قراءة في رواية لعبة المغزل …

نقلا عن مجله الناقوس الثقافية

محمد حامد ناود

أن تكتب عن عمل بقامة ( لعبة المغزل ) للاستاذ الرائع حجي جابر هي مجازفة مفتوحة المخاطر تجعلك كثير الحساب والمراجعة فيما أنت مقبل عليه .. ولكن هي غواية الرواية ذاتها في أن تظل تنشب فيك ( الحكايات كائنات مسننة يجدر أخذها على محمل الجد، تغرس أثرها فيك عميقا .. )* فالمغزل العاجي يتجاوز مدى الحكاية ويغوص بعمق ليغزل في نفس كل  قارئ للرواية كم هو قبيح وتافه أن تعطي لنفسك حق تحوير حكايات الآخرين لا لشيء سوى أنك تريد أن تدفن عجزك وقبحك وتحتل التاريخ كله وما تبقى منه .

لعبة المغزل هي قصتنا ( ارتريا ) كتبت برمزية فارهة لم تسقط أي وجع منها بعبقرية كاتب يحمل في طياته وجعنا وهمنا بحرص المثقف المنتمي  الملتزم  بقضايا وطنه وانسانه لم يصطف اتجاهه بنخبوية متعالية بل كان متماهيا ووصف الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمة الله عليه حين قال “المثقف.. لابد أن يكون في الشارع” .. فالفن متى ما كان خياره الحياد  فى قضايا الحق والعدالة فهو فن مبتذل يضر بوعينا وحسنا الانساني وخصما علينا ومعين فاجرُ للطغاة والظلمة .. في روايته هذه الاستاذ حجي حابر كان يملك الفكرة والقضية وهما أهم ركنين أساسيين للعبة المغزل  .. قضية  إلغاء ومحو ممنهجة لا تغفل عن  أبسط تفصيلة في حياة  إنساننا وهي كذلك في كل الانظمة الشمولية لذلك كانت لعبة المغزل عابرة  للجغرافيا والخصوصية ومتصلة بقهر الإنسان ومحوه فوجدت طريقها بكل سلاسة  إلى مكتبات واختيارات القراءة لدى عدد لا يستهان به من مجموع القارئ العربي (وبالتأكيد إلى فضاء أرحب متى ما توفرت لها الترجمة) ..

فهي تحكي كيف أن الطاغية المستبد لا يتوقف عند لحظة حكم وقيادة حياتك في راهن اللحظة وانما يتمدد إلى ماضيك وأصل الحكاية فيك كي  يؤصل ذاته بكل قوام الحياة واستحقاق الرائدية عليك وأن فطرة خلقية اجتمعت في اختيار واحد اسمه .. الاب القائد .. الاخ الاكبر .. الفرد الملهم ..الرجل القوي .. الخ ولا يترك لك غير مجموع هائل من الاسئلة ( ماذا يتبقى حقيقيا بعد ذلك ؟ .. ماذا عن أطنان الوثائق التي ستغدو تأريخا لا شك فيه ؟ .. الخ )* وهذا بالتأكيد يحيلنا إلى جدلية الجمال والقبح التي دارت في الرواية والمآل الذي وصلت إليه في أن القبح يتجاوز في حقيقته كل ملامح الدمامة والتشوهات ليغوص عميقا حيث يقبع الجبن والانانية والانتهازية لتكون بالنهاية دمامة الخلقة غاية في الجمال مقابل هذا القبح ..

ونجد أيضا أن الاستاذ حجي جابر الراصد الذي لايغفل عن التعديات التي تسجل في حياة هذا الانسان ومدى المعاناة التي يكابد في احتمالها ككلفة ضرورية نذر به نفسه من أجل الوطن بغض النظر عن ماهية الجائزة الذاتية التي يمكن أن يحظى بها فداءا لهذه المكابدة .. ويخبرنا أن  السكوت والفرجة عن هذا التجاوز البشع الفظيع والتعامل معه بنفسية لا يعنيني بشيء هو جريمة لا تقل  في فظاعتها عن ممارسة فعل الجريمة نفسها  ( .. أن من يصمت على القتل أكثر إجراما من القاتل، فصاحب القتل يحقق رغبته بينما يكتفي الثاني بتحقيق رغبات الآخرين )* وهو كذلك في بلدي إرتريا حيث  المتفرجة هم الأكثر حضورا بفجاجتهم وسلبيتهم التي تخلق شراهة غير عادية في نفسية المستبد وتطمئنه على نجاته بفعله مهما كان عميق البشاعة ..

وأيضا لا يغفل حجي الأماكن ومسمياتها في روايته هذه تماما كما فعل في كل الروايات الأخرى فهو رجل مسكون بقضية وطن يكاد يكون طيا عن المعرفة بحكم الجغرافيا التي غالبا ما تفرض الجهل والتجهيل بكل ما هو إفريقي  أو وضعه في موضع البداوة والتخلف كصورة نمطية اعتيادية من جهة .. ووطن معتقل بسور العزلة التي فرضها النظام ليجعله جزيرة نكرة لا تمت إلى  الأرض بصلة من جهة أخرى  .. فيعزم حجي  إلى بعثه كطائر العنقاء يدهش القراء بمسميات أحياءه والتفافات الشوارع فيه وعناق الأرض السماء بماء المطر .. نقفة ، أفعبت ، ترافولو ، شارع الحرية ، أسمرا ، اكسبو .. الخ. ليكون الوطن حقيقة وواقع ممكن تلهج تفاصيل تضاريسه ألسنة غير  أبناءه  وأينما عبرت نسخة من الرواية فهي تنتزع شغف المعرفة بهذا الوطن ..

الرواية بالمجمل هي بوح كبير من الكاتب عن الوطن  إرتريا بشكل خاص وعن مظلمة الإنسان في مواجهة الطغاة والاستبداد بشكل عام، ولكن بوح الأديب حجي جابر عن القضايا والهموم يختلف عن خطاب السياسي وبيانات الثوري فهو يمتطي السرد بنبل ووقار ويستجمع شتات الرؤية لتصنع بنفسها النتائج والتقييمات لهذا البوح وتؤازره وتعزز حجته.

وتبقي اللعبة النهائية .. للمغزل

ز

ز

ز

شاهد أيضاً

مواضيع مجلة الناقوس – العدد العاشر- شخصية العدد

الشهيد سليمان ادم سليمان.. عاش انسانا ومناضلا.. أعده / الأستاذ محمود أفندي تغوص بك عزيزي …

من مواضيع مجلة الناقوس العدد التاسع – الملف الثقافي

قصة قصيرة دروب مجهولة (٢) بقلم أبو محمد صالح  صمت الجميع، صمت أعقبه صراخ، الكل …

مواضيع مجلة الناقوس العدد التاسع-الملف الثقافي

مَن الذي اخترع الربابة البجاوية.. ولماذا اسماء اوتارها بالبداويِّت وليست بالتقرايت؟ بقلم عبد العزيز ابراهيم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *