نبش الأدوار الأمريكية في القضايا الإرترية منذ الحرب العالمية الثانية

بمناسبة تعيين بعثة دبلوماسية أمريكية جديدة في إرتريا …
نبش الأدوار الأمريكية في القضايا الإرترية منذ الحرب العالمية الثانية

بقلم: الأستاذ أبوبكر الجيلاني

مواطن أمريكيُّ يدعى رايْ ماكْ جافرن كان يعمل محلل معلومات سابق في الوكالة المركزية للاستخبارات الإمريكية (CIA) صرح قبل بضعة سنوات لإحدى الفضائيات العربية وهو يتحدث بحنقة عن السياسات الأمريكية الخارجية بحق الدول النامية وكأنه كان يقول إن السياسات الخاطئة والمؤذية المصدرة من بلاده ألـَّبتْ شعوب كثيرة عليهم وخلقت كراهية لتفرز في نهاية المطاف جماعات إرهابية مناهضة للسياسات الأمريكية في بلدانهم. هذا ما فهمته من حديث الرجل.

بعض المحلليين يذهبون للقول بأن المكاسب المحققة لأمريكا من التدخل على شئون الدول وإن كانت ترى بعضها مجديا لها إلا أنه كلها لا يضاهي الأضرارالناجمة على الشعوب المستهدفة. جدوى التدخل السياسي أو العسكري تنتفي بعد فترة قصيرة وربما لم تتحقق أصلا أحيانا. ولدينا على الأقل مثال واحد يؤكد هذه المقولة وهي القضية الإرترية.

وفيما يلي سنتتبع بعض الأدوارالتي لعبتها أمريكا ضد استقلال إرتريا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اشتعال الحرب الحدودية الإرترية – الإثيوبية في 1998م، لنرى بأن أمريكا كانت حاضرة حضورا سلبيا، بل مؤذيا في جميع المراحل المأساوية التي مرّ بها الشعب الأرتري وهو يخطو نحو الاستقلال، وإن دماء غزيرة سالت على الأرض الإرتيرية ومياه كثيرة جرت وجرفت معها أشلاء آلاف الإرتيريين منذ كلمة جون فوستر دالاس وزير خارجية أمريكا الأسبق في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1952 م والتي دعى فيها الى ربط إرتريا بإثيوبيا فيدراليا وحتى اجتماع لندن في 1992م برئاسة مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق هيرمان كوهين، ذلك الاجتماع الذي فتح بؤرة جديدة في الجرح الإرتري وكأن كوارث 40 عاما لم تكفي.

أول إتصال أمريكي عسكري بإرتريا كان لما كانت الحرب العالمية الثانية تدور رحاها في شمال إفريقيا، ققررت بريطانيا بعد احتلال إرتريا عام 1941م، إقامة قاعدة خلفية لها لإصلاح المعدات والطائرات المعطوبة جراء الحرب الدائرة في شمال إفريقيا وذلك بتأهيل الورش الإيطالية التي كانت قائمة في أسمرا و” قرع” بالقرب من مدينة دقي محاري 40 كيلو متراً تقريبا جنوب شرق العاصمة أسمرا. وبعدما أعلنت أمريكا الحرب على دول المحورأرسلت معدات وخبراء إلى إرتريا على عجل بطلب من بريطانيا لتأهيل القاعدة والورش (أسمرا وقرع) ومكث فنيين وقوة حراسة أمريكية هناك حتى عام 1943م في القاعدة سرعان ما تم تفكيك الموقع عندما انتقل ميزان القوة لصالح الحلفاء في شمال إفريقيا بعد أن الحق الحلفاء هزيمة بجيوش القائد النازي المارشال رومل.

أثناء تواجدهم في” إرتريا” ربما رفع بعض الضباط الأمريكان عن مزايا الموقع الاستراتيجي لإرتريا من الجانب البري المرتفع ومنذ تلك الفترة خططت أمريكا لإيجاد موطئ قدم عسكري لها في إرتريا وإن كانت قنصليتها موجودة منذ عام 1942م، الشاهد عودتها من جديد خلال أقل من عشرة سنوات وتأهيلها قاعدة قاجنيو في أسمرا لتستوعب حتى 4000 عنصرً.

في 1945م خاطبت إحدى شركات البترول الأمريكية وزيرالخارجية الأمريكي آنذاك قائلة إن ربط إرتريا بإثيوبيا سيكون من مصلحة الاقتصاد الأمريكي، لأن البترول الذي سيضخ من إثيوبيا يحتاج إلى مواني تصدير ومحطات تخزين ساحلية ولا يتأتى ذلك إلا من خلال ربط إرتريا بإثيوبيا بشكل من الأشكال وربما اعتبرت الخارجية الأمريكية يومها ذلك كأحد المهمات الاستراتيجية للمصالح الأمريكية ضمن المصالح الجيوسياسة الأخرى في المنطقة، ولم يرى البترول الإثيوبي النور حتى هذه اللحظة.

بعد عودة الإمبراطورهيلي سلاسي من منفاه إلى بلاده وشروعه في التخطيط للاستيلاء على إرتريا سرعان ما عيّن الدبلوماسي الأمريكي جون سبينسرمستشارًا سياسياً له وربما همزة وصل مباشرة بين إثيوبيا وأمريكا. وجد هيلي سلاسي صعوبة في البداية لإقناع بريطانيا (المحتل الجديد لإرتريا) لمساعدته في ابتلاع كل التراب الإرتيري، فارتمى على أحضان أمريكا حتى تم ابرام معاهدة الدفاع المشترك الشهيرة في 1953م، تعهدت إثيوبيا بموجبها لتقديم كل التسهيلات التي طلبتها أمريكا في البحر الأحمر والأراضي الإرترية.

في خضم الصراع السياسي للشعب الإرتيري لنيل استقلاله رأتْ أمريكا مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية في ربط إرتريا مع إثيوبيا فيدرالياً فاستخدمت نفوذها في الأمم المتحدة لتحقيق ذلك وتم لها ما أرادت بالرغم عن رغبة أغلب الشعب الإرتري في الاستقلال الناجز. تم ذلك دون أدنى اعتبار لما سيترتب على ذلك من دمار وحروب مستقبلية في البلاد.

في نهايات الخمسينيات من القرن الماضي وعندما تقدم وفد من الأحزاب الإرترية إلى الأمم المتحدة بتظلمات الشعب الأرتري من خروقات إثيوبيا فيما يخص النظام الفيدرالي، لم تنظرالأمم المتحدة إلى الشكوى بل تم تهميشها واضطر الوفد الإرتيري للرجوع إلى بلاده بخفيْ حنين وتم تجميد الشكوى بضغط من الولايات المتحدة وأهملت، بل تم تجاهل القضية الإرترية وتركت إثيوبيا تواصل خروقاتها في جسد النظام الفيدرالي حتى ضُـمت أرتريا عنوة من خلال أجراءات صورية غير قانونية ما كان لها أن تتم إلا بضوء أخضر من أمريكا.

في 1961م ألغت إثيوبيا نهائيا النظام الفيدرالي بما فيه النظام التعليمي المتفق عليه والموثق في سجلات الدستورالإتحادي والمضمًن صورة منه في وثائق وسجلات الأمم المتحدة وألغت اللغات الرسمية للبلاد وجميع مظاهر واستحقاقات النظام الفيدرالي الذي شهده المجتمع الدولي والنتيجة كانت انفجارالثورة الإرتيرية بكل ما أعقبته من دماء ودموع لفترة امتدت أكثر من ثلاثين عاماً.

بعد انفجار الثورة الإرتيرية المسلحة في بدايات الستينيات من القرن الماضي بدأت الأسلحة الأمريكية تتدفق إلى إثيوبيا لضرب الشعب الإرتري وثورته وشحنت أصناف من الأسلحة من بنادق ورشاشات وصواريخ وصولا إلى طائرات إف 5 ، وتبوأت إثيوبيا مقدمة الدول الإفريقية في مجال الطيران الحربي والدفاع الجوي والمظليين والقوات البرية والبحرية وحتى في الطيران المدني وتبوأت الدبلوماسية الإثيوبية صدارة الدبلوماسية الإفريقية بفضل دعم سياسي هائل من أمريكا تجسد في إنشاء مقرمنظمة الوحدة الإفريقية في أديس أبابا في الوقت الذي كانت قنابل وأسلحة أمريكية الصنع تنهال على الشعب الإرتري الأعزل. كما أسست أمريكا قاعدة (دبر زيت) الجوية وكليات أخرى ذات صلة بالزراعة والصناعة وتبنت مؤسسات ومنظمات أمريكية للتأهيل والتطويروالتدريب لتنمية إثيوبيا تعليميا واقتصاديا لتمكينها من الاحتفاظ بإرتريا .

كلفت أمريكا إسرائيل لتدريب قوة الكوماندوس من سكان المرتفعات الإرتيرية لضرب الوحدة الوطنية الارترية وليتقاتل الشعب الإرتري على الهوية الدينية والإثنية على حساب قضيته الوطنية، وتبنت أمريكا تجهيز قوات الكوماندوس تسليحاً وتلبيساُ بجانب القوات الإثيوبية البرية المعروفة ب (طورسراويت). أحرقت تلك القوات القرى في المنخفضات الإرترية وهجّرت سكانها وقتلت من قتلت بدعوى احتضان الثورة وأبيدت المواشي وأزهقت أرواح أطفال ونساء وشيوخ أبرياء بالآلاف بالسلاح الأمريكي ولجأ من لجأ إلى شرق السودان المجاور.

في خضم الصراع المسلح مع إثيوبيا، تم إفساد نوايا الثوارعلى بعضهم من الداخل ودخل الثوار في حرب أهلية وتناحر داخلي وتم استغلال التباين الثقافي والديني في البلاد أبشع استغلال، وألبستْ مجموعة معينة لباس الإشتراكية والشيوعية تمويها لتضليل المعسكرالاشتراكي ولكشف الاشتراكيين الحقيقيين في الثورة الإرترية. خططت الاستخبارات الأمريكية تلك الطريقة لأسباب واعتبارات جيوسياسية آنية وأخرى استراتيجية ثقافية وحضارية طويلة المدى.

عندما دخلت أمريكا في خط المصالحة بين نظام الدرق والثورة الإرتيرية في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، أنحاز الرئيس كارتر الذي كان يمثل أمريكا تمثيلا غير مباشراُ نحو فصيل معين من فصائل الثورة (الجبهة الشعبية) وهو الفصيل الذي كان ينعت أمريكا بالإمبريالية والاستعمار في أدبياته التعبوية تمويهاً وتضليلا، وتم إقصاء بقية الفصائل، وقال كارتر للفصائل الأخرى في الخرطوم بالحرف الواحد أنتم الذين تريدون تعليم أبناؤكم اللغة العربية سوف نرى أمركم لاحقاً، وكان يقصد ليس لكم دور في إرتريا القادمة وهي عبارة تنم عن نوايا خبيثة ومشروع إقصائي محكم.

بعد اندلاع الحرب الحدودية بين إرتريا وإثيوبيا في 1998م بدا وكأن أمريكا منحازة إلى جانب إثيوبيا وكأنها تريد أن تعوض إثيوبيا الديمقراطية لما فعلته من دعم لفصل إرتريا التي أضحت شمولية.

بعد كل ذلك الدعم لم تحتفظ إثيوبيا بإرتريا المفترى عليها بشكل دائم ولم يستتب السلام والأمن الدوليين في المنطقة كما أرادت أمريكا ولم تنطفئ جذوة المطالبة بالحرية وبدولة مدنية ديمقراطية ثنائية الثقافة لدى الشعب الأرتري ولا أدري هل مصالح أمريكا تحققت وهل كل هذه الأدوارالمؤذية تساوي ما حاق بالشعب الإرتري من مآسي وكلفت كل هذا البؤس والشقاء للأرتريين؟ وهل ستستفيد أمريكا من تجارب أدوارها الماضية في أي دورجديد قد تلعبه بالقضايا الإرترية ؟ أسئلة سوف تظل تراود أذهان الإرتريين القلقين على وطنهم من المستقبل المجهول والحاضر البائس. أتمنى أن يكون الدور الأمريكي القادم في إرتريا مسالماً وإيجابياً ومتوازناً (إن حدث) والإلتفات هذه المرة إلى السكان المكبلين في الداخل والمشردين واللآجئين في شتى بقاع المعمورة الذين أنهكتهم الحروب والديكتاتورية المفرطة والغربة المظلمة.

يتطلع شعب إرتريا من أمريكا بعد عودتها الميمونة الجديدة إلى إرتريا أن تعمل لنبذ الإقصاء وتضغط على النظام لقبول الآخرين من سكان البلاد وتمكين الديمقراطية الحقيقية ومنع الصراع الثقافي والقتل على الهوية (السياسية والإثنية والدينية) وعدم الانحياز لطرف دون آخر حتى يتمكن الجميع من الإطمئنان ويحفّز اللآجئين الراغبين للعودة إلى ديارهم.

أما إذا ما زالت أمريكا ترى مصلحتها، من منظورآخر بعد ما اكتملت المصلحة الجيوسياسية، وما زالت تعتبر الطرف الأضعف لا يشكل تهديدا قوياً للمعتدِي القوي المدلل ولا للمنطقة بأسرها، ثبت بالتجربة بأن الأقوياء وحلفاؤهم لا ينعمون بالهدوء والاستقرار إلى الأبد في ظل وجود ضعفاء منبوذين ومضطهدين ولذلك نرى العديد من المناطق بما فيها منطقة القرن الإفريقي لا تزال في غليان دائم وما من دولة من دول القرن الإفريقي إلا وفيها مشاكل مستعصية ولأمريكا القدح المعلى سواء كانت داعمة أومناهضة (السودان وأثيوبيا وإرتريا والصومال مثالا).

أمريكا مطالبة أخلاقياً وإنسانياً (إن كان هناك أخلاق في عالم السياسة) أن تخلص الشعب الأرتري من الحالة التي انتهى إليها، ليس بتكرارالأخطاء الماضية والانحياز إلى طرف دون آخر ولكن بالانحياز إلى كل الشعب الإرتري ومساعدته في تأسيس دولته الديمقراطية ليتجاوزمحنته المستعصية منذ سبعة عقود.

وأخيرا من باب الانصاف سأذكربعضا من الإيجابيات الأمريكية التي وفدت إلى إرتريا عبر إثيوبيا والتي بالتأكيد لا تساوي عشر المساوئْ. علينا ذكر فرق السلام التعليمية والخدمية (Peace Corps) الذين كانوا منتشرين في ربوع البلاد في الستينيات من القرن الماضي وعلينا ذكر مدرسة النقطة الرابعة الفنية – بوينت فور (Point Four Program) التي خرّجت المئات من الفنيين الإرتريين بمستوى ديبلومات فنية وكانوا على مستوى جيد في المهارات التقنية في (الكهرباء والسباكة والحدادة واللحام ومساعدين وفنيين في الهندسة الصناعية). علينا ذكر برامج منح الماج(Mag) والمنح الدراسية الأخرى في خطة كانت تستهدف مساعدة إثيوبيا لبناء قدراتها البشرية. خريجي مدرسة النقطة الرابعة تساوي مهاراتهم مهندسين جامعيين بمقياس هذه الأيام. وعلينا ذكر البعثات الإنسانية الطبية منها والتعليمية، والنظم التعليمية التي وصلت من أمريكا في فنون التدريس والتقييم والاختبارات المدرسية.

وفي الجانب الثقافي الدراما الأمريكية كانت ذات شهرة واسعة في أوساط الشباب (افلام الكاو بوي) والإصدارات الدورية ومجلات التايم والريدرس دايجست ونيوس ويك والفوربس والكتب الاجتماعية لديل كارنجي والكتب الأدبية والعلمية الأخرى التي كانت تصل من أمريكا باستمرار في الخمسينيات والستينيات والتي كان لها دور في تثقيف الشباب الإرتيري حينئذ. وفي مجال المساعدات الإنسانية من ينسى تلك الهبات الغذائية من الألبان وفيتامينات أطفال المدارس والذرة الرفيعة الأمريكية والقمح الأمريكي في أكياس القماش البيضاء التي كانت توزع على الفقراء في أرياف إرتريا كهدية من الشعب الأمريكي فيؤكل القمح ويلبس القماش.

ومع ذلك إن ذاكرة الشعب الإرتيري ستحتفظ بالمجازر التي تمت بالأسلحة وأدوات الدمار الأمريكية ودعمت بالتغطية السياسية وسوف يسطر التاريخ الإرتيري الأدوارالأمريكية بكل ما حملته من نكبات وستذكرتلك المآسي جيل بعد جيل وما هذه المقالة إلا واحدة من هذا المسلسل البكائي الذي سوف لا ينتهي.

شاهد أيضاً

مواضيع الناقوس-العدد 11- مقابلة العدد مع المناضل/ عبدالله سعيد علاج

الجزء الأول أجرى الحوار: الصحفي محمود أفندي   تحاور مجلة الناقوس المناضل الكبير عبدالله سعيد …

شخصية العدد- المناضل المغييب محمد عثمان داير (الناقوس العدد 11)

       المناضل المغيب / محمد عثمان داير                   …

المنخفضات -تنخفض الأرض.. ترتفع الهمم (الناقوس العدد 11)

بقلم/ ياسين أمير الجغرافيا رسم الاله على صفحة الكون.. والجغرافيا ترسمنا حين نحسب أننا رسمنا …