الذكرى الرابعة والستين
1961 -2025 م
في الأول من سبتمبر عام 1961م دوّى في جبل أدال صوت الطلقة الأولى التي أطلقها البطل الشهيد حامد إدريس عواتي ورفاقه الميامين، معلنةً بدء مسيرة الكفاح المسلح الإرتري ضد سياسات الإمبراطورية الإثيوبية التي كانت تسعى لإلغاء الإرادة الحرة للسواد الأعظم من مكونات الشعب المتطلع لتحقيق حريته واستقلاله، مشكلة بذلك بداية مرحلة فارقة في تاريخ وحياة الشعب الإرتري ومستقبله. وكان المفجرون الأوائل يدركون أن المعركة لن تكون سهلة، بل طويلة وشاقة، وأن طريق التحرير سيكون محفوفاً بالمخاطر والآلام، غير أن عزيمتهم لم تلن، وثقتهم في النصر لم تهتز، فوهبوا حياتهم فداءً لمشروع الاستقلال.
انطلقت الثورة في ظل ظروف بالغة الصعوبة واختلال واضح في موازين القوى، إذ لم يكن الثوار يملكون سوى بنادق قديمة محدودة أمام عدو يفوقهم عددًا وعتادًا، ويستند إلى دعم دولي واسع النطاق من قوى الاستعمار التي منحته الغطاء الدبلوماسي والمادي والعسكري، فضلاً عن تحالف داخلي من قوى محلية ارتضت سياسة الضم إلى إثيوبيا. وبرغم هذا الواقع، فقد انتشرت شرارة الثورة سريعًا بين أبناء الشعب، وتدفقت جموع من مختلف مناطقه ومكوناته للانضمام إلى صفوف الثوار، مدفوعة بالأمل في استعادة الأرض والهوية. وقد تعززت قوة الثورة بعد سقوط نظام الإمبراطور هيلي سلاسي، الأمر الذي أفسح المجال لتحولها إلى ثورة شعبية مكتملة امتدت على مدى ثلاثة عقود من الصمود والتضحيات.
دفع الشعب الإرتري خلال تلك المسيرة الطويلة من النضال أثمانًا باهظة في سبيل حريته، حيث ارتقت أرواح آلاف الشهداء مهراً للحرية، وتعرض المواطنون العزل للنفي والتهجير والملاحقة. كما مارس الاحتلال الإثيوبي سياسة الأرض المحروقة التي بلغت حد الإبادة الجماعية ضد المجتمعات التي وُصفت بأنها حاضنة للثورة. وبرغم قسوة هذه السياسات، لم تنكسر إرادة الشعب، بل ازدادت صلابة، وتحولت الثورة تدريجيًا من مجموعات صغيرة إلى جيش تحرير ضخم حظى بزخم إقليمي ودولي. وبهذا كتبت التضحيات والبطولات المتواصلة تاريخًا مجيدًا من المقاومة، حتى صار تاريخ إرتريا بأسره تجربة نضالية ملهمة.
وبعد أكثر من ثلاثين عامًا من الكفاح المرير، انحاز التاريخ لصوت الثورة، فتكللت المسيرة بالانتصار الكبير في عام 1991م بتحرير كامل التراب الإرتري من الاحتلال الإثيوبي، ثم أُعلن الاستقلال رسميًا عبر الاستفتاء التاريخي الذي أجري في عام 1993م، حيث صوّت الشعب بأغلبية ساحقة لصالح الاستقلال، ليتحقق بذلك حلم الأجيال وتُتوج التضحيات الجسيمة بنصر عظيم.
غير أنّ الحلم الإرتري سرعان ما اصطدم بواقع مختلف ومخيّب للآمال. فمنذ اليوم الأول للاستقلال أقدمت الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا على احتكار السلطة ورفض الاعتراف بالفصائل الأخرى كشركاء في مشروع التحرير، فانغلق مشروع الدولة على ذاته وانعزل عن محيطه الإقليمي والدولي. كما غابت التعددية السياسية والحقوق المدنية، وأصبح الحديث عن الحريات محفوفًا بالمخاطر، وأُغلق المجال العام أمام التنوع والتعدد، لتحل مكانه هيمنة قومية كاملة على كافة مقدرات البلاد سلطة وثروة.
إضافة لذلك، تم رُفض عودة اللاجئين الذين انتظروا تحقق حلم التحرير طويلاً ليعودوا إلى وطنهم، وعوضاً عن ذلك تحولت البلاد إلى أداة طاردة لأبنائها، حيث شهدت موجات متزايدة من الهجرة حتى لمن عادوا بعد الاستقلال، واستمرت هجرة الشباب بصورة مأساوية إلى يومنا هذا. كما لم تتوقف الأزمات عند السياسة فحسب، بل امتدت إلى مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية، حيث تدنى مستوى التعليم والصحة، وغابت التنمية المستدامة، وتفشى الفساد والتمكين لفئة معينة من مكونات الشعب الارتري على حساب بقية المكونات.
نتيجة لذلك يقف الشعب الإرتري اليوم في مفترق طرق معقد، بين ذاكرته المشحونة بإرث ثورته العظيمة وتضحيات أبطاله، وثقل جراح القلب المثخن بخيبات الأمل بعد التحرير. ومع ذلك، فإن الأمل في بناء دولة العدل والقانون لم يتلاشَ، بل يظل قائمًا، متكئًا على المخزون الثوري والإيمان العميق بقيم التضحية التي غرسها المؤسسون الأوائل. وإن استعادة منجزات الثورة وتضحياتها لا يمكن أن يتحقق إلا عبر توافق وطني شامل على المصالح المشتركة، من خلال الاعتراف بالتعدد والتنوع المجتمعي، وصياغة عقد اجتماعي جديد يصون الحقوق ويمنع أي محاولة للتغول أو الإقصاء، تمهيداً لبناء دولة العدل والمساواة التي تسع الجميع.
وأخيراً فإن قضية الثورة الإرترية لم تنته بعد، وما زالت صفحاتها مفتوحة تنتظر من يكتبها بروح الحرية والتضحية. وستظل ثورة سبتمبر المجيدة ومنجزاتها نبراساً يضيئ منارة الحرية والكرامة الإنسانية، لأنها لم تكن مجرد حدث عابر، بل ملحمة صنعتها إرادة شعب آمن بأن الشعوب قادرة بالصبر والإرادة على صناعة مستقبلها. وسيظل إرثها حيًا حتى تتحقق أحلام الأجيال في الحرية والعدالة والمساواة.
المجد والخلود لشهداء الثورة
الخزي والعار لنظام الهيمنة القومية
الإدارة التنفيذية لرابطة أبناء المنخفضات الإرترية