شيء من التاريخ غير الموثق – المعهد الديني الإسلامي بأغوردات


 الحسين علي كرار

لمحة تاريخية عن تأسيس المعهد 1962م

تعتبر مدينة أغوردات من المدن ذات الأنهر الموسمية، التي يقسمها نهر بركة إلي قسمين، وإن كانت المدينة في معظمها تقع علي شطره الجنوبي وتتخللها أشجار الدوم والبساتين ابتداءً من قارعوبل ومرورا بنهر ياقي الرافد، ومشروع تكرريت الكبير، حيث كانت الاستثمارات في البساتين كبيرة وخاصة مشاريع الإيطاليين، التي كان يزرع فيها الموز والطماطم والفلفل الأخضر والتي كانت تعبأ في المدينة ثم تصدر إلي الدول الأوروبية، وكذلك الثروة الحيوانية وخاصة الأبقار التي كانت تباع في الزريبة والتي كانت تشكل مع انشطة أخرى عصب الحياة الاقتصادية للمدينة، وكانت شركة أنكودي للمعلبات العميل الأكبر، وكانت الابل تُسوَّق في الزريبة ثم تصدر إلي السودان عن طريق الوكيل خالد علي قيد لصالح علي أزرق في كسلا، بالإضافة إلي الحركة التجارية النشطة، ففي أثناء النهار كانت تعج المدينة بالحركة بسبب المتسوقين القادمين من الضواحي وبعد العصر كانت تقل الحركة برجوع هؤلاء إلي قراهم، وفي يوم الأحد كانت تزدحم شوارعها بعمال السواقي الذين يأتون لقضاء حوائجهم، وكان معظم تجار الملبوسات والمواد الغذائية من الجالية اليمنية الكريمة التي كانت جزءاً لا يتجزأ من المجتمع، و كان هناك من يعمل من أبناء المدينة بالتجارة كالسادة حامد شريف الذي كان مورد السكر الأثيوبي (ونجي) وقتلته أثيوبيا يوم الأحد المشئوم، وعبد الله مريقاي وإسماعيل الأزهري وإبراهيم كلفي وأبوبكر حجاج وغيرهم من التجار.

وكذلك كانت هناك عائلات متخصصة في المهن. ففي سوق الصاغة، كانت اسرة كلٌ من آل صائغ، آل جابر، آل ليمان، آل شنان، وآل شهابي، وفي سوق المواشي آل جباداي، وآل ركا، والدلالين الوسطاء حيث كانت الابقار تساق اسبوعيا الى سوق اسمرا.

وهناك أسواق متخصصة، سوق الخضار واللحوم، واسكدورية الخردوات، وسوق السمن والتجليد والحدادة وسوق العيش وسوق البروش، بالإضافة لأشهر المطاعم يتقدمها مطعم الشيباني وأشهر فوّال حسين القودري، ومن المقاهي المشهورة قهوة آل قشاري التي كانت تفتح علي جامع الأرواح، كما كان يفتح عليه ايضا مكتب شيخ السوق عثمان همد ومكتب البلدية الذي كانت تستخرج منه البطاقات الشخصية، وهي ساحة واسعة رملية تتوسط المدينة وكانت مصلي العيد وكان ملحها وطعمها الظريف (آدم بلمات) المصاب بالنفسيات، وفي صباح كل يوم يجلس تحت شجر النيم يشاكس المارة ويشاكسونه، وقد سميت هذه الساحة بجامع الأرواح، حيث يجتمع فيها الناس في المساء ويجلسون علي الرمال في حلقات للدردشة وحل بعض المشاكل الاجتماعية ومخالصات المبالغ في عمليات البيع والشراء التي تمت بالنهار في سوق الزريبة وغيرها، وكان في المدينة كذلك مشايخ يثرون الحياة الاجتماعية والدينية بمواعظهم كالشيخ حامد عبد الهادي مفتش التعليم وأبو الحسن محمد صالح فكاك أمين مستودع التعليم، والشيخ الحسين عرطا إمام المسجد وصاحب الدروس المنتظمة بعد صلاة العصر والأستاذ عبد القادر خليفة والقاضي الأمين عثمان (المفتي حاليا) الذي سبقه القاضي إدريس والشيخ حاج علي وكان شيخا متجولا ومن أصول دولة النيجر.

هكذا كانت مدينة أغوردات جاهزة ماديا وذهنيا لإنشاء المعهد الديني وتحمّل تكاليفه، ففي عام 1959 عندما تم بناء المسجد كانت هناك خلوة لقراءة القرءان في المسجد بإدارة الشيخ محمد إبراهيم المؤذن، وفي مرحلة تالية اتخذ من المسجد الأستاذ محمد عبد الله عثمان أول مركز لتعليم الكبار ولهذا كان الفصل الأول في المعهد عند البداية من الأعمار الكبيرة ولكن ما تلاه من فصول كان العد بالتنازل حيث أصبح الطلاب من الأطفال، والأستاذ محمد عبد الله هو خريج مدرسة كسلا الثانوية الأهلية ومن سكان المدينة وأصبح فيما بعد أحد المعلمين في المعهد ثم انتقل بتلامذته من المسجد إلي منزل محمد قاضي وهو خاله وخال آل حميدان وقد تبرع محمد قاضي بقطعة أرض كانت قريبة من المسجد كوقف تم بناء معهد الطالبات فوقها في مرحلة لاحقة، ومن هذا المنزل انتقلت سبورة المعهد إلي مبانيه الحديثة، وعندما وصل الشيخ عبد الله ازوز من أم درمان بعد أن أكمل دراسته في معهد أم درمان العلمي الذي تغني به شعراء السودان وأصبح في ما بعد جامعة أم درمان الإسلامية، كانت مدينة أغوردات جاهزة لاستقباله لتأسيس المعهد الديني الإسلامي بها وتحمّل نفقات البناء وتوفير المعلمين علي نفقة المحسنين حيث كانت السيولة متوفرة بقوة حركة سوق المواشي وسوق الخضروات والفواكه ونشاط الحركة التجارية، وكذلك الأوقاف الكثيرة التي كانت للمسجد ودخلها الزائد عن حاجته فقد بلغت وقتها أكثر من ثلاثين بابا (دكان)، فهي كانت تغطي رواتب العاملين في المسجد وكذلك معلمي المعهد فيما بعد وقد زاد عدد الأوقاف بكثير.

استقبلت مدينة أغوردات بأعيانها الشيخ عبد الله أزوز، نذكر منهم الشيخ محمد أكد هرودة وكان محافظ المدينة والشيخ عثمان عبد الرحمن شفراي والشيخ دبساي قرزا والشيخ عبد الرقيب محمد صادق، وقد تزوج الشيخ عبد الله من ابنة الشيخ عبد الرقيب، إذ كانت النفوس صافية وكان الحب في الدين لوجه الله يملأ القلوب فنجد هنا أن الشيخ عبد الرقيب كان صوفيا وخليفة الطريقة الختمية في أغوردات بينما كان الشيخ عبد الله أزوز محسوبا علي السلفية، لأن الناس كانوا يقبلون بعضهم دون تكفير هذا أو ذاك، فقد بدأ الشيخ عبد الله التدريس في السنة الأولي في داخل المسجد الكبير ومنزل محمد القاضي مع الأستاذ محمد عبد الله، وكانت هناك قطعتان من الأرض غرب المسجد إحداهما مملوكة لأحد المحسنين اليمنيين وكان يسكنها مؤذن المسجد الشيخ محمد إبراهيم فتبرع بها المحسن لبناء المعهد، والأخرى كانت مملوكة للشيخ محمد القاضي كما تم ذكره – فتبرع بها كذلك للمعهد وفيما بعد بني فوقها معهد البنات، والذي كان يديره كذلك الشيخ عبد الله وهو مكون من أربعة فصول ومكاتب المعلمات والمنافع الحديثة والكفتيريا، وهكذا بدأت اللبنة الأولي لهذا المعهد الذي ترك أثرا كبيرا كما سنري في تلك المرحلة الذهبية القصيرة التي تعطلت بعد قيام الثورة ووصول الطائفيون للحكم، والمعلومات هنا للتوثيق، فقد تم جمعها من أشخاص عاشوا تلك المرحلة أو كانوا طلابا ومنهم الأخ أبو بكر حجاج والشيح أحمد محمد إبراهيم مؤذن المسجد ومحمد صالح عثمان همد ويوسف أحمد ومختار الحسين والقاضي حاج احمد عثمان الذي كان زميل دراسة للشيخ عبد الله ازوز في معهد أم درمان العلمي.

