الاستيطان والتهجير القسري

بقلم الاستاذ / محمود أفندي
الاستيطان ظاهرة سالبة يتم بموجبها جلب جماعات من مواطنها الاصلية ومنحها الاراضي والدعم المادي والحماية اللازمة لتسكن في مواطن مجتمعات أخرى بالاكراه، وتختلف من الهجرات الطبيعية التي مارستها شعوب مختلفة عبر التاريخ، والتي تقوم على أساس وجود أماكن جذب يهاجر إليها افراد او جماعات بشرية لتتعايش مع المجتمعات المحلية، وتحترم عاداتها وثقافاتها وقيمها المجتمعية، وخير دليل على ذلك أن المكونات التي تقطن المنخفضات مشهودا لها بإستقبال الهجرات المحلية وحتى الهجرات الخارجية من اليمن، والحجاز، والصومال، والسودان، ونيجيريا، والهند في اراضي المنخفضات، فلا غرو ان تتعايش في وطن واحد .
ان عملية الإستيطان الواسعة والتي بات يمارسها نظام الهيمنة القومية في أراضي المنخفضات منذ فجر الاستقلال بذريعة الإعمار والتنمية وغيرها، ما هي الا استمرارا لعميلية الاستيطان التي نفذها نظام هيلي سلاسي عن طريق العميل / قبرقال، بنقل أسر كثيرة من مسيحيو التقرنية الى منطقة القاش، اثر احراق قرية عد ابرهيم وتهجير شعبها وابادة ثروتها الحيوانية في ستينيات القرن الماضي.
ان ما يقوم به النظام هو ارساء لمشروع ممنهج يهدف الى إقصاء وتهجير مكونات المنخفضات من اراضيها بإتخاذ احكام وقرارات جائرة يصدرها لمصادرة هذه الاراضي من اصحابها تحت ذريعة تجميع القرى وبعثرة هذه المكونات من اراضيها التي عاشت فيها منذ قرون وكذلك بحجة الارض لمن يفلحها تمنح هذه الاراضي لمن يتم جلبهم من مناطقهم الاصلية، وتسخر لهم البنوك القروض المالية طويلة الاجل ويحصلون على دعم ومساندة الوزارات المعنية سواء بتقديم المواد العينية او بالمشورة ووضع الخطط ودراسات الجدوى للمشاريع التي سيتم تنفيذها، والسؤال الذي لم يجد الاجابة حتى يومنا هذا هو …..ما الذي منع النظام من تقديم القروض المالية والدعم المعنوي لأصاحب الارض الأصليين بدلا من إنتزاع الارض وإعطاءها لمن لا يملك المال والارض معا؟
ان نزع الاراضي من اصحابها بشكل مخالف للقانون والاعراف واتباع الأساليب القذرة بتلفيق التهم بالباطل لاصحاب الارض بحيث يقضوا حياتهم خلف اسوار السجون، وأيضا مصادرة اراضي زراعية من أصاحبها بالرغم من ثبوت ملكيتها واستيفاء مستحقاتها من الضرائب بحجة التأخير عن دفع هذه المستحقات في موعدها المحدد، والاغرب من ذلك انهم لم يجدوا حتى الاموال التي دفعت للضريبة باعتبار أن الاموال التي تدخل الخزينة لا تعاد الى اصحابها.
في الوقت نفسه نجد العكس حيث تُحارب مكونات المنخفضات في وسط العاصمة اسمرا التي كانت تمتلك عدد لا بأس به من مباني سكنية وعقارات لكن اليوم اصبح وجودهم لا يتجاوز اسابع اليد نظرا للمضايقات وخلق العراقيل لهم مما فضلوا تركها .
وبالعودة الى موضوع الاستيطان حاول النظام ان يتلاعب بتغطية مصادرة أراضي مواطني المنخفضات لصالح قومية التجرنية، باشراك اوخلط عدد قليل من مُسلمي كبسا وادخالهم ضمن عملية الإستيطان وتوزيعهم في مناطق تعرف عند اهالي القاش بـ (السبوت) اي اراضي جدباء لا تصلح للمرعى والحرث والعيش والطقس فيها شديد الحرارة علاوة على انها تعتبر موطنا للذئاب والعقارب والثعابيين، الامر الذي ادى الى مغادرتها منذ الايام الاولى، فكانوا ما بين من عادوا الى أهليهم في الهضبة بخفي حنين، ومن واصل طريقه الى السودان التي هي اقرب اليهم من مسقط رأسهم من حيث المسافة لينتهي بهم الامر في معسكرات اللجوء، وبالمقابل عكسهم تماما ومن شد الرحال معهم من التجرنيا تم وضعهم في ارض كانوا يسمونها بـ (بسبحتي مريت ) اي تعني الارض البكر في عمق القاش وعلى ضفة سيتيت فشتان ما بين (السبوت – وسبحتي مريت ).
هناك من يُوهم نفسه بمشاريع الاعماروالبناء المتمثلة في بناء السدود خاصة في القاش بركه ويعتقد انها ستكون نعمة او انها ستساهم في النهضة الزراعية لاهالي تلك المناطق، ولكن اهدافها الحقيقية هي حصر المياه التي تنحدر من المرتفعات الى اراضي القاش بركه لتنحدر خلف هذه المياه الافواج البشرية، كتلك التي عجت بها منطقة كركبت وشييدت فيها مساكن بالقرب من السد تسع لـ 2000 اسرة .
ومن قواعد الضيافة التي يستخدمها النظام لتشجيع الاستيطان يتم دائما تكليف الجيش المغلوب على امره بتمهيد الاجواء لمساعدة مواطني كبسا في مثل هذه الاجواء بالاضافة الى اعمال العبودية الاخرى .
