يوم المعتقل الإرتري: عن مبادئ العدالة وعن شعاراتها الزائفة

يوم المعتقل

=

القتل خارج الأطر القانونية أو الإختطاف والإخفاء القسري والتشغيل الإجباري والإستعباد، هذه جرائم لا تمارس إلا ضمن تشكيل عصابي إجرامي، وهو ما ظلت تمارسه الجبهة الشعبية منذ تشكيلها، صحيح أن الشعار المرفوع في مرحلة ما قبل التحرير كان ” تحرير إرتريا” بينما الشعار المرفوع بعد التحرير هو ” البناء والتعمير” ثم أخيرا شعار ” بناء الأمة” ويلاحظ هنا أن هذه “الأمة” معروفة ومحددة الهوية سلفا، ويجري العمل على قدم وساق لجعلها حقيقة ماثلة،  ويظل بناء “الأمة”هو الحقيقة الوحيدة بين هذا الركام الهائل من الفوضى وهو الهدف النهائي وما عداه لا يعدوا كونه تمهيد لميلاد تلك الأمة.

هل هناك من ينكر أن الجبهة الشعبية كتنظيم سياسي ارتكبت جرائم سياسية وغير سياسية، اغتيالات، تعذيب، إعدامات فردية و جماعية واختطافات وإخفاء قسري و نهب ومصادرة أموال تحت تهديد السلاح، من ينكر حدوث مثل هذه الجرائم من قبل الجبهة الشعبية فإنه من الأفضل له أن يتوقف عن مواصلة قراءة ما تبقى من هذه السطور.

عندما نسمع بأن فلان الفلاني انسلخ عن صفوف التشكيل العصابي ( كالتشكيل العصابي الإجرامي الحاكم في إرتريا مثلا) فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا هو أن هذا الفلان الفلاني انتقل أوتوماتيكيا من شخص يدعم ويشارك في عمليات الإجرام ويصفق للمذابح و يستهتر بأرواح الأبرياء إلى ملاك يرتدي ثوب الوقار الأبيض ويدافع عن قيم العدالة ومبادئها السامية، ثم نكتشف بعد بهرة يسيرة بأن فلان الفلاني هذا انسلخ بجسده من صف التشكيل العصابي، لأسباب لا علاقة لها برفض الممارسات الإجرامية داخل التشكيل الإجرامي، وإنما لأسباب تتعلق بسلامته الشخصية وأمنه الشخصي لا أكثر ولا أقل، تنتهي فترة النقاهة ويحصل فلان الفلاني هذا على بطاقة القبول باعتباره لاجئ سياسي في إحدى الدول الغربية، يتجاوز عقبة ” الإقصاء القانوني”  الذي يُحرَم بموجبه كل من شارك في، أو أدار، عمليات القتل خارج الأطر القانونية أو ارتكب جرائم التطهير العرقي أو الجرائم ضد الإنسانية، يحرم من التمتع بحقوق اللاجئ، يتجاوز فلان الفلاني هذه الفترة العصيبة عبر الدموع والبكاء أمام مكاتب اللجوء، يتباكى على حقوق الإنسان المهدرة في إرتريا وينسى أنه كان شريكا أصيلا في ارتكابها أو تسويقها أو التحريض على ارتكابها، تنقضي فترة النقاهة فينشط العقل التعيس ليعود إلى عصور الظلام من جديد، وتبدأ إفرازات التربية العصابية تتفاعل من جديد وتعود حليمة إلى عادتها القديمة، يعتقد هذا المسكين أن العدالة ليست قيمة إنسانية عليا ( يستحقها كل إنسان) وإنما هي تحويشة عمر ورثها عن أبيه، العدالة والحرية له وحده وليست من نصيب ضحاياه الذين يستحقون أكثر مما حدث لهم حسب عقله الباطن الذي لم يتزحزح عما كان عليه في بداية “التحرير” عندما كان يصفق للقهر والعسف والإعتقال، لا يزال عقله الباطن يردد عبارات التهكم والتسفيه ” حامشاي مسرع” في استحسان ، لم يدرك بعد بأنه كان يسوق لأعمال إجرامية ضد إنسان مثله تماما، له كل الحقوق وعليه كل الواجبات.

الترويج لجعل الثامن عشر من سبتمبر من كل عام، ليعتمد بإعتباره ” يوم المعتقل الإرتري” ما هو إلا نتاج طبيعي لهذه العقلية الظلامية التي تأخذ من العدالة بقدر حاجتها وليس بقدر حاجة كل أبناء وبنات آدم وحواء، القيامة قامت في الثامن عشر من سبتمبر 2001م وقبلها لم يكن هناك ما ينغص حياتنا وكان كل شيئ على ما يرام، هذا ما يعبر عنه الصحفي ( وليس الإنسان العادي) آرون برهاني، الذي يضيف والدموع تكاد تنزلق من بين كلماته المليئة بالحسرة والألم ” كنت في حالة نوم هانئ “تحت البطانية” عندما أيقظتني زوجتي على صوت المذياع وهو يعلن إغلاق الحكومة الإرترية للصحف المستقلة ومنعها من الصدور” ثم سمعنا خبر اعتقال مجموعة الخمسة عشر”، لقد أظلمت الدينا في الثامن عشر من سبتمبر 2001م، هذا صحفي وليس شخص من عامة الناس، ما زال يعتقد أن بداية مشكلتنا في إرتريا كانت في 2001م، بالتأكيد سمع كثيرا عبارة التشنيع والتشهير ” حامشاي مسرع ” التي كانت تطلق على الضحايا الأبرياء ، وبالتأكيد سمع بأن هناك مئاة من الأشخاص الإرتريين الأبرياء كانو قد أكملوا عامهم العاشر أو الثامن أو السادس ( وبعضهم أكثر من ذلك) في حفر السجن الباردة و المظلمة عندما كان يتقلب تحت بطانيته الدافئة في صبيحة الثامن عشر من سبتمبر 2001م.

إذا كانت رسالتنا هي المطالبة بالعدالة والعمل على إحداث تغيير حقيقي في عقول الناس، وإعادة ثقة الناس بمبدأ حكم القانون، فإن الشرط الأول لتحقيق ذلك هو تأكيد مبدأ المحاسبة ( بدون استثناءات)، مثلا لدينا مجموعة الخمسة عشر التي تم اعتقالها في سبتمبر 2001م من قبل النظام الإرتري، نأخذ منهم بالأسماء (بطرس سلمون ومحمود شريفو وهيلي درع) ونضم إليهم رفيقهم مسفن حقوص الذي فر بجلده وتمكن من الإفلات، وهؤلاء لم يكونو جنودا عاديين ، بل كانوا في مواقع تنفيذية عليا، بطرس سلمون كان يرأس جهاز الأمن السري لمدة طويلة ، محمود شريفو كان رئيس الحكومات المحلية ( نائب رئيس الدولة) وهيلي درع تقلد مناصب قيادية حساسة آخرها منصف وزير الخارجية، أما مسفن حقوص فكان قائدا أعلى للجيش إلى جانب كونه ضمن الحلقة السرية الضيقة التي كانت تتحكم بالوضع السياسي والأمني بشكل حصري مطلق.

وهناك شواهد عديدة ومتواترة ربما ترقى إلى مستوى الإثبات القطعي بأن هؤلاء الأشخاص بالتحديد مارسوا انتهاكات خطيرة ومدمرة لحقوق الإنسان، وتشمل القتل خارج الأطر القانونية،التشغيل الإجباري، إعدام جنود أبرياء،الإعتقالات التعسفية ، والإخفاء القسري ، والإغتيالات السياسية، ومصادرة الأملاك، وترويع المواطنين الأبرياء ( والترويع يعتبر نوع من أنواع الإرهاب)، ومعظم هذه التهم تدخل في حيز ” الجرائم الخطيرة” بمعنى أن مرتكبي هذه الجرائم يجب جلبهم أمام القضاء ومحاكمتهم وتطبيق أقسى أنواع العقوبات بحقهم، المطلب الرئيسي هنا هو أن يقف هؤلاء أمام قاضيهم الطبيعي ( سواء في القضاء المحلي أو القضاء الدولي- لأن الجرائم المرتكبة تعتبر جرائم يعاقب عليها القانون الدولي في حالة عجز أو عدم رغبة المحاكم المحلية في محاكمتهم)

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مهم حول مبدأ جوهري من مبادئ العدالة ” هل تسقط تهمة الجريمة المرتكبة في وقت سابق ، بسبب تعرض المجرم للضرر من أي نوع؟” بمعنى هل اعتقال مجموعة الخمسة عشر ( لأسباب لا تتعلق بمساءلتهم ومحاكمتهم في الجرائم التي ارتكبوها أثناء وجودهم في السلطة) تسقط عنهم  تهم الجرائم الخطيرة التي مارسوها لفترة طويلة أثناء وجودهم في مواقع تنفيذية؟ وهل زوال السلطة يعفي من المسؤولية القانونية؟ لنفترض أن هناك انقلاب عسكري حدث في إرتريا، وقامت المجموعة الإنقلابية بإخفاء أسياس أفورقي ويماني قبرآب والشلة المحيطة بهم ولم تقم بمحاكمتهم أو التصريح بحالتهم الوجودية ( أحياء-أموات) هل هذا الظلم الذي تعرضوا له يسقط عنهم مسؤوليتهم عن الجرائم التي ارتكبوها أثناء وجودهم في المواقع التنفيذية؟

المنطق القانوني يقول ، أن مجموعة الخمسة عشر ( وبالتحديد الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم خطيرة اثناء وجودهم في السلطة) يجب أن يمثلوا أمام القاضي ولو كانوا على فراش الموت، وأن يقوم القاضي بتلاوة قائمة الجرائم المتعددة التي ارتكبوها، ليستمعوا بأذانهم إلى فظاعة الجرائم التي ارتكبوها بإستخدام أدوات السلطة التي كانت في يدهم، ويجب أيضا أن يعرفوا عقوبة أفعالهم وجرائمهم، ويجب أيضا إجبارهم على الوقوف مكتوفي الأيدي ( بلا مسدسات) أمام ضحاياهم أو أبناء وأحفاد ضحاياهم، عليهم أن ينظروا إلى دموع القهر وهي تجري على خدود الأرامل والأيتام الذين كانوا سببا مباشرا في تدمير حياتهم وقلب معاشهم إلى جحيم، البشر ليسوا أرقام حتى يتم تجاهلهم لأن من قتلهم هو بطرس سلمون أو محمود شريفوا أو غيره، كل الأشخاص الذين قتلهم بطرس سلمون أو اختطفهم محمود شريفو لديهم أخوات تبكي ولديهم أمهات تبكي ولديهم أبناء وبنات وكانت لديهم أحلامهم الخاصة كغيرهم من البشر لم يتمكنوا من تحقيقها بفعل طلقة أو قيد وبأوامر مباشرة من هؤلاء.

البعض يتحدث عن العدالة الإنتقالية ويحاول استخدامها كصك براءة للمجرمين بإعفائهم من كل الجرائم المرتكبة ، من خلال التعويل على ذاكرة الشعوب سريعة النسيان أو عن طريق الإنكار و التجاهل أو عن طريق محاولة تبرأتهم بالمجان، العدالة الإنتقالية لها شروط تأتي بعد تأكيد الحقوق وإثبات الجرائم وتحديد المجرمين، العدالة الإنتقالية تقتضي أن يتراضى  الناس ( أهالي الضحايا وأهالي المجرمين) على مبدأ العفو عند المقدرة والتنازل عن الحق القانوني في تنفيذ العقوبة من أجل المصلحة العامة لإستعادة الهدوء وإيقاف آلة القتل والتدمير المتبادل، وهذا العفو ليس بيدقا في لعبة الشطرنج السياسية، بمعنى أن حق التنازل والعفو هو حق حصري للضحايا وأهاليهم وليس رخصة للمجاملات والإستقطاب السياسي، ومن أهم شروط العدالة الإنتقالية أيضا، الإعتراف والندم من قبل المجرمين السابقين، بالوقوف أمام الضحايا وأهاليهم  والإعتذار لهم ( وجها لوجه، أو عبر الوسائل المشاهدة كالتلفزيون الرسمي)، وذلك بهدف تهدئة الخواطر وتضميد الجروح النفسية للضحايا وذويهم.

نعود إلى حقوق هؤلاء المجرمين السابقين بناءا على القرائن المتوفرة، والذين دارت عليهم دائرة الصراع على السلطة ووضعتهم في خانة ” الضحايا”  وتركونا لنقوم بإحصاء وإعادة تصنيف الضحايا من جديد ” الضحايا السابقون” والضحايا اللاحقون” وبالتأكيد سوف يكون لدينا أجيال تخلف أجيالا من الضحايا وضحاياهم في سلسلة لا نهاية لها، إلا إذا نجحنا في إيقاف هذه الماكينة ، ماكينة القهر والإستبداد والتسلط والقتل المجاني، فقط عندما نحترم الإنسان بإعتباره فرد عزيز من الأسرة الإنسانية الكبرى ( بغض النظر عن لونه أو لسانه أو خلفيته الدينية والثقافية) عندها فقط نستطيع أن نستريح من هذا العبث المتبادل بالأرواح، تلزمني الإشارة هنا أيضا بأن محمود شريفوا، بناءا على القرائن والمعطيات،  مشارك بفعالية في جرائم الإختطاف والإخفاء القسري لا سيما تلك التي حدثت أثناء شغله منصب وزير الحكومات المحلية ( وزير الداخلية ونائب الرئيس) ولكنه لم يكن يوما عضوا في الدائرة الضيقة التي تنفذ مشروع التصفية والتطهير العرقي، ربما ينطبق عليه تماما التوصيف الذي قدمه محمد حسان في فترة سابقة.

ويمكننا أن نجادل أيضا بأن هذه ليست هي القاعدة، بمعنى آخر أن الجبهة الشعبية هي تنظيم سياسي ( أو هكذا كان يفترض بها أن تكون) ، تنظيم سياسي لديه رؤية ومبادئ سياسية ولديه خطاب سياسي معلن ( الحرية قبل التحرير والعدالة والديمقراطية بعد الإستقلال) وهذا يحتم وجود أشخاص (  بأعداد كبيرة جدا طبعا)  يؤمنون بهذه المبادئ ويعملون على تحقيقها بحسن نية وإخلاص من خلال انتمائهم لهذا التنظيم ، ومن هنا فإن مجرد انتمائهم إلى هذا التنظيم لا تنطبق عليه شروط ” الإنتماء إلى تشكيل عصابي بالقصد الجنائي” هناك أشخاص كثر ناضلوا في صفوف هذا التنظيم حسب قناعاتهم بمبادئه المعلنة، ولم يرتكبوا أي جريمة أثناء خدمتهم في التنظيم، بل هناك أشخاص حاولوا منع ارتكاب الجرائم أو إنقاذ أرواح بريئة بقدر ما يستطيعون، هنا يكمن الفرق، هناك أيضا من ينسلخون من صف العصابة وهم على وعي تام بأن الجرائم التي ترتكب بإسمهم لا تمثلهم ولا تمثل المبادئ والقيم التي يؤمنون بها ، يرفضونها بقلوبهم ولكنهم يتعاملون ببرود إزاءها خوفا من الإنتقام حتى يفتح الله عليهم بمخرج يسلكونه ليأخذهم إلى خارج الصندوق، ولدينا أمثلة عديدة مشرفة لا يتسع المجال لسردها في هذا المقام.

ندلف بخطوة واحدة إلى حملة “يوم المعتقل الإرتري” التي تعتمد الرابع عشر من إبريل من كل عام بإعتباره الأكثر رمزية للتعبير عن اللحظة الفارقة التي انزلقت فيها أوضاع الحريات و حقوق الإنسان في إرتريا إلى الهاوية، في هذا اليوم،  الرابع عشر من إبريل عام 1992م قامت أجهزة النظام الإرتري بتنفيذ حملة اعتقالات واسعة ومنظمة طالت العشرات من المعلمين والتجار ووجهاء المجتمع، التوصيف المنطقي لهذه الحملة بناءا على المنهج المستخدم فيها هي أنها كانت حملة ” تطهير عرقي” تبدأ بنشر الرعب وإشاعة الخوف وسط المجتمع المستهدف وتتواصل حتى تحقق أهدافها بإزالة أي مؤشر للمقاومة ثم تتصاعد بإتجاه إزالة الخطر “المتوهم” ويتمثل هذا الخطر في وجود (مجرد وجود) مجتمع بهوية محددة غير مرغوب في وجودها ( ثقافية كانت أم دينية أو عرقية) تمهيدا لإقتلاع هذا المجتمع الذي يقف عقبة أمام هيمنة مجتمع آخر يراد له أن يحل محله مدفوعا بروح الهيمنة ومشحونا بدوافع الكراهية القومية، وهذا بالضبط ما ظل يحدث في إرتريا منذ الإستقلال، ونجد هنا أن الروح الوطنية العامة  الخاوية من أي مضمون حقوقي ” إرتريا وطني، على الفاضي” استخدمت بشكل منظم ومحترف لتغبيش وعي المجتمع بخصوصيته ضمن الإطار الوطني العام وبحقوقه ضمن هذا الإطار الوطني ، ونجد أن هذا الأسلوب استخدم ضد مجتمع المنخفضات الإرترية بشكل أكثر وضوحا في كل تفاصيله وخطواته الممرحلة، ويمكننا هنا أن نشير إلى بعض الخصائص المتفردة التي التزمت بها حملات الإعتقالات والإخفاء القسري سواءا منذ فجر الإستقلال وحتى سبتمبر عام 2001م

 نلاحظ أولا: أن من طالتهم  هذه الحملة ينتمون إلى خلفية ثقافية محددة ( أساتذة ومعلمين لغة عربية) وخلفية دينية معينة كما أن لديهم صفة مشتركة هي أنهم أشخاص فاعلون يملكون القدرة على التأثير ( متعلمون أو تجار أو أصحاب كلمة داخل المجتمع)، وهذا اسلوب معروف يتكرر حدوثه في الصراعات المنظمة ذات الطابع الثقافي أو العرقي، والهدف النهائي هو تركيع المجتمع عن طريق تغبيش وعيه بكينونته الذاتية  ومن ثم التحرك خطوة بخطوة لتنظيف المنطقة من هذا العنصر تحديدا وهو وجه من أوجه التطهير العرقي المنظم.

ثانيا: نجد أن حملات الإعتقالات تواصلت بشكل دائب متخذة أسلوبا نسقيا ثابتا هو التربص الهادئ والمنظم، ومن ثم التقاط الضحية  في سرية وهدوء أشبه بالسرقة واللصوصية حتى أن الجار المباشر للضحية لا يكاد يستشعرها، وهذا عمل لا يمكن أن تقوم به حكومة أو نظام سياسي وإنما هو عمل إجرامي ينتمي إلى ممارسات الشبكات الإجرامية والمليشيات الطائفية.

ثالثا: هذه الحملات المستمرة كانت انتقائية بطريقة تجعل المراقب يوقن بأنها تهبط من سلطة عليا تعرف بالضبط ماذا تريد وماذا تفعل، وهناك ملاحظة جديرة بالإنتباه وهي من ضمن الأساليب التي يمكننا أن نعتمد عليها لإثبات حالة التطهير العرقي في المنخفضات الإرترية، تلك هي السمة المميزة للمستهدفين من هذه الحملات، فمثلا نادرا ما تجد أسباب سياسية ضمن دوافع الإعتقال والإخفاء القسري، بمعنى أن دوافع الإستهداف لم تكن سياسية في معظم الحالات ( لا علاقة لها بأيديولوجية الضحية أو بتوجهاته السياسية)، السمة المميزة للمستهدفين هي إمكانية التأثير على المحيط الإجتماعي، مثلا طبيب يمارس مهنته بشكل ناجح ومنضبط في حياته تتداول سيرته الحسنة على ألسنة المرضى وذويهم، تاجر ناجح يلجأ إليه الناس لحل مشاكلهم الصغيرة، شخص متعلم يمكن أن يبدي رأيا واعيا في المسائل الإجتماعية والثقافية ( بعيدا عن السياسة) أو طالب نجيب يحصل على مؤشرات النبوغ والتفوق المبكر، كل هؤلاء توضع عليهم علامة (X) ويتم اصطيادهم واحد تلو الآخر في هدوء تام، إذًا،  لا علاقة للأمر بالسياسة ولا بالرأي السياسي، وإنما هي إجراءات مرسومة لتدمير القوى المؤثرة في المجتمع تمهيدا لطرده من الحيز المكاني المراد إخلاءه وتطهيره من هذا العنصر البشري تحديدا، وضمن ذات السياق هناك البديل السكاني الذي يزحف في اتساق كامل مع هذه الحملات مشحونا بروح الكراهية القومية و ومدفوعا بغريزة التوسع والإستيلاء التي لا ترى الآخرين إلا من زاوية أنهم تهديد مباشر أو محتمل يمكن أن يعيق تقدمها ويكبح  مسيرتها نحو الهيمنة الكاملة على الأرض.

رابعا: بما أن الأمور بخواتمها فإن النتائج المتاحة للنظر أمامنا في هذه المرحلة تؤكد أن ما كان ( ومازال ) يجري هو عمل منظم لا علاقة له بالتحرير ولا بالثورة ولا بفقاعة البناء والتعمير وإنما يأتي ضمن مفهوم بناء ” الأمة” وتمهيد الأرضية بكل الوسائل ومهما كلف الثمن لتحقيق هذا الهدف، وللتدليل على ذلك نأخذ بعض الأمثلة من واقعنا الذي نعيش يومياته في هذا الزمن،  إذا كان أحدنا من مدينة مصوع أو عصب أو أغردات ( أقردت؟) أو كرن أو تسني ( سني) وغادر مدينته في عام 1992م ثم عاد إليها في عام 2012م سيجد أنه مازال ينتمي إلى تلك المدينة بملامحها وتفاصيلها الصغيرة ولكنه يجد أمامه مدينة أخرى ينتمي إليها فقط في أحلامه بينما هي لم تعد تعرفه ولا تنتمي إليه، من يرى هذه الحقائق ماثلة أمامه ثم يصدق أننا نتعامل مع نظام ديكتاتوري أهوج لا يفرق بين الأبيض والأسود فإن عليه مراجعة قدرته على الإبصار لأن الصورة لم تعد مطلية بألوان التغبيش كما كان الحال سابقا، ومن لم يستطع الرؤية فعليه بتقنية الــــــ( زووووم) لعله يرى الصورة على حقيقتها.

خلاصة القول، أن الحق في الحياة ، والحق في الحرية هو حق إنساني أصيل وليس منحة من أحد، وانطلاقا من هذا المبدأ فإن من يزهق الأرواح بالقتل والتعذيب ويهين كرامة الإنسان يجب علينا جميعا محاربته وإقصاءه من المشاركة في حياتنا العامة لأن من يتجرأ على القتل وارتكاب الجرائم ليس مؤهلا ليعيش بين الأسوياء، ومعلوم أن الإنسان الذي سبق له ارتكاب الجرائم ( لاسيما تجريب عمليات القتل والتعذيب) تختلف نظرته للأشياء وتختلف نظرته للبشر بشكل عام.

التعاطف مع الضحايا ( أيا كانت خلفيتهم الثقافية أو الدينية) هو تعبير إنساني متوغل في أعماق النفس البشرية، وهو من المبادئ الإنسانية العليا التي يجد الإنسان نفسه يقوم بها كواجب تمليه عليه فطرته السليمة، التعاطف مع الضحايا يقتