بقلم:الأستاذ محمد نور موسى
قبل خمسة وخمسين سنة إندلعت معركة في جبل “آدال”، بقيادة القائد الشهيد حامد إدريس عواتي ورفاقه ضد الإحتلال الإثيوبي. كانت هذه المعركة من منظور عسكري غير متكافئة من حيث العدد والعتاد، ولكنها كانت معركة حق ضد باطل، وبالتالي كان لابد من خوضها لإنهاء تاريخ طويل من الوجود الإستعماري الذي تعاقب على إحتلال إرتريا.
هذه المعركة الفاصلة التي إنطلقت شرارتها الأولي في الفاتح من سبتمبر، كان أبطالها بضعة شباب، من أبناء الفلاحين وأبناء الرعاة الذين لم ينالوا حظاً من التعليم بسبب سياسة التجهيل التي كانت تمارسها قوى الاستعمار على منطقة المنخفضات. كان هؤلاء الشباب من ريف المنخفضات على درجة عالية من الوعي السياسي لمفهوم الوطن، ومفهوم رفض الوجود الأجنبي سواء ذاك القادم من وراء البحار أو المنطلق من داخل المنطقة، هذه هي حقيقة أولئك النفر من الشباب الذي وعي واقع الإحتلال وتحرك لمواجهته وطرده من التراب الإرتري. فهل يفعل شبابنا اليوم كما فعل الآباء والأجداد ليحققوا لم الشمل ليستعيد مجتمعنا حقوقه المغتصبة؟
نعم، خسارتنا كمجتمع منخفضات كانت كبيرة بسبب الحرب. فقدنا الأرض وحُرمنا من العودة إلي ديارنا وخسرنا أرواح كثيرة وممتلكات وفيرة. بدأت الحرب في أرضنا وأنتهت في أرضنا فأكلت الأخضر واليابس ولم يتبقي لنا من الثروة الحيوانية الهائلة التي كنا نملكها ما يسد الرمق، وكنا وقود هذه الحرب التي دارت رحاها لثلاثين عاماً، وبعد أن تحقق الإستقلال خرجنا صفر اليدين، وإنتهي بنا الأمر إلي العيش في معسكرات اللجوء بدول الجوار. لعمري إنها جريمة بحق هذا الشعب العملاق لن يغفرها التاريخ.
إن منطقة المنخفضات التي تحملت تبعات حرب التحرير، يعيش إنسانها اليوم تحت وطأة الفقر والمرض والجوع في ظل نظام هقدف الطائفي. لا أريد أن أقول بأن الثورة المسلحة كانت وبالاً على المنخفضات التي وعى شعبها حقيقة الاستعمار فبادر بإعلان القتال ضده معتقداً ان بإنتهائه ستنتهي كل معاناة منطقتنا. صحيح كانت خسارتنا كبيرة ولكننا حققنا في بعض المجالات كالتعليم خطوات متقدمة مقارنة بوضعنا قبل الثورة. هذا الإنجاز يعود الفضل فيه للثورة التي الحقت الألاف من الطلاب والطالبات بجامعات الدول الصديقة والشقيقة لينالوا حظاً من التعليم فينفعوا به شعبهم، وحان وقت الانتفاع بهذا العلم في خدمة هذا المجتمع والنهوض به ليسترد حقوقه ويخرج من دائرة الفقر والمرض والجوع إلي حياة كريمة في ربوع بلاده. هكذا يجب ان تكون رسالة النخب من أبناء مجتمعنا، ولاسيما أصحاب التخصصات الهامة في نهضة هذا المجتمع.
عليه وبهذه المناسبة المجيدة أناشد كل النخب من أبناء مجتمعنا أن يخرجوا من دائرة الإنغلاق على النفس إلي دائرة الإنفتاح على المجتمع الذي هو بحاجة ماسة لأبنائه لأن المسألة اصبحت مسألة وجود. اما ان نكون او لا نكون.
إلي متي سيظل بعض من أبناء جلدتنا في خدمة نظام الهيمنة الطائفية الذي يعمل جاهداً لتجريدنا من كل ما تبقي لنا في الوطن. بادروا بالإنحياز إلي مجتمعكم وحقوقه المغتصبة.
القائد عواتي ورفاقه عندما فجروا الثورة المسلحة كانوا يدركون تماما حجم وإمكانيات إثيوبيا العسكرية والسياسية والدبلوماسية. بالإضافة إلي علاقة إثيوبيا كقوة إقليمية حليفة للغرب ولإسرائيل في منطقة القرن الأفريقي وشمال شرق إفريقيا وكانوا يدركون دور الأب الروحي الذي كان يلعبه هيلي سلاسي في القارة الإفريقية.
بالرغم من كل ذلك خاضوا معركة التحرير بإمكانيات ذاتية قليلة ومتواضعة، وكانوا يدركون تبعات هذه المعركة وما سيترتب عليها من ويلات ومعاناة لشعبهم، إلا أن ثقتهم في شعبهم وإيمانهم بعدالة قضيتهم وإصرارهم على تحقيق النصر لم يُثني من عزيمتهم في إطلاق شرارة الكفاح المسلح والمضي في مسالكه الوعرة حتى النهاية.
بهذا الفهم المتقدم للمعركة وأبعادها السياسية والعسكرية خاض عواتي ورفاقه المعركة وفق إستراتيجية حرب العصابات التي وضعها بدقة وعناية شديدة لمواجهة آلة الحرب الإثيوبية والإنتصار عليها فكان له ما اراد. لله در هذا القائد العسكري الفذ إبن الفلاح الذي تحدى إمبرطورية إثيوبيا العريقة وعسكرها الذين حاربوا في كوريا والكنغو ليمرغ أنوفهم في الوحل.
كانت هذه المعركة إيذاناً بفتح صفحة جديدة في تاريخ إرتريا الحديث، ولاسيما في المنخفضات، صفحة كلها أمل وثقة بالنفس وعزيمة وإصرار بالنصر ورص الصفوف. صفحة كتب تاريخها إنسان المنخفضات بدمائه الطاهرة التي روت كل شبر من أرض إرتريا، فكيف لشعب بهذه الدرجة العالية من الوعي السياسي والوطنية أن يصبح مشردا في اصقاع كثيرة من العالم بلا وطن، بلا كرامة؟ إنها فعلا جريمة لن يغفرها التاريخ.