لقد تم تأسيس المعهد في العام 1962 م وتم بناءه بغرف حديثة واسعة تتكون من أربعة فصول ومكتب للمعلمين ومكتب لناظر المعهد ومنافع حديثة وكافتيريا كان يديرها السيد ياسين صالح قشاري، وساحة كبيرة في الوسط تم بناء عريشة كبيرة فوقها كخلوة لتعليم القرءان الكريم، وكان بأطراف الجدران جداول زينة من الزهور، وقد تم اختيار المنهج الدراسي للتعليم حسب منهج معهد أم درمان العلمي لأن المعلمين كانوا من خريجي ذلك المعهد، وهم الأساتذة الشيخ عبد الله أزوز والحسن عثمان محمد وحامد محمد حامد واحمد محمد نور والأستاذ محمد عبد لله عثمان خريج مدرسة كسلا الثانوية الأهلية، وكان للشيخ عبد الله صلة بمعهد أم درمان لتزويده بكتب المنهج الدراسي سنويا، و الطالب في بداية كل عام كان يدفع مبلغ عشرة دولار أثيوبي – وقتها العملة الأثيوبية كانت بالدولار – مقابل صرف الكتب، ثم تعاد الكتب إلي المعهد في نهاية العام الدراسي وهذا المبلغ كذلك كان يدفعه شهريا طالب القرءان الكريم في الخلوة، ويقول القاضي احمد عثمان الذي درس في معهد أم درمان العلمي كنا كوكبة طلبة منسجمة في ذلك الوقت، هو والشيخ عبد الله ازوز، وإبراهيم أشقر، وبدوي محمد طاهر، ومحمد صالح أدم أزماتي الذي كان في القاهرة ثم انتقل إلي معهد أم درمان، والحسن عثمان محمد، وحامد محمد حامد، وفيما بعد احمد محمد نور، كانوا جميعا رفاق في الدراسة. كان بعضهم يسكن في داخلية المعهد والبعض الآخر كان يسكن في مسجد عبد العزيز بأم درمان ومنهم الشيخ عبد الله، وكان محمد صالح أدم أزماتي يسكن في وادي سيدنا، وهؤلاء فيما بعد منهم من أصبح قاضيا أو واعظاً او معلماً.

 . 

هكذا كان المعهد يضج بمعلمين أكفاء مستقرين مادياً ومعنوياً، وكان المقرئ في الخلوة التابعة للمعهد الشيخ محمود إبراهيم إغراي، ثم تركها وأصبح مؤذنا في مسجد كسلا الكبير وقد خلفه الشيخ محمد عبد الله الذي قتلته أثيوبيا في مجزرة أغوردات داخل المعهد وكلاهما كانا من حفظة القرءان الكريم في القرى السودانية حول أم درمان “ود أب صالح” و “أم ضواً بان”. لهذا كان عطاء المعهد قويا، وكانت الخلوة رافدًا مهماً للمعهد تزوده بالطلاب لأن من يقبلون فيه كانوا ممن يعرفون الكتابة والقراءة.

عند تأسيس المعهد كان الطلاب يجلسون علي البروش في السنوات الأربعة الأولي، وفي السنة الخامسة من تأسيسه قام الطلاب بتشكيل لجنة من الفصول الأربعة وقاموا بتبرعات وفرضوا علي كل طالب مبلغ عشرة دولار وبهذه التبرعات تم شراء كنب الجلوس لكل الفصول ومكتب المعلم في الفصل بالإضافة إلي مكتبة (دولاب) خاصة بالطلبة كانت توضع فيها الكتب الثقافية كقصص الأنبياء وقصص الصحابة وغيرها حيث كانت متوفرة بكميات مقدرة، وكان يتم استعارة الكتاب بقرش واحد لمدة أسبوع، وكانت للمعهد أنشطة ثقافية، فمساء كل خميس بعد صلاة المغرب كان الشيخ عبد الله يلقي محاضرة في موضوع ديني معين، ومساء كل أربعاء بعد صلاة العصر كانت تقام ندوة خطابية لتدريب الطلاب وكان يرأسها الأستاذ محمد عبد الله عثمان رئيس اللجنة الثقافية وكان خطيبا وبليغا في المناسبات الإسلامية، وصاحب خط جميل علي السبورة، وكان متخصصا في كتابة إعلانات المعهد، فيحضّر من يريد المشاركة من الطلاب خطابه ويلقيه، وكان الأستاذ يعطي ملاحظاته بعد ذلك، ولهذا في الاحتفالات العامة وفي المناسبات كان يقدم الطلاب مشاركاتهم دون خوف وبجرأة في الإلقاء والتمثيل.

كان الشيخ عبد الله متأثرا كثيرا بالطلبة الارتريين الذين كانوا يسافرون من السودان الى مصر سيرا على الأقدام لمواصلة تعليمهم في الأزهر الشريف، وقد حكى لي أخونا حسن شيخ في جدة في الثمانينات كيف كانت معاناتهم وهم في طريقهم الى مصر حيث لدغه ثعبان في الطريق وورمت قدمه وتعذر أن يواصل معهم المسير، فجاءوا إلي قرية مصرية في الطريق، وشرحوا لهم ظروفهم وكانوا محظوظين كما قال، كان بينهم رجل مهاجر من الرشايدة، فعرفهم وعرف أهله  فقال “لهم أعرف والده وأسرته فأهلا بكم، أنتم واصلوا سيركم، سأعالجه وستجدونه بعد يومين معكم”، ذكرت هذا الحدث فقط لتعرف الأجيال كيف كان هؤلاء يغامرون بأنفسهم عن طريق الصحراء بحثا عن العلم، هربا من نظام الاستعمار الأثيوبي وكرها أن يدرسوا لغته الأمهرية التي فرضها عليهم، وبعد ذلك ساهموا بقوة في تأسيس الثورة الارترية التي لم ينعموا بنعيمها ودفنوا خارج الوطن وقلوبهم مملوءة بدمل القهر.

وقد وصل إلى القاهرة طالب المعهد محمد صالح عمر عن هذا الطريق وأرسل من هناك بصورة شخصية وهو واقف على شاطئ النيل إلي الشيخ عبد الله بفرحة وصوله وقبوله في الأزهر الشريف، ففرح بهذه الصورة فرحا شديدا وعرض الخطاب والصورة على طلاب الفصل الثالث والرابع وبكل افتخار يبعث في النفوس الحيوية والبحث عن طلب العلم أينما كان، فذكرتنا هذه الصورة ببيت من الشعر لحافظ إبراهيم.

نهر تبارك مائه فكأنه ** الروح التي تحيا بها الأجسام

فالذكري والحب والطرب الشديد من الطلبة لمصر لم يكن لنهر النيل بل كان الحب لمصر عبد الناصر التي كانت تشعل الروح الثورية في أفريقيا، وبالأزهر الشريف الذي كان رمز العلم للعالم الإسلامي.

كان الشيخ عبد الله يدرّس مادة الفقه للفصل الثالث والرابع وكذلك حديث الأربعين بعد الحادية عشر وكان يصيب الطلاب شيء من الجوع والملل والكسل لذا كان يأتي بالنكت التنشيطية ويُضحك الطلاب على الرغم من أنه كان صارما وقليلا ما كان يضحك مع الطلاب.

كان شخصا قويا في الإدارة والحديث وكان مهابا ومحبوبا في المجتمع لما كان يقدمه من وعظ وإرشاد ونصح وقد انتقد الجواسيس بشجاعة نادرة بحضور محافظ المديرية إمبابي هبتي بعد صلاة العيد في عام 1966م  كما انتقد المراغنة وآل الشيخ مصطفي علي ملاحظات كان يذكرها في وعظه في المسجد، وكانوا يقبلون وعظه بنفس رحبة، لأنه كان رجل دين صادق، وكانوا أهل دين صادقين، كما انه لم يترك جبهة التحرير المهابة وانتقدها من أعلي منبر الجامع لبعض التجاوزات التي كانت ترتكبها، فكان له الكثير من المحبين والمعجبين الذين يزورونه في المكتب بشكل يومي، ولم يُضعف عزيمته القوية مرض السكري الذي كان يعاني منه ويسبب له الفتور الشديد.

  . 

وهنا اورد واقعة تدل على ادراته القوية للمعهد، كانت خلوة القرءان الكريم في المعهد أشهر خلوة في أغوردات، وفي هذه الخلوة اختفى اللوح والدواية والشرّافة والعجوة، فقد كانت القراءة من المصاحف، وكانت الخلوة مكتظة بالطلاب، ومن بينهم ابنان للسيد محمد عثمان الميرغني، يرافقهما طفلان آخران (حيران) يحملان السجاد وزمزمية الماء، واستمر الموضوع، فاتصل الشيخ عبد الله بالميرغني فلما حضر أخبره إن ابنيه يجلسان علي سجاد عجمي لم يجلس عليه شيخهما الحافظ للقرءان، وأنتم أهل الدين والعلم فهل يعقل ذلك؟ أما زمزمية الماء والمرافقان فلا مانع في ذلك، فتقبل الميرغني هذا، وعندما سُئل لماذا قبل بالحيران، قال الطفلان مستفيدان بقراءة القرءان حيث يدرسان على حساب الميرغني فإن منعهم سيحرمهم من القراءة.

كما رفض إدخال اللغة الإنجليزية في المعهد كلغة علم حديثة بحجة أن دخولها سيعطي الأثيوبيين فرصة لإدخال لغتهم الأمهرية في مناهج المعهد وهو أمر لم يكن مقبولا.

اللهم أغفر وأرحم لمن توفى منهم جميعا وتقبلهم قبولا حسنا، وأنزلهم نزل الصديقين في جنات النعيم، وعافي وأشفي ووفق من كان منهم حيا لعمل ترضاه يا رب العالمين.

عند الالتحاق  بالمعهد كان الشرط الأساسي أن يجيد الطالب القراءة والكتابة، ويوفر الملابس الرسمية للدراسة وهي الجلابية والعمة البيضاء، ومبلغ عشرة دولار رسوم الكتب، يدفعها الطلاب بداية كل عام وكان الكثيرون من الطلبة يَفِدون إلي المعهد من المدن والقرى الأخرى،  ولبساطة الحياة وتخلق الناس بالأخلاق الكريمة كان الطلاب ينزلون عند بعض معارفهم ، أو في سكن تابع للمعهد وملاصق له، او في وكان عمدة هذا السكن الشيخ محمد علي تورس، حيث يتجمع بعض الطلاب عنده في الفترة المسائية أو صباح كل جمعة  للدردشة وأحيانا للمطارحة الشعرية.

وفي طابور الصباح كان النشيد أسماء الله الحسنى، التي تبدأ بــ ((إن لله تسعة وتسعين اسما هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، الخ. فكان الطالب يحفظ اسماء الله الحسنى عند قبوله بالمعهد وقبل استلامه للكتب لينضم الى طابور الصباح ويردد النشيد مع زملائه.

وكان نشيد المعهد هو نشيد معهد أم درمان العلمي حيث نقله المعلمون من هناك:

هلموا هلموا إلى معهدي ***  إلى الدين والعلم والسؤدد

إلى لغة الضاد كي نهتدي  ***   إلى الحق والخلق الأمجد

حباه الإله بقرءانه   ***  وأولاه فضلا بإحسانه

فكم من قلوب به آمنت  ***   وكم من نفوس به أيقنت

وكم من عقول به أذعنت  ***   وكم في المعالي له من يدي

يعم القريب ويعطي البعيد ***    ويسقي الصبي ويروي الرشيد

ويولي الشمال ويولي السعيد  ***  حياة وريا لكل سدي

هذه بعض الأبيات من النشيد، ويقول الشيخ الحاج أحمد عثمان وهو من طلبة معهد أم درمان العلمي وكان قاضيا في كل من بارنتو وأغوردات ثم في المحكمة العليا في أسمرا، إن كاتب النشيد هو الشيخ شاهين، المصري الجنسية وكان معلما بمعهد أم درمان العلمي.

وكان لمعهد أغوردات نشيد آخر ينشد في الاحتفالات أثناء عرض الطلاب في الساحة الخارجية، وأعتقد أن كاتبه هو الشيخ عبد الله أزوز حيث كان ينشده الطلاب أثناء طابور العرض في الاحتفالات وفي المناسبات الدينية العامة واحتفالات نهاية السنة التي كانت تقدم فيها الكلمات والتمثيليات، توزع فيها الجوائز للطلاب الأوائل، وكانت عبارة عن جلابية وعمة وشال للفائز الأول، وجلابية وعمة للفائز الثاني، وجلابية للفائز الثالث وكانت كلمات النشيد معبرة عما كان يقوم به المعهد:

إلى الأمام إلى الأمام

يا جنود القرءان

القرءان القرءان

مبعث الإيمان

هذّب الإنسان

علّم البيان

نحن جنود القرءان

في الزمان والمكان.

أما النشيد الوطني الذي كان ينشد في هده المناسبات فكان مطلعه:

بلادي سلمت وروح الفداء *** وصوتي لصوتك رجع الصدى

والقصيدة معروفة في الكثير من الدول العربية، والغريب أن الدعوة كانت تشمل أعيان المدينة ورجال الدولة وكان يحضرها محافظ الإقليم وأحيانا قائد الجيش الأثيوبي منعا لتبرير استثناءه، ولم يكلفوا أنفسهم أن يسألوا عن المقصود بالبلاد في النشيد هل هي أثيوبيا أم كانت ارتريا، وربما كان يفسرها كل على قصده.

وكان المنهج الدراسي يعتمد على قاعدة “من حفظ المتون حاز الفنون” وهي قاعدة مفيدة في التحصيل مع الفهم ولكنها شاقة في التطبيق لأن المتون كانت كثيرة.

ولتقريب الصورة، كان المنهج يحتوي على حفظ ثمانية أجزاء من القرءان الكريم خلال السنوات الأربعة، في كل سنة جزءان، من جزء (عمَّ) إلى قوله تعالى (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء) في سورة (يسن). وفي اللغة العربية كان يدرس لطلاب السنة الاولى “متن الأجرومية” حفظ وشرح اضافة الى “التحفة السنية”، أما في السنة الثانية فكان يدرس للطلاب “متن الأزهرية” حفظ، وشرحه “تنقيح الأزهرية”، والفصل الثالث والرابع كان يدرس الطلاب “متن قطر الندى” حفظ، وشرحه “قطر الندى وبل الصدى”. والشروح كانت تباع خارج المعهد عكس المتون التي كانت تصرف للطلاب من المعهد.

وفي الفقه لطلاب السنة الأولي “متن العشماوي”، و”متن العزية” للسنة الثانية، وللسنة الثالثة والرابعة “رسالة الإمام مالك”، مع التركيز على البيوع في السنة الثالثة، إضافة الى باب الحدود، وفي السنة الرابعة يدرس الطلاب الأحوال الشخصية – الزواج والطلاق والميراث والوصية.

أما في السيرة النبوية، “سيرة ابن هشام”، السيرة المكية للسنة الأولي، والسيرة المدنية للسنة الثانية حتى وفاته عليه الصلاة السلام، وسيرة الخلفاء الراشدين أبوبكر وعمر والفتوحات الإسلامية في السنة الثالثة، وعثمان وعلي والفتنة الكبرى في السنة الرابعة.

وفي التاريخ كان يكتب على السبورة تاريخ العرب القديم، العرب البائدة، والعرب العاربة من فينيقيين وأشور وكلدانيين وكنعانيين وعبرانيين وفراعنة وعرب عاد وثمود.

وفي الأخلاق والسلوك، كتاب التيسير في الأخلاق للسنة الأولي والثانية ويتناول تعريفات التقوى والألفة وبر الوالدين وغيرها، ثم حديث الأربعين النووية في السنة الثالثة والرابعة، عشرون حديثا لكل سنة حفظا.

وكان شعر المحفوظات محصورا في الشعراء المسلمين ككعب ابن زهير في مدح الرسول:

 إن الرسول لنور يستضاء به  *** مهند من سيوف الله مسلول

والفرزدق الذي مدح العلوي عندما تساءل الأمير الأموي من هذا فرد عليه:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ***  والبيت يعرفه والحل والحرم

وفي جانب العدل في الحكم حافظ إبراهيم:

 أمنت لما أقمت العدل بينهم   ***    فنمت قرير العين هانيها

وما استبد برأي في حكومته   ***   إن الحكومة تغري مستبديها

 وكذلك في سقوط الدولة العثمانية عند الهزيمة:

يا أخت أندلس عليك ســـــلام    ***    هوت الخلافة عنك والإسلام

جرحان تمضي الأمتان عليهما ***   هذا يسيل وذاك لا يلتام

وقصيدة شوقي في العمال حيث لم يكن يعرف المجتمع مثل هذه الأعياد بعد الاحتلال الأثيوبي، فعرف الطلاب أن للعمال عيد:

 أيها العمال أفنوا العمر كدا واكتسابا

 واعمروا الأرض فلولا سعيكم أمست يبابا

 أما في الحض على التنقل ورفض الجمود فقصيدة الإمام الشافعي:

 سافر تجد عوضا عمن تفارقه *** وانصب فان لذيذ العيش في النصب

 إني رأيت وقوف الماء يفسده *** إن سال طاب وإن لم يسل لم يطب

وفي طلب الغفران من الله:

يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة  ***  فلقد علمت بأن عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن  ***   فبمن يلوذ ويستجير المجرم

وفي السنة الثالثة والرابعة كان يدرس علم الصرف في اللغة العربية في أوزان الأفعال لمعرفة المصادر.

 وعلم التوحيد واختلاف العلماء في الأدلة والصفات في علم الكلام، وظهور أهل السنة والخوارج والأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والكلابية وغيرهم من علماء علم الكلام.

وفي الجغرافية في السنوات الأربعة كانت تدرس التضاريس والمناخ ومواقع الدول في القارات وشعوبها.

أما الرياضيات فقد كانت محصورة في الجمع والطرح والضرب والقسمة العشرية والمئوية ثم الإملاء والخط والإنشاء والمطالعة التي كانت توزع فيها الكتب على الطلاب وهي طبعات من المناهج المصرية، ويقرأ كل مرة أحد الطلاب وتناقش المواضيع وذلك للتمرين على القراءة وفي نهاية الحصة تجمع الكتب وتوضع في مكتبة المعهد.

هكذا كان المستوي العلمي للمعهد من حيث المعرفة، إذ كانت علومه مداخل للمعارف الكبرى.

هذه المرحلة التي كانت تسمي المرحلة الابتدائية وتصدر بها الشهادة، في واقعها كانت مرحلة ثانوية وبعض هذه المناهج يدرس في الجامعات الإسلامية العربية.

بعد التخرج وقضاء السنوات الأربعة، كان الطالب يقف حائرا، ولهذا كان الطلاب يطالبون إدارة المعهد زيادة عدد الفصول للانتقال إلى المرحلة الثانوية وكانت المطالب قبل افتتاح معهد الطالبات بفصوله الأربعة، حيث كانوا يريدون أن تكون مثل هذه الفصول كذلك للطلاب لاستمرار تطور المعهد وضمان مستقبلهم العلمي، ولكن الشيخ عبد الله، كان يصر أن لا تكون هناك مرحلة ثانوية، لأنه بخلاف الطلبة كان يدرك أن المرحلة التالية في هذه العلوم هي المرحلة الجامعية، وهذه  لم يكن يتوفر لها لا المعلم ولا المنهج الدراسي ولا تسمح بها الإمكانيات، ولهذا افتتحوا المباني الجديدة بفصولها الأربعة معهدا للبنات.

قد أثر هذا المعهد في حياة مجتمع المدينة تأثيرا كبيرا وتخرجت منه صفوة من الطلاب في عصره الذهبي بالرغم من قصر هذه المدة.  وكانت الفترة منذ تأسيسه في عام 1961م وحتى عام 1966م تمثل فترة الاستقرار في الدراسة وهي الفترة الذهبية للمعهد، ولكن بعد مذابح عام 1967م لم يستقر الطلبة نتيجة لظروف حرب التحرير القاسية، فقد ترك بعضهم المعهد قبل أن يكمل سنواته الدراسية، وكانت النهاية المؤلمة بإرتكاب العدو الاثيوبي مجزرة أغوردات التي استشهد فيها المعلمون والطلاب لتطوى بذلك صفحة معهد كان يعتبر رائدًا في دراسة علوم الدين.

ومن الطلاب الذين تخرجوا من هذا المعهد وأثروا الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية والثقافية، الشيخ علي شيخ داوود وهو من المؤسسين لمعهد القربة الذي تخرج منه الكثير من طلاب معسكر اللاجئين، وكان هذا المعهد أصلا في ود الحليو ثم تم نقله إلي مدينة خشم القربة، والشيخ الجليل خليل محمد عامر الذي كان يرأس تنظيم الحزب الإسلامي،  والشيخ محمد سعيد عافه، والشيخ الدكتور محمد صالح حالي، والشيخ محمد علي تورس، والأستاذ همد عثمان احمد والشيخ إدريس الحسين عرطا مدير المعهد الذي خلف الشيخ عبد الله أزوز في إدارة المعهد، وقد نال العذاب والسجون والقهر من نظام  الطائفة فاعتلّت صحته وحُمل مريضا إلي السودان وتوفي في الخرطوم .

ونذكر من المناضلين الذين درسوا في هذ المعهد الشهيد عثمان حسن عجيب كما ذكر الأخ أبو الحسن، وأزهري صالح ركا، الذي تخرج من الكلية العسكرية في بغداد وكان قائدا في الميدان، وصالح أبوبكر محمد عافه الذي كان مسئول اللجان الإدارية في بركا لعال في جبهة التحرير الارترية.

ومن الإعلاميين والكتّاب الأساتذة محمد عثمان علي خير، ومحمد إبراهيم دبساي زميل فصل، ومحمود خالد علي قيد، فك الله أسره، وعبد الرحمن عبد الله قشاري، وحسن إدريس شيخ الذي توفي في حادث مؤلم في السودان. والمهندس سليمان دار شح، والأستاذ إبراهيم عثمان حاج، وكاتب المقال الحسين علي كرار، وعذرا لعدم ذكر كثير من الأسماء التي تستحق الذكر نتيجة لقصر المجال.

كانت مدينة أغوردات من أوائل المدن التي تم تحريرها وتعطلت فيها الحياة، فكان المعهد مغلقا حتى التحرير، ولكن لا يخفى علي أحد ما حدث للمعاهد الدينية بعد التحرير من شطب وطمس واختطاف المعلمين وتهميش اللغة العربية لحصرها في الخلاوي ومنع بناء المساجد، وبهذه الإجراءات التي فرضها النظام فقد المعهد الكثير من مقومات قوته،  أولها المعلمين الأكفاء، وثانيها الراتب المنظم حيث أصبح المعلم يتقاضى بعض التموين الذي يصرف له من حكومة الطائفة بعد أن صادرت الدخل من الأوقاف التي يبلغ عددها ثمانون دكانا وعدد ثلاثة منازل مؤجرة بثمن بخس علي حواشيهم وأسرهم، وثالثها الكتاب المنظم المطبوع، فأصبحت المقررات تدرس بالملخصات والكتابة علي السبورة، ورابعها الرقابة والمتابعة من دولة الطائفة لإضعاف المعاهد الدينية، سواء كان معهد الطالبات  أو معهد الطلاب.

فالذين يعرفون أن في مدينة أغوردات أوقاف تغطي رواتب المعلمين، وبنية أساسية وقوية لمعهد الطلاب ومعهد الطالبات قليلون. أثيوبيا دمرت المدينة بمن فيها وما فيها، ونظام الطائفة أزال أطلالهم من الوجود.

اللهم اغفر وارحم لمن بنى وأوقف لهذا المعهد، ولمن توفي من هؤلاء المعلمين والطلبة والطالبات. اللهم تقبلهم قبولا حسنا وأنزلهم نزل الصدّيقين والشهداء في جنات النعيم، وعافي وأشفي ووفق من كان منهم حيا لعمل ترضاه يا رب العالمين.

.

نقلا عن مجله الناقوس الثقافية العدد الثاني

:
.نقلا عن مجله الناقوس الثقافية العدد الثاني

———————————————————–

 

شاهد أيضاً

مواضيع مجلة الناقوس – العدد العاشر- شخصية العدد

الشهيد سليمان ادم سليمان.. عاش انسانا ومناضلا.. أعده / الأستاذ محمود أفندي تغوص بك عزيزي …

من مواضيع مجلة الناقوس العدد التاسع – الملف الثقافي

قصة قصيرة دروب مجهولة (٢) بقلم أبو محمد صالح  صمت الجميع، صمت أعقبه صراخ، الكل …

مواضيع مجلة الناقوس العدد التاسع-الملف الثقافي

مَن الذي اخترع الربابة البجاوية.. ولماذا اسماء اوتارها بالبداويِّت وليست بالتقرايت؟ بقلم عبد العزيز ابراهيم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *