eritrea-_seventy_years_of_lost_social_contract_munkhafadat.png

ارتريا – سبعون عاما من العقد الاجتماعي الضائع

أبو آمنة حِمّدْ

إن تطبيقات نظرية الفلسفة السياسية والاجتماعية والأخلاقية المسماة بالعقد الاجتماعي، مدخل مهم لتأسيس وتماسك وحماية المجتمع، وبناء وترسيخ قيم توافق العقد الاجتماعي الذي يؤسس لقيام دولة المواطنة وسلطة القانون، القائمة على قاعدة الحقوق والواجبات ومبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية، واحترام التعدد والتنوع الديني والثقافي والاجتماعي والعرقي الذي تزخر به الدولة الممثلة للإرادة الشعبية العامة.

وان قوة العقد الاجتماعي تكمن في صيرورة التوافق والتراضي والتعاقد لجموع الإرادات الفردية لإقامة وإرساء الإرادة العامة أو السلطة السياسة أو الحكومة الممثلة لهم، والتي تراعي وتحمي ميول وتطلعات ورغبات الأفراد، إلى جانب المهام والواجبات الاجتماعية العامة التي تؤديها كسلطة سياسية مفوضة من الجميع.

وهنا يتحقق الغرض الأساسي لمفهوم السلطة في النظرية الاجتماعية لنمط شكل السلطة التي إقامتها الجماعات البشرية بتوافقها الطوعي حول تلك الإدارة العليا لتنظيم شئون حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والخدمية والأمنية والحقوقية والوطنية. ومنوط بهذه السلطة أن تمنع المجتمع من العودة إلى حياة الفطرة الأولى، والتي وصفها بعض علماء التنوير من رواد نظرية العقد الاجتماعي بأنها حياة تسود فيها الفوضى والهمجية والأنانية والذاتية وقلة المورد ومحدودية الدخل، مما يولد في المجتمع الجشع والطمع والظلم وسيطرة الأفراد الأقوياء على الأكثرية، فيكون القوي فيها آكل والضعيف مأكول. و بسبب ذلك يحدث بينهم صراع ونزاع وحروب ومشاكل وحالة من عدم الأمن والاستقرار التي تهدد حياة الجميع.

وفي الدول الغربية نشأت وتعمقت وتطورت نظرية العقد الاجتماعي، وتأسست بمفهومها سلطة المجتمع السياسي والإرادة العامة الممثلة للمجتمع بشكل طبيعي. وهناك تبلور شكل الأمة والدولة الوطنية القومية كنتيجة للتطور الاقتصادي وزيادة عوامل الإنتاج والتغيير في نمط الحياة وطفرة الصناعات وتطور الآلة وكثرة الاختراعات ونهضة المدن وتوسعت المدنية، ووعي الناس بالحقوق المدنية والسياسية وإرادة المجتمع المدني والسياسي والحزبي في إرساء دعائم التوافق والحوار الوطني. كل هذه العوامل الذاتية والموضوعية والتاريخية والاقتصادية والمدنية ساعدت في تطور وتطبيق نظرية العقد الاجتماعي بشكل سلس و سليم، مما سهل على الأفراد والجماعات والطوائف المتنوعة ثقافياً ودينيا، والمتعددة اجتماعيا وعرقيا، بتأسيس دولة المواطنة التي تمثل الإرادة العامة و تحترم الدستور وتطبق القانون وتحمي قيم ونصوص روح العقد الاجتماعي.

لكن في غالب دول العالم الثالث تعثرت نظرية العقد الاجتماعي، وغابت روح التوافق وتعطلت لغة الحوار وتباطأت روح الاندماج القومي. والمجتمعات بكل مكوناتها المتعددة والمتنوعة فشلت في تأسيس السلطة العامة الممثلة للشعب، وخيارات الوطن بكامله. وأصبحت الحالة في هذه الدول أشبه بحالة الفطرة الأولى للمجتمع، بحيث سيطرت القلة على الكثرة، وأفرزت روح الأنانية والذاتية والفوضى والهمجية والصراعات والحروب. وتركزت السلطة والثروة في أيدي فرد أو افراد أو طائفة اجتماعية أو طبقة سياسية أو عسكرية.
وتميزت الحالة بغياب أي نوع من أنواع أشكال العقد الاجتماعي والتوافق السياسي بين المكونات المختلفة في هذه الدول للوصول إلى صيغ توافقية مشتركة.

ودولة ارتريا تعتبر نموذجاً صارخاً لهذه الحالة في تاريخ نشأة المجتمعات والدول، حسب مفهوم نظريات العقد الاجتماعي. فإرتيريا منذ فجر بداياتها التاريخية لم تنشأ بإرادة وطنية حقيقية من خلال توافق وتعاقد اجتماعي وسياسي بين مكوناتها الثقافية والاجتماعية، وإنما أنشأتها إرادة استعمارية ايطالية – مثلها مثل بقية دول العالم الثالث – وهم الذين وضعوا خارطتها وفق مصالحهم السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية في ذلك الوقت، ومن خلال رؤيتهم الاستعمارية حددوا جغرافتيها وسكانها وشكلها السياسي، ولم يهتموا كثيرا بالتعدد الثقافي والاجتماعي، والتنوع الديني والعرقي للسكان الذين جمعوهم وركبوهم في إطار جغرافي وسياسي واحد من غير إرادتهم.

كان من المفترض أن يكونوا في كيان الدولة الوطنية الإرترية مستقبلا بعد رحيل المستعمر. الا أن ايطاليا نفسها لم تهيئ ارتريا لمثل هذا الوضع بل تعاملت مع الكيانات والقبائل والمجتمعات القاطنة في المنطقة التي سمتها ارتريا ككيانات منفصلة عن بعضها البعض وأبرمت مع الادارات الاهلية آنذاك الاتفاقيات المنظمة لحياة كل جزء من ارتريا، وكل منطقة كانت تدير شؤونها الداخلية والخارجية من خلال سلطة إدارية ذاتية محلية. لذلك لم يحدث أي اندماج اجتماعي وثقافي يعزز من قيم تماسك الدولة الوطنية وتعاضد الأمة القومية في إطار الكيان الإرتري الجديد الذي أنشأته ايطاليا طيلة فترة حكمها الممتد قرابة السبعة عقود من الزمان. وبعد هزيمة ايطاليا في الحرب العالمية الثانية وتصفية مستعمراتها في منطقة القرن الأفريقي لصالح الحلفاء، وفي ظل العبة السياسية لتقسيم التركة بين الحلفاء وقعت ارتريا ضمن نفوذ الانتداب البريطاني، فأطلقوا بما اصطلح عليه سياسيا وقانونيا بمشروع تقرير المصير خلال الفترة الانتقالية من الانتداب البريطاني، حيث سمح البريطانيون بفتح النقاشات وإدارة الحوارات كنوع من تحريك الأجواء السياسية واستنطاق الكيانات في ظل التوجه الديمقراطي اللبرالي الجديد الذي تبنته بريطانيا لأخذ رأي وتقرير مصير الشعوب التي كانت تحت تاج مملكتها التي لا تغيب عنها الشمس.

فهل ما تم في ارتريا ما بعد استقلال الدولة كان خدعة كبيرة والتفاف على حقائق التاريخ والجغرافية والديموغرافية لترسيخ مشروع طائفي (تغرنياوي) جديد كنتيجة لفشل الكيان الإرتري بعد سبعة عقود من تركيب وتوليف تناقضاته الثقافية والاجتماعية والدينية والجغرافية الغير كاملة الانسجام ؟ أم أن حلبة الصراع مازالت مفتوحة على مصراعيها؛ ولم تكتمل الشروط الذاتية والموضوعية بعد لتعديل كفة ميزان الصراع لصالح كل مكونات الوطن ؟

الخلفية أعلاه هي مدخل لتوسيع نطاق العصف الذهني، ومساحات التفكير السياسي الحر لدراسة وفهم مفاتيح المشكل الإرتري، وبذل الجهود المضنية لتوفير الحلول الناجعة والمخارج الآمنة لتحليل وتفكيك أزمة الهوية الوطنية والقومية للدولة الإرترية.

:
:

…………………………………………………………….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *