التعايش السلمي في إرتيريا عبر التاريخ

بقلم: الأستاذ / أبوبكر جيلاني

العديد من مصادر التاريخ تشير بأن الإقليم المعروف اليوم ب “إرتيريا ” كان بمثابة منطقة جذب وعبور وتجانس لأقوام مختلفة قادمة من الشرق والشمال عبر التاريخ ما قبل الميلاد وما بعده إلى أن انتهى هذا الاقليم ليبقى خط تماس بين أمتين عربية وإفريقية في العصر الحالي.

وفي فترات لاحقة كان يحدث تحول ثقافي ولغوي سلمي بعد كل انتقال بشري جماعي من منطقة إلى أخرى للسكان الذين استوطنوا المنخفضات الإرتيرية، أما في المرتفعات جنوبا فمعظم الانتقالات البشرية الجماعية كانت تفضي إلى صراع دموي لينتهي بغالب ومغلوب. أما في المنخفضات الإرتيرية الانتقالات البشرية الجماعية كانت تنتهي بتاريخ من المرونة والتعايش السلمي والتجانس البشري.

المنخفضات الإرتيرية

بعض الدراسات المتعلقة بالجانب الثقافي واللغوي لسكان المنخفضات الإرتيرية تشير إلى هذا المعنى. على سبيل المثال لا الحصر ورقة قدمها الدكتور جيان فرانسيسكو لوسيني (1) تحت عنوان:

“HISTORY AND LANGUAGE OF THE TIGRE SPEAKING PEOPLES” “لغة وتاريخ الشعب المتحدث بالتجرايت”

ضمن الورشة الدولية التي أقيمت في 7- 8 فبراير 2008م تحت رعاية جامعة نابلس للدراسات الشرقية بإيطاليا. كتب هذا الباحث عن تاريخ التطور الثقافي واللغوي للشعب الذي يتحدث لهجة التجرايت في إرتيريا متسائلا ومجيبا عبر ورقته على العديد من الأسئلة في هذا الشأن. وإليكم فقرات قليلة مترجمة من تلك الورقة بتصرف:

“هناك نقاط تستحق دراسة أعمق فيما يتعلق بالدور الذي لعبته حركة البشر أو تنقلات السكان عبر إقليم ناطقي التجرايت أو حتى عبر المنطقة الأوسع في شمال شرق إفريقيا والبحر الأحمر”.

إلى أيِّ مدى أثـَّر التنقل السكاني على تغيير اللغة والثقافة وتكوين الهوية؟

كيف يمكننا التفكير في تطور لكنات ولهجات التجرايت المختلفة؟

كيف نشأ تداخل سكان المنطقة؟ (التجري والساهو) و (التجري والبجة) و(التجري والتجرينيا) (التجري والبلين) الخ….. على ضوء التنقل داخل الإقليم أو عبر الإقليم الأوسع في القرن التاسع عشر وما قبله؟

من الواضح كان بالمنطقة مدار البحث تنقلات بشرية دائمة بحكم بيئة المنطقة ومناخها وكان الانتقال يحدث حتى إلى مناطق ذات لغة وثقافة مختلفة عن لغة القادمين الجدد والولوج إلى قرى مختلفة ثقافيا عن قرى القادمين الجدد.

كان القادمين الجدد يعتمدون اللغة السائدة ويتركون لغتهم الأصلية تلقائيا بعد فترة وجيزة مع الاحتفاظ ببعض المفردات من لغتهم القديمة.

على سبيل المثال خلال القرن التاسع عشر سكان من قبيلة معروفة إلى اليوم (……) كانوا من ناطقي لغة الساهو في منطقة المنحدرات الشرقية، انتقلوا إلى مناطق المتحدثين بالتجرايت في وسط اقليم سمهر (عسوس– زقا الخ) واعتمدوا التجرايت كلغتهم الوحيدة مع مرور الزمن. حدث ذلك لعشيرة دينية من سكان المنطقة. ومع انتقالهم تحالفوا مع حاكم المنطقة (النائب)* وتطورت العلاقة بين العشيرتين بصفة متزايدة لأن العشيرة القادمة كانت تهتم بنشر الاسلام وتعاليمه على المجموعات القبلية من سكان المنطقة (والنائب) كان صاحب السلطة في المنطقة. ولأن عشيرة النائب (البلو) كانوا ذوي نفوذ وسلطة في منطقة سمهر والساحل والمناطق المجاورة وسكانها من المتحدثين بالتجرايت غلب على كافة القادمين الجدد لسان التجرايت تلقائيا واكتسبوا ثقافة أهل المنطقة أيضا.

ماذا نتعلم من مثل هذا التداخل المذكور أعلاه وحالات أخرى مماثلة بين ناطقي التجرايت والبجة أو التجرايت والبلين بالمنخفضات الإرتيرية كإقليم تماس ثقافي ولغوي؟

وما هي الملابسات والظروف التي تم فيها تفضيل انتشار لغة وثقافة ناطقي التجرايت بالإقليم؟

أجزم للقول بأن هذا يعود إلى الانفتاح الذي حدث في الإقليم الأوسع والذي تميز بسيطرة (النائب) ومقره كان بلدة حرقيقو على شرق وشمال إرتيريا وهو من ناطقي التجرايت.

موضوع آخر هو مسألة التحول الديني.
ما هي الأسباب التي أدت إلى الانتشار الواسع للإسلام في القرن التاسع عشر خلال بضعة عقود وسط المجتمعات المتحدثة بالتجري.

هل التحول إلى الاسلام كان يمثل الرغبة لتحقيق انتماء أوسع في هوية واحدة في ظل عدم تطوُّر وعيْ قومي خاص بالمجتمعات الناطقة بالتجرايت؟
المسألة مرتبطة ارتباطا وثيقا بترجيح كفة ميزان السلطة السياسية. في هذا السياق يمكننا القول إن الاسلام كان يمثل بمثابة انتماءً عالميا للمجتمعات الناطقة بالتجرايت.

هناك سؤال آخر يطرح نفسه عن الكيفية التي تقبلت بها المجتمعات الناطقة بالتجرايت المعتقدات والممارسات الاسلامية ودمجتها مع رموزها الثقافية وأساطيرها؟

نقطة مهمة للانطلاق نحو أي بحث مستقبلي:
ما هي العلاقة بين اعتماد الاسلام ومفهوم هوية المجتمعات الناطقة بالتجرايت وكيف تمت ” أسلمة ” تقاليد عديدة متواصلة عبر السلالات بعد التحول الى الاسلام.” انتهت الفقرات المترجمة. (2)

يتضح لنا من الفقرات أعلاه إن الإقليم المعروف اليوم بالمنخفضات الإرتيرية مرّ بحقب تاريخية عديدة من التنقلات البشرية وتبع ذلك تمازج لغوي وثقافي تلقائي تدريجي من خلال التعايش بين السكان القادمين والذين سبقوهم كما نتج عن انتقال السكان تحالفات بين الدين والسلطة ولم يحدث أنْ سلطة ما أجبرت عشيرة أو قبيلة بعينها أو سكان منطقة بعينهم اعتماد لغة معيـّنة قسرً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بهدف طمس لغتهم التي درجوا عليها.

نجد اليوم في مناطق عديدة من المنخفضات الإرتيرية ثنائية في اللغة فمثلا منطقة البقوس تستخدم فيها التجرايت ولهجة البلين. وفي الساحل الشمالي قبائل الرشايدة تفهم التجرايت بحكم الجوار وهي قبائل بدوية نزحت إلى الشاطئ الإرتيري من الجزيرة العربية قبل 150 عاما. وفي القاش قبائل النارا والكوناما وهي قبائل نيلية تتحدث التجرايت كلغة ثانية بجانب لهجاتها المحلية. وفي قبائل البجة العديد من العشائر تتحدث التجرايت إلى جانب التبداويت إلى الآن في اقصى شمال غرب وغرب إرتيريا. حدث ذلك بشكل تلقائي وليس بالقوة.

كل الإثنيات المذكورة أعلاه تفهم اللغة العربية وتتواصل بها وتعمل بها وتتوق لنشرها للتعليم الديني والنظامي والعلاقات التجارية وعلاقات الجوار الإقليمي (اليمن –السودان – المملكة العربية السعودية) أما سكان الهضبة الإرتيرية فهم أحاديي اللغة وحتى الساكنين منهم في تماس مع مناطق غير ناطقة بالتجرنية لا يجيدون لغة جيرانهم.

الهضبة الإرتيرية:

جزء كبير من سكان الهضبة ينحدر من سلالات نزحت من جنوب الجزيرة العربية عبر حقب تاريخية ضاربة في القدم وتمازج القادمين مع من سبقوهم من الأقوام الكوشية ولا نعلم هل التمازج كان سلميا منذ الوهلة الأولى أم بعد إخضاع طرف لطرف آخر .وفي القرن العاشر نزحت من الشمال إلى الهضبة قبائل البجة الحامية مرورً بالمنخفضات الإرتيرية وحكمت الإقليم في الفترة من القرن العاشر الى القرن الثاني عشر وتبع ذلك تحولات لغوية وثقافية على الغزاة فتغلبت اللغْات السامية (التجرنيا والتجرايت ) على اللغة الحامية ( التبداويت ) بالهضبة والمنخفضات جراء الثراء الثقافي للغات السامية.

بعض القرى في الهضبة الإرتيرية ورثت اسم العشيرة البجاوية التي سكنتها أيام حكم البجه ولم يبقى اليوم إلا الاسم التاريخي للمكان. على سبيل المثال لا الحصر: (وكي زاقر) وكي دبا لعلها (وكي دوبعات) عدي أسفدا – بلوْ كلوْ – عد كلو – صعدا زقا – هزقا – عد أبيتو– عد قعداد الخ..) كلها أسماء لعشائر وأفراد من البجة وأسماء قرى بالهضبة. وكلمة حماسين وهو إقليم معروف بالهضبة الإرتيرية، أصلا اسم لمجموعة قبائل بجاوية تسكن الجزء الشمالي من المنخفضات الإرتيرية المتاخم لشرق السودان حتى اليوم.

بعد الحقبة البجاوية غزت الهضبة قبائل من (إثيوبيا) وذابت هي الأخرى في النسيج الثقافي واللغوي للمنطقة وتحولت إلى اللغة التجرينية. إن الانتقال البشري إلى الهضبة الإرتيرية بشكل جماعي عبر التاريخ لم يكن غالبا سلميا، فإما أن يغزو الغزاة المنطقة ويستولوا عليها وبعد فترة يتعرضون لذوبان لغوي وثقافي لصالح الثقافة السامية المحلية، أو لم يتمكنوا من دخولها نهائيا.

إرتيريا: الوطن الذي ولد مجروحا

ومن هذا يتضح لنا إن إرتيريا تم تشكيلها من ثقافتين إحداهما تحتوي على قرى زراعية بثقافة ولغة واحدة محلية متمركزة فوق الهضبة الإرتيرية والثانية تحتوي على عددِ من المجموعات الأثنية المتناغمة ثقافيا مع الثقافة الاسلامية – العربية والمستوطنة المنخفضات الإرتيرية الأقل خصوبة بما في ذلك ساحل البحر الأحمر والجزر التابعة للبلاد.

بعد تشكيل إرتيريا كدولة ذات سيادة بشكلها الحالي، اتضح بجلاء إن صراع المكونين الرئيسين في إرتيريا ثقافيٌّ أكثر منه سياسي، وقد البسه النظام الحالي بعدً عنيفا ليبدوا زورً صراعا على السلطة وتسبب هذا العنف في استمرار مأساة إنسانية أوجدها النظام الإمبراطوري الإثيوبي منذ الستينيات من القرن الماضي، ومرد هذا العنف هو السلوك المتجذر تاريخيا في ثقافة المكون الذي تم تمكينه من استلام السلطة في البلاد. ولو كان توزيع السلطة السياسية متوازن والإدارة غير مركزية في المنخفضات والمرتفعات الإرتيرية ربما لرأينا إرتيريا اليوم أكثر استقرار وأكثر ازدهار وغير طاردة لسكانها لما يتمتع به شعب المنخفضات الإرتيرية من مرونة وقبول الآخر.

ربما تدخل القوى الاستعمارية الغربية لصالح طرف دون آخر منذ النصف الثاني من القرن العشرين دعماً لأجندتهم الخاصة أخلـّت بالتوازن الضروري لاستقرار البلاد وآخر تلك التدخلات السلبية كان مؤتمر لندن في 1991 م الذي استبعدت فيه الفصائل الثورية الممثلة للمنخفضات الإرتيرية وحرمت فيه من استحقاقات الاستقلال.

وختاما تغيير النظام الإرتيري بطريقة ثورية أو عسكرية من قبل طرف من الأطراف المناهضة له قد لا يحل المعضلة الإرتيرية. قد يسوء الوضع ويتطور إلى حالة غير محسوبة العواقب بعد تغيير النظام إذا لم يستعاد التوازن بتراضي يتفق عليه مسبقا بعقد اجتماعي واضح يلبي احتياجات الأطراف المعنية ثقافيا وإداريا بعد إعادة الأمور إلى نصابها. والطرف الخارجي الذي أخل بالتوازن السياسي الضروري لاستقرار البلاد عليه مسئولية أخلاقية وانسانية وتاريخية ليساعد في إعادة الأمور إلى نصابها لضمان التعايش السلمي في هذه الدولة الوليدة. والجمهور الإرتيري في الغرب والذي يحاول الاحتجاج من الديكتاتورية بين فترة وأخرى ربما عليه أن يدفع بهذا باتجاه.

أقول هذا وقد بلغ السيل الربى، قبل أن نفاجأ بصومال جديد في القرن الإفريقي ولنأخذ من نجاح حكومة الصومال الأخير (بمساعدة ودعم من جيرانه واصدقائه) مثالا بعد أن لملم جراحه ونراه قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى بر الأمان بعد مخاض عسير استغرق 28 عاما. والمخاض الإرتيري منذ الاستقلال قارب هذا العدد من السنوات.

المراجع:
(1) الدكتور جيان فرانسيسكو لوسيني / أستاذ جامعي – جامعة نابلس / إيطاليا
UNIVERSTA DEGLI STUDI DI NAPOLI “L’ORIENTALE”(2)
DIPARTMENTO DI STUDI RICERCHE SU AFRICA E PAESI ARABI
STUDI AFRICANISTICI
HISTORY AND LANGUAGE OF THE TIGRE SPEAKING PEOPLES
Proceedings of the international Workshop
Naples, February 7-8 , 2008
Edited by : GIANFRANCESCO LUSINI
*(حكام إرتيريا الشرقية والشمالية وأجزاء من حماسين وأكلي جوزاي ودنكاليا لفترة طويلة قبل الاستعمار الأوروبي)

شاهد أيضاً

مواضيع الناقوس-العدد 11- مقابلة العدد مع المناضل/ عبدالله سعيد علاج

الجزء الأول أجرى الحوار: الصحفي محمود أفندي   تحاور مجلة الناقوس المناضل الكبير عبدالله سعيد …

شخصية العدد- المناضل المغييب محمد عثمان داير (الناقوس العدد 11)

       المناضل المغيب / محمد عثمان داير                   …

المنخفضات -تنخفض الأرض.. ترتفع الهمم (الناقوس العدد 11)

بقلم/ ياسين أمير الجغرافيا رسم الاله على صفحة الكون.. والجغرافيا ترسمنا حين نحسب أننا رسمنا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *