مع المناضل رعيل أول/ محمد الهادي دوحين
تاريخ يمشي بين الناس..
أجرى الحوار: عبد الرحمن كوشي
توطئة….
كثيرة هي الازقة في سوق هيكوتا العريق، فإذا دخلت فكأنك تغوص في أعماق ذاتك، بحثا عن ضالتك، فالمكان ليس مجرد ابنية الكثير منها مهترئ، تكاد تخنقك الازقة التي تحيط بها الأبنية التقليدية، ترى الناس فيها يبيعون ويشترون يأكلون ويشربون ويذهبون ويجيئون، وكأنك في عالم آخر، الكل يبحث عن ضالته، في تلك الاثناء شققت طريقي وسط عباب جموع غفيرة متحلقة في دوائر مثل حلقات الذكر، إلا أنها لم تكن كذلك، بل لدنيا يصيبونها، في فناء واسع مسور له مدخل ضيق يجلس ذلك الهمام، وهو يقلب الفحم في موقد الشاي، فجلست بجواره بعد أن القيت عليه التحية وعانقته، واكرمني بفنجان قهوة…..
فألي مضابط الحوار…
————–
في البدء هلا تكرمت وعرفتنا بنفسك، الاسم والميلاد؟
——————–
الاسم: محمد الهادي محمد آدم طون
مواليد العام 1949 شهر يوليو، في قرية هنقوق التي تبعد 10 كلم من مدينة هيكوتا.
تلقى والدي رسائل تهنئة كثيرة بمناسبة ميلادي، أهمها برقية من فضيلة الشيخ السيد الحسن أبو جلابية صاحب الطريقة الختمية بكسلا، وأخرى من فضيلة الشيخ صالح بن سيدنا مصطفي.
————
صف لنا كيف كانت طفولتك في قرية هنقوق؟
أذكر ذلك جيدا عندما كنت في الثامنة من عمري كنا نلهو ونلعب ونرتع في القرية والوديان المجاورة، وكنا أيضا نرعي الأغنام في السهول التي تحيط بالقرية.
———–
ما هو السر في تسميتك بمحمد الهادي وهل هذه التسمية لها دلالة دينية؟
———
نعم، لقد سألتني سؤالا مهما، وهذه سانحة طيبة أحدثك فيها عن والدي محمد آدم طون..
كان والدي من ضمن قافلة العلم التي اتجهت صوب أم درمان وهو ابن خمسة عشر ربيعا، انطلق من الحامية المصرية التركية، واستقر به المقام بمدينة دنقلا حيث تتلمذ على يد الشيخ صالح الذي كان يدير خلاوي القرآن والمسيد، وبقي والدي هناك ردحا من الزمن حفظ خلالها كتاب الله تعالى (القرآن الكريم) وعندما بلغ غايته وقوي عوده واشتد ساعده، عاوده الحنين إلى وطنه الأم، فعاد ادراجه الي وطنه واستقر به المقام بالقرب من قرية قلسه، شرع في فتح خلوة صغيرة مبنية بالطين لتحفيظ القرآن الكريم، وبني بجوار الخلوة مسجدا صغيرا، فكان منارة للعلم ونشر الفضيلة في تلك القرية والقرى المجاورة، وعندما قدم الانجليز توجه صوب قلوج. وكان هذا سر تسمية والدي بالهادي
———-
ماهي اللحظات الصعبة التي مررت بها، والتي لاتفارق مخيلتك في قرية هنقوق؟
—————
من الأوقات الصعبة التي لاتفارق ذهني، هي يوم رحيل والدي، وكان ذلك في العام 1958م، ترك في نفسي أثرا كبيرا، بعد أن كان والدي كل شي بالنسبة لي، وكنت في التاسعة من عمري، انتقلت للعيش في كنف خالي الذي تولى تربيتي، فرباني احسن تربية، حيث كان يحثني علي العمل والكد والاعتماد على النفس، ودفن والدي بضريح السيد الحسن (ابو جلابية) في الختمية القديمة أسفل جبل التاكا، عليه الف رحمة ونور.
——————–
قبل أن ننتقل الى سؤال اخر، هل لديك ما تضيفه من ذكرياتك في قرية هنقوق؟
———
نعم، شاهدت في منامي ذات يوم، إن طوافة كبيرة (هليكوبتر) تحلق فوق قرية هنقوق، وهي تحمل في أسفلها رجال (رأسا على عقب) وتطوف بهم القرية، بينما صياح الديكة، ونباح الكلاب، وصراخ الناس يصعد الي أعلى، فقمت فزعا من نومي…..
كيف ومتى التحقت بجبهة التحرير الإرترية، وماهي الدوافع والأسباب والارهاصات التي كان لها دور كبير في ترسيخ موضوع الالتحاق في ذهنك؟
————
قبل أن أجيبك على هذا السؤال الهام، والذي شكل علامة فارقة في حياتي، دعني أعود بك قليلا الي الوراء، من الإرهاصات التي لعبت دورا كبيرا في حياتي، وكانت بمثابة الدافع لالتحاقي بجبهات القتال، إن الأهالي في قرية هنقوق كانوا يتداولون كثيرا في مجالسهم حياة الثوار (عواتي ورفاقه الميامين)، ونحن بدورنا كنا ننصت بشغف شديد لمثل هذه الأحاديث، لدرجة اننا كنا نتقمص شخصية عواتي فيما بيننا، حتى جاء يوم الخامس عشر من سبتمبر من العام 1963، الذي شكل نقطة تحول في حياتي، إذ كنت ثامن ثمانية ممن التحقوا بالثورة.
——————–
هلا فصلت لنا كيف كانت عملية الالتحاق وبقيادة من؟
——
كان ذلك في هيكوتا، عندما استوقف الثائر البطل آدم قندفل وعمر الدين (الذي تم تسريحه من البوليس) بصاً للركاب يتبع لشركة حجي حسن للنقل، وبعد أن تم افراغ البص من الركاب صعدنا نحن الثمانية وكان عمري آنذاك 14 عاما، اذكر من هؤلاء المناضلين: عثمان تيتة والحسن محمد آدم وصالح آدم، ولا اذكر البقية، من ثم توجه بنا البص صوب نقطة بوليس هيكوتا، ونحن نهلل ونكبر ونمدح حتى لا يلتفت أحد لأمرنا، قمنا بمهاجمة نقطة البوليس واستهدفنا مخازن السلاح والذخائر، وقمنا بشحن البص بكمية مقدرة من السلاح، بعدها اتجه بنا البص صوب شمال شرق هيكوتا باتجاه ساوا، ونحن في الطريق تعطل الباص ونفد البنزين، وقام أحد الثوار ويدعى مدني عبدالقادر بعملية نقل السلاح، وكان مجموع ما تم الحصول عليه 30 قطعة بندقية أبو عشرة، وقطعتين أبو ثمانية، 1برين، وبعد سير شاق وصلنا إلى ساوا، وتم استلام السلاح من قبل القيادة، ولاحظنا وجود شابين بينهما، وعندما سألنا قيل لنا أنهما قدما من أورطة العرب الشرقية بكسلا وهما، محمد آدم شنكحاي و آدم إدريس فوجاج.
بعد أن أصبحت ضمن الكوكبة التي التحقت بجيش التحرير، واختارتك الأقدار ان تبدأ مسيرتك من قمة هرم النضال رغم حداثة سنك، صف لنا هؤلاء الأبطال الذين التقيتهم في ساحات صناعة الرجال، وعرين الأسود، وميادين الوغى في بضع كلمات؟
——————-
إنهم رجال تحلو بالصدق والأمانة والثقة بالنفس، والإيمان العميق بعدالة قضيتهم، وتميزوا بنكران الذات، أفنوا زهرة شبابهم في العطاء دون مقابل، افترشوا الأرض والتحفوا السماء في وديان إرتريا وسهولها، وكانت غايتهم تحرير وطنهم من براثن الاحتلال الإثيوبي، وجابهوا في سبيل ذلك العدو بشجاعة وثبات وصمود، ولم يركنوا الي غايات آنية، أو لدنيا يصيبونها، بل فكانوا على قلب رجل واحد.
بصفتك أحد القلائل الذي وضعته الأقدار في طليعة المقاتلين في جيش التحرير الإرتري، وفي مرحلة مفصلية من عمر النضال، هلا وضعتنا في صورة، كيف كانت تسير الأمور، وكيف كان يرتب لها، وهل خضتم مواجهات مباشرة مع العدو؟
——————–
نعم أذكر ذلك جيدا، في بادئ الأمر، عقدت القيادة في صبيحة 11/3/1963 اجتماعات في (كركبت) أسفر هذا الاجتماع عن تشكيل فصيلتين، الأولى بقيادة المناضل الكبير عمر حامد ازاز، والثانية بقيادة المناضل الجسور محمد إدريس ابورجيلا، ويوم 17/12/1963 توجهنا الي عنسبا، ونحن في الطريق باغتتنا عربة تحمل قوة من البوليس، وتم تبادل إطلاق نار بيننا وبينهم، وأسفرت هذه المجابهة عن مقتل 17 جنديا من العدو، من بينهم قائد المجموعة برتبة ملازم، قمنا على اثرها بالاستيلاء على العربة والسلاح، ثم توجهنا الي جبل (سرو) من أجل المقيل، حيث يقع في الجانب الشرقي من (سبعت قرض)، ومن ثم إلى شرق عنسبا (جنقرين).
وصل خبر استيلاء على العربة إلى مسامع العدو في كرن، فقاموا بتحريك قوة لتقفي أثر الثوار والنيل منهم، وبينما كنا ننال قسطا من الراحة، لاحظ الحرس ويدعي ( أبو بكر عنجوت) أن شخصا غريبا قادم إليهم، وكان يلوح بضوء بطارية، فأيقظ على الفور القائد وأخبره ثمة أمر مريب يحيط بهم، في هذه الاثناء وجه القائد بندقيته صوب الهدف وأرداه قتيلا، وانسحبنا من هذا الموقع سالمين، إلا أن شخصا واحدا من افرادنا ضل طريقه وتمت اعادته إلينا بواسطة الأهالي من القرى المجاورة.
—————–
المناضل الجسور محمد الهادي دوحين، تعد أنت شاهد عيان لأهم وأكبر معركة خاضها جيش التحرير، المعركة التي قسمت ظهر العدو، (تقوربا) ، هلا حدثتنا ووصفت لنا بإيجاز مجريات هذه المعركة؟
—————–
في صبيحة يوم 15/مارس / 1964 وفي تمام الساعة التاسعة، وبعد أن أفاد أحد شيوخ القرية بأن هناك قوة من العدو قادمة من هيكوتا باتجاه منطقة تقوربا، حيث قدمت 27 عربة تحمل جنود مدججين بأحدث الأسلحة والذخيرة. اثر ذلك قرر القائد محمد إدريس أبو رجيلا مجابهة قوات العدو واتخذ من (الخور) الذي كان يقع قبالة الجبل موقعا استراتيجيا للمواجهة، وبناء على هذا الاختيار تمترست قوات جيش التحرير في هذا الموقع.
وقد كانت مجموعتي البرين الأولى بقيادة محمد ادم شنكحاي، والثانية بقيادة آدم إدريس فوجاج، اللذان يشكلان محور الدفاع وصمام أمان المعركة ، وكانت كل مجموعة من هؤلاء المناضلين مزودين بثمانية جنود بما كان يعرف بالبندقجية، حيث كنت أنا أحد هؤلاء البندقحية التابعين للقائد آدم إدريس فوجاج ، واستمرت المعركة من الساعة التاسعة صباحا وحتى الساعة الخامسة مساء، حيث حمي الوطيس ، وتم تبادل إطلاق نار كثيف أبلي فيه جيش التحرير الإرتري بلاءً حسنا، وتفاجئ العدو ببسالة وصمود الثوار الذي أدى لاستمرار المعركة طيلة هذه الساعات الطويلة ، حتي قال أحدهم (كنا نظنهم حفنة من الشفتة ، ولكن وجدناهم أصحاب قضية وإرادة قوية.)
وقد سقط في هذه المعركة قرابة 80 من جانب العدو بينهم ضباط وجلهم من الجنود. بينما استشهد من جنودنا البواسل قرابة 18 شهيداً.
في عجالة، ونحن نشهد هذه الأيام ذكرى ثورة سبتمبر المجيدة بقيادة البطل الشهيد حامد إدريس عواتي، نريد منك ان توجه كلمة عبر هذا اللقاء للأجيال القادمة؟
———————-
عندما خرج القائد حامد إدريس عواتي ورفاقه الميامين، ما كان يجمعهم هو: وحدة الهدف فكانوا على قلب رجل واحد، حيث أن كافة الجهود كانت تتطلع لتحرير الوطن من قبضة الاحتلال الإثيوبي البغيض، وفي نهاية الأمر تحقق ما كانوا يصبون إليه، وهكذا يجب على الأجيال الحالية أن توحد رؤاها و أهدافها نحو الغايات النبيلة التي انطلقت من أجلها ثورة سبتمبر المجيدة، ليعيش شعبنا بكافة مكوناته عزيزاً كريماً في وطن يسع الجميع بعيداً عن سياسات الهيمنة والاقصاء.
في ختام هذا اللقاء لا يسعني إلا أن أتوجه بالشكر الجزيل للمناضل محمد الهادي دوحين، ونسأل الله تعالى أن يحفظه ويمتعه بالصحة والعافية.