظام الهيمنة القومية ومن يدور في فلكه من اقصاء كامل للجميع والاستحواذ على مقاليد البلاد سلطة وثروة لصالح مكون أوحد، وذلك من خلال توافق مكونات التعدد على صيغة لإسقاط عقلية الهيمنة، دون ذلك فإن نظام الهيمنة القومية سيظل باقياً لأنه ليس مربوطاً بموت رأس النظام من عدمه، وستعمل المنظومة على تجديد جلدها باستمرار لضمان بقاءها على رأس السلطة على الدوام.