ففي منطقة كركبت تم تكليفهم بسحب اغصان الاشجار الكبيرة التي تمت ازالتها لمجرى السد وذلك لإحاطة زريبة كبيرة تصل مساحتها الكيلو يتوسطها مبنا كبيرا علقت عليه الاجراس ليصبح كنيسة، وعلى بُعد امتار منها يجاورها مسجدا من القش وبروش السعف المتهالك يغطي أجزءا غير يسيرة من الراكوبه التي كانت تمثل استراحة لدواب أهالي المنطقة بين كل فريضة وحالة كر وفر بينها وبين المؤذن، وكذلك المصلون الذين يأتون قبل اداء الفريضة وركعات السنن عليهم تنظيف بقايا وروث مخلفات الدواب لكن الله اراد أن يبعد الدواب من بيته وإلى الأبد لتصبح هذه الراكوبه بناية من الطوب الاحمر والحجر والاسمنت وعليها محراب ومأذنة وقبة خضراء وجدار يحيط بها على مساحة تصل الـ 400 متر خلال اشهر معدودة، ربما يسأل سائل كيف تحولت هذه الراكوبه بين ليلة وضحاها مسجدا يضاهي مساجد المدن في هذه القرية البعيدة؟
في احدى زيارات رئيس النظام للسد في منطقة كركبت التفت الى الجهة اليمنى وشاهد زريبة كبيرة تحاط باغصان الاشجار يتوسطها مبنى مشييد بالحجارة، سال المهندس الذي كان يشرف على السد والمنطقة معا ….. ما هذه الزريبة ؟
رد المهندس قائلا هذه كنيسة للمواطنيين القادمين من المرتفعات وعلى يسار الشارع شاهد المسجد يتعبد فيه الناس والحيوانات معا .
ربما وقتها شعر الدكتاتور بظلمه وجبروته طأطأ راسه ويقال صمت هنيهة والعهد على الراوي حقيقة المنظر كان محرجا بالنسبة له حيث أمر مهندسه ببناء مسجد خلال اشهر، وقال له قبل زيارتي القادمة يكون قد اكتمل المسجد …… انتهى الكلام .
وجاء موعد الزيارة الثانية وبالفعل كانت الركوبة قد اختفت من على الوجود تماما واختفت معها الحيوانات واخذ المسجد مكانته الطبيعية.
بالتأكيد ان قرار الدكتاتور لبناء هذا المسجد لم يكون نابعا عن نية صادقة او من باب ارساء العدالة المجتمعية ولو بالقدر الضئيل بل تعود أن يظهر بمثل هذه المظاهر المخادعه في بعض الازمنه والأمكنه واتخاذ قراراته من اجل إلهاء الرائ في داخل وخارج البلاد ودغدغة مشاعر البسطاء من هذه المكونات، وتتكرر مثل هذه المواقف النادرة بأشكال مختلفة في كل عشر سنوات مرة او مرتين، وبالرغم من قلتها تتبعها نوايا خبيثة ما خفي لها اعظم، فبناء هذا المسجد اليوم في هذه القرية الهادئة قد يكون مصدر فرحه لاهلها لكن سرعان ما تكون هذه الفرحة كارثية عندما يذهب الامام ويليه المأذون ومن ثم رواد هذا المسجد بعد اشهر قليلة من مراسم الافتتاح الى أماكن مجهولة، ويبقى المسجد مكانا خاليا يفضل الناس حينها عهد تلك الراكوبة التي كان الشيخ وابناءه يصلون فيها دون خوف ويرتلون فيها ما تيسر من الكتاب، بعيدون عن متابعة وإشرف اعضاء مكاتب الافتاء المغلوب على امرهم ومكاتب شؤون الديانات التي يترأسها من لا يدين بالاسلام دينا .
فكيف لهذا الدكتاتور ان يأمر ببناء مسجد في هذه المستوطنة في حين يمنع ترميم وبناء المساجد في انحاء ارتريا، كما ان العديد من المشايخ وأئمة المساجد وتلامذتهم يقبعون خلف السجون، وبالامس القريب يمنع تدريس العلوم الدينية، وارتداء الحجاب في مدرسة الضياء الاسلامية وسجن الشهيد البطل الشيخ موسى محمد نور الذي قال كلمته المشهودة (لا نقبل الشروط التي يريدون فرضها على مدرستنا، ولن يستطيع أحد أن يفرض علينا ما لا نريد، ونحن نتبع الإجراءات السليمة وليس هنالك ما يجعلنا نخاف، ومات على كلمة الحق في سجونه المظلمة.
ان الشعب في المنخفضات الذي يتمع بقد عال من التسامح وقبول الاخر، ليس ضد المواطنه وحق التملك في أي شبر من ارتريا، الا انه يرفض مبدأ الاستيطان الممنهج، لما فيه من تعد صارخ على حق المواطنة التي تُحدد بموجبها الحقوق والواجبات وإحترام المواطنين الآخرين الذين يعيشون معهم على الأرض ذاتها، والذين يتقاسمون معهم المأكل والمشرب، في الماضي، والحاضر، والمستقبل.

شاهد أيضاً

مواضيع الناقوس-العدد 11- مقابلة العدد مع المناضل/ عبدالله سعيد علاج

الجزء الأول أجرى الحوار: الصحفي محمود أفندي   تحاور مجلة الناقوس المناضل الكبير عبدالله سعيد …

شخصية العدد- المناضل المغييب محمد عثمان داير (الناقوس العدد 11)

       المناضل المغيب / محمد عثمان داير                   …

المنخفضات -تنخفض الأرض.. ترتفع الهمم (الناقوس العدد 11)

بقلم/ ياسين أمير الجغرافيا رسم الاله على صفحة الكون.. والجغرافيا ترسمنا حين نحسب أننا رسمنا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *