اللغة العربية في إرتريا من موقف القس ديمطروس المتطرف وموقف أسلافنا المُشرِفْ إلى تصريحات عندي برهان وما بينهما

 الحروف-العربية (1)

أحمد أسناي

 أعود إلى الكتابة بعد غيبة طويلة عنها في المواقع إلا أنني لم أتوقف عنها حيث كنت أكتب إما في الفيس بوك أو المنتديات وغيرها من الوسائل ، إلا أن تصريحات عندي برهان وما صاحبها من ردود أفعال دفعني للإدلاء بدلوي في هذا الموضوع الذي دأب الشركاء المزعومين في إثارته كلما حصل تقارب أو تحاور لتضييق الهوة التي لم يكن فيها الشريك المسلم طرفاً في يوم من الأيام ، بل لم يحدث أو نسمع أن طالب فرد أو مجموعة بإقصاء اللغة التقرينية بل كانت سائدة حتى إبان تخلف أهلها عن العمل الوطني الذي كانوا ومازالوا[1] يعتبرونه إسلاميا ، بينما كنا نتعامل معهم وهم غياب بالإنصاف والعدل الذي هو من صميم ديننا الحنيف[2] ومن تراثنا الأصيل الذي يحفظ حقوق الآخرين مهما كانوا ، ولسنا نادمين على شيء كما يحلو للبعض أن يتذكر مواقف أسلافنا المشرفة في البرلمان الارتري حين صوتوا لإجازة اللغة التقرينية دون تردد باعتبارها إحدى اللغتين الرسميتين للدولة الارترية الوليدة في خمسينيات القرن الماضي بينما لا يستحي القوم عن رفضهم وامتعاضهم من وجود اللغة العربية التي لم ولن تمحى مهما بلغ طغيانهم وعتوهم لأن ذلك خيار شريحة كبيرة وأصيلة في المجتمع الارتري ، وهذه الشريحة هي التي أصرت وتمسكت يوم عرضت عليها العروض والمغريات ومحاولات الضم والتقسيم وحافظت على الخارطة الارترية بشكلها الحالي والذي اعترف بها المجتمع الدولي وأصبحت كياناً ذو سيادة رغم ما صاحب ذلك مما نعيشه من إقصاء لها وتهميشها من خلال تقرنت المجتمع حيث أصبح الناس في بلادي ملزمين على التحدث بها في كل مناحي الحياة ، حتى الحديث البيني أصبحت لغة القوم هي الغالبة فيه بينما رأس النظام يرمم ويرقع التقرينية بكلمات عربية صرفة وكلمات انجليزية بل وكلمات من اللغات الارترية المهمشة إلا في الأغاني فيتم استصاغتها على مضض لأنها جاءت من كبيرهم[3] الذي يختلفون معه في كل شيء إلا فيما يتعلق باللغة العربية، وبمتابعة يوم واحد لفضائية النظام يكفي للوقوف على مدى وصول القوم إلى حالة من اللامبالاة تجاه الشريك الذي أصبح لا يكترث بوجوده وقد كتبت وكتب غيري عنه.

 ولمعرفة خلفية مواقف القوم السابقة من أجل تعريف جيل الاستقلال بها واللاحقة التي هي ماثلة أمامهم لابد من العودة إلى التاريخ واستدعاء جلسات البرلمان الارتري الذي أجاز اللغة التقرينية ثم لما جاء الدور على إجازة اللغة العربية أقام التقرينية الدنيا ولم يقعدوها واستمرت الجلسات بين مطالبة أسلافنا وتعنت أسلاف القوم مدة 28 يوماً فهدد ممثلي الشعب المطالبين بإجازة العربية بالانسحاب، هنا فطن ولي نعمة من هم تحت قبة البرلمان الارتري من أعضاء الاندنت وغيرهم فأوحى إليهم أن أقبلوا بها في البرلمان ثم يسهل عليكم محاربتها مستقبلاً ﺫلكم هو الإمبراطور الأثيوبي الأسبق هيلي سلاسي، فرغم ما يحاول القوم إظهاره من عداء لأثيوبيا وحكامها قديماً وحديثاً فقد كانوا هم أكثر المستفيدين من أثيوبيا حيث أرسلوا أبنائهم للتعليم في أثيوبيا بينما عمل كبارهم وعلى رأسهم أتو/ اسفها كحساي ومن خلفه في إدارة التعليم على منع التعليم باللغة العربية بل تقليص المدارس وحصرها في القرى والهجر وقد قال أسفها كحساي قولته الشهير (لست على استعداد لفتح مدارس من أجل [السبك ساقم] الرحل) وهم نحن ولا أحد يستطيع تأويل الصفة لإلباسها آخرين من أجل ﺫر الرماد في عيون الشعب الفطن وليس عيون المصابين بعمى الألوان من مثقفينا الذين كلما تحدثنا رمونا بنعوت مقولبة لا يجرؤ أحدهم أن يطلقها على (الحبايب) مثل العروبيين، والأعراب إلخ….

وقد ظهرت هناك مواقف الرجال منهم على سبيل المثال لا الحصر ناصر بيك الـﺫي تحدث إليه أتو/ تدلا بايرو حينما رأي إصراره على إجازة اللغة العربية قائلاً وموجها سؤاله إلى ناصر بيك – رحمه الله -: (أنت تريد إثبات لغة لا تجيد التحدث بها فرد عليه ناصر بيك رداً مفحما. يا غبي إﺫا لم أتحدث بها أنا فسوف يتحدث بها أبنائي وأحفادي)[4] وموقف السيد محمد عمر أكيتو – رحمه الله – الـﺫي مازال مفعوله يسري منذ خمسينيات القرن الماضي في عروقهم حتى ظهر أخيراً في جوف عندي برهان الذي تقيئه فالقوم يتوارثون هذا الأمر ولا ولن يتوقفوا عنه ومخطيء بل واهم من يظن أنهم سيتنازلون عنه خاصة الآن وقد تحقق حلمهم في حكم إرتريا ، فهم لم يتوانوا عن ﺫلك في البرلمان الذ كان حضورنا فيه مقدراً وفاعلاً.

في تلك الحقبة من تاريخ إرتريا الحديث قال القس ديميطروس قبري ماريام بعد إجازة البرلمان بإيعاز من ولي نعمة محبر أندت (أعينتنا دم إندا نبعي زي قوانقانا نظدق ألنا – وتعني نجيز لغة غير لغتنا وعيوننا تدمع دماً) ، ولم يكتف القس ديميطروس بهذا الكلام بل افتتح مدارس باسم جمعية الحواريين (بيت تمهرتي محبر هواريات) في عدة مدن خشية ذهاب أبنائهم إلى المدارس الحكومية التي كانت تدرس باللغتين العربية والتقرينية ثم سرعان ما تراجع بسبب قلة مرتاديها من الطلبة . هذا كان بإيجاز شديد حالهم وهـﺫه كانت مواقفهم حتى تم ما أرادوا من ضم إرتريا إلى أثيوبيا وقضي على كل ما يمت للغة العربية بصلة حيث تم إيقاف التعليم بها في مدارس إرتريا واستبدلت بلغة المستعمر الأمهرية وسحبت كل الكتب من المدارس التي استمرت في التدريس بها وأرسلت إلى جهة مجهولة، فأرسلوا ابنائهم إلى أثيوبيا التي يظهرون لها العداء الآن.

وبدأ النضال الارتري سلمياً ثم مسلحاً ، وبدأ التوجس ينتاب القوم من انطلاق ثورة الشعب الارتري ومن المكاسب التي كانت تحققها لأنهم كانوا يعادونها لمجرد أن مؤسسيها هم من المسلمين وممن كانوا في الكتلة الاستقلالية ، وترجموا توجسهم إلى عمل من خلال الانخراط في جيش العدو بشتى قطاعاته العسكرية والأمنية والقرى المسلحة والتحاق عدد قليل منهم بالثورة ، فبينما بعض الأحرار منهم يناضلون من أجل إرتريا ظهر جسم غريب يناضل من أجل السيطرة وقيادة الثورة وتوجيهها إلى الوجهة التي نعيشها الآن ، وقد استخدم القوم كل أسلحة الإقصاء والتشويه ونعت الثورة بأنها إسلامية وعربية حتى من التحق منهم كان يتمرد بسهولة ويستسلم للعدو إلى أن ظهر منفيستو (نحنان علامانان) وحتى لا أتوه بالقارئ الكريم في متاهات السياسة سوف يكون تركيزي في الجانب الثقافي ، فبدأ القوم بمحاربة اللغة العربية في كل تعاملات الثورة بجميع فصائلها وأصبحوا يطالبون بالترجمة في كل الاجتماعات والاحتفالات وتحضرني هنا قصة واقعية من طرائف تعنت القوم حدثت في مدينة كسلا حيث كنا في حفل عيد الفاتح من سبتمبر فألقى أحد المشاركين قصيدة باللغة العربية ثم جاء مقدم الحفل ليقدم فنانا آخر وقدمه باللغتين العربية والتقرينية فقام أحدهم وهو من جرحى حرب التحرير مقاطعاً المتحدث يطلب منه ترجمة القصيدة فضج الحفل بالضحك وغضب صاحبنا فهمست في أﺫنه أن لا مجال لترجمة القصائد وقد استمعنا كما تابعت عدة قصائد بالتقرينية والتقري ولم يطالب أحدنا بالترجمة، لقد هدفت من هـﺫه الطرفة وصف حجم التعنت لهؤلاء القوم، وكل ما أﺫكر كان في جبهة التحرير الارترية التي كما أسلفت كفلت حقوق التقرينية في أول سني نضالها بينما أهلها غائبون عن الساحة بل محاربون لها في صفوف العدو.

أما في جانب الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا لا يحتاج الأمر إلى فطنة أو ﺫكاء لمعرف حال اللغة العربية ، وحينما طلب من الجبهة الشعبية مساواة اللغة العربية وتدريسها قال رأس النظام حينها بأن لديهم أزمة في معلمي اللغة العربية، ثم كان يرمي كلماته المسمومة هنا وهناك رغم أنه حينما جاء إلى مدينة جدة السعودية تحدث إلى أعضاء تنظيمه باللغة العربية فاعترض القوم كدأبهم ولكن كان رده مسكتاً حيث قال لهم بأنهم يعيشون في بلد عربي ويعملون مع أرباب عمل من العرب وأنه يتحدث إليهم بلغة عربية مبسطة ، وأنهم يشاهدون ويتابعون المسلسلات المصرية والبدوية فسكت القوم لأن الكلام جاءهم من العالمين ببواطن أمورهم، واستمر الحال هكذا إلى أن تحقق الاستقلال وكان قطف ثمار نضال الثلاثون عاماً من نصيب الجبهة الشعبية فكشفت عن خباياها وبدأ أفورقي منذ استيلاء الجيش الشعبي لتحرير إرتريا على العاصمة أسمرا يتنكر لكل ما يمت للعرب بصلة وقد أجري معه لقاء في البي بي سي حيث كان هناك يتقاسم هو وزيناوي مصير الدولتين والشعبين تحت رعاية هيرمان كوهين وبحضور الضابط تسفاي قبري كيدان من الجانب الأثيوبي في مؤتمر لندن الـﺫي مازالت حقيقته حبيسة صدر أفورقي.

وفي لقاء له مع زعماء إحدى القبائل الارترية بعد الاستقلال قال أفورقي (لا نريد أن نستورد ثقافة من دول الجوار وسوف تكون التقرينية هي اللغة الرسمية) وكان كل ما تقدم يحصل بدون أي ردود فعل من المحيطين به من ذوي الثقافة العربية الذين كانوا يراهنون على عدالة كبيرهم الذي لا يعجبه رأي ولا يقبل نقد إلى أن أطلقها صراحة بأن ليس هناك أسرة إرترية تتحدث اللغة العربية وأن اللغة العربية هي لغة قومية الرشايدة ، وهذا فيه تناقض واضح لأنه إذا سلمنا جدلاً بأن اللغة العربية هي لغة قومية الرشايدة فكيف يستقيم الأمر أن تكتب في كثير من أوراق الدولة الرسمية مثل جواز السفر، استمارة الوصول في المطار واستمارة المغادرة والنشرات باللغة العربية والحوارات إلخ….؟ إلى من تتحدث هذه الفضائية ومن يخاطبون هؤلاء الشباب المتعلمين العاملين في وزارة إعلام النظام، وصحيفته اليتيمة ” إرتريا الحديثة”؟

وأخيراً جاء نظام التعليم بلغة الأم في عملية مكشوفة لتجهيل أبناء القوميات الذين اختار أسلافهم اللغة العربية لتكون لغة ثقافتهم في محاولة واضحة لمعاقبتهم بجريرة أسلافهم من أمثال العم محمد عمر أكيتو وإخوانه من الأبطال والذين كانوا سبباً في إبقاء الخارطة الارترية بشكلها الحالي رغم المغريات التي أشرت إليها في بداية هذه المقالة، وأصبح الناس يدرسون كل بلغته الأم وتباينت الوجهات وتعددت المدارس فأصبح الناس يرسلون أبنائهم إما إلى خارج البلاد وإما إلى مدارس التعليم بلغة الأم والتي أسميتها بمدارس التجهيل لأنه لو كان ما يدرس فيها يفيد المتعلم في حياته اليومية والوظيفية لقلنا لا بأس ولكن بعد إكمال المرحلة الابتدائية يكون التعليم باللغة الانجليزية مع بقاء التقرينية كلغة تعامل في الدوائر الرسمية فيصبح كل من يكتب طلباً أو مذكرة أو اعتراض أو لائحة اعتراضية أو غيرها باللغة التي درس بها (لغة الأم) من غير التقرينية بطبيعة الحال يطلب منه ترجمتها إلى التقرينية وبذا يكون هذا المغلوب على أمره جاهلاً بالتقرينية وقد أضاع ست سنين من سنين التلقي الذهبية في لغة الأم التي كان يمكنه تعلمها في البيت وفي البيئة التي يعيش.

ثم ظهر الكثيرون ممن يقولون (عرب قوانقانا أي كونن) وتعني أن العربية ليست لغتنا إلى أن قالها عندي برهان صراحة بأننا كنا نسميها لغة أكيتو نسبة إلى العم محمد عمر أكيتو ، أقول ومن طلب منكم أن تتحدثوا باسمنا نحن أصحاب الثقافة العربية ومستخدميها ودارسيها؟ فلكم لغتكم ولنا لغتنا وهذا خيارنا الذي ارتضيناه لأنفسنا فماذا يضيركم ذلك؟ أم أنها الأنانية والغطرسة والتعالي؟ أقول عد يا عندي برهان إلى صوابك وليعد كل من تسول له نفسه إلغاء أو إقصاء اللغة العربية من إرتريا لأن ذلك خيارنا والخيار لابد أن يحترم إن كنتم ديمقراطيين جقيقيين كما تزعمون أم أن ذلك استثناء.

يكفي ما جناه أسلافكم إبان فترة الاتحاد الفدرالي ثم الاستعمار الأثيوبي ثم ما يجنيه النظام في حق ثقافة شعب.

أما نظراء عندي برهان وهم (وما بينهما) فأقول لهم جاملوا في كل الأمور طالما هذا رأيكم وهذه هي قناعتكم ولكن لا تجاملوا في ثقافتكم ولغتكم التي درستم بها ولا يكون صمتكم وسكوتكم للنكاية بمخالفيكم من بني قومكم وثقافتكم.

فهذه لغتنا ولغة ثقافتنا ومعتقدنا ولن نتنازل عنها مهما كان الثمن لأن الصراع الذي دار لم يكن من أجل تحرير التراب فقط ولكن من اجل إرساء حرية الإنسان في ثقافته ومعتقده ، والتعبير الحر عن رأيه دون وصاية ممن كانوا ومازالوا سبباً في معاناته السابقة واللاحقة.

والله من وراء القصد

[1]  مقالات متسلسلة بلغت 17 حلقة للمدعو (أبرهام يوهنس) تحت عنوان غريب (إسلاماوي جهاداوي كوينات أب إرترا – حرب إسلامية جهادية في إرتريا) ولكن لم يحرك ساكنا في مثقفينا الذين يلوذون بالصمت عند الشدائد وإثارة مثل هذه القضايا من قبل نظرائهم خشية اتهامهم بالمناطقية والعنصرية والطائفية إلى آخر قاموس النعوت المقولبة.

[2] قال تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/50474.html#ixzz3uDWU0Q1K)

[3] قيل أن القوم طرحوا على رأس النظام تدريس المراحل المتوسطة والثانوية وحتى الجامعية فرد عليهم قائلاً نحن أوصلنا التقرينية إلى ما هي عليه الآن بالترقيع والاقتباس من عدة لغات فإذا حاولنا مطها أكثر من ذلك قد تتفتت فيصعب علينا تجميعها مرة أخرى فلا تبالغوا في الأمر.

[4] كتاب تحديات مصيرية أمام المجتمع الارتري – تأليف المناضل احمد محمد ناصر رحمه الله.

أحمد أسناي – aasenai@hotmail.com

شاهد أيضاً

مهرجان الرابطة بمدينة كولن في المانيا

المهرجانات الثقافية حالة تفاعل بين القيم والموروثات .. ودعوة لقراءة تاريخ الاجداد

ابو بكر صائغ قال لي أحد الاصدقاء في جلسة ودية تفاكرية إنني أؤمن بطرح رابطة …

ملبورن: إذ تحدث عن إرث متأصل

عبدالرحمن كوشي رابطة أبناء المنخفضات الارترية الفتية، بعد أن فجرت الطاقات الفنية الكامنة، من قلب …

احتفال الرابطة في ملبورن

علي جبيب شهدت مدينة ملبورن الاسترالية منذ يومين احتفال ابناء رابطة المنخفضات الارترية بمناسبة الذكرى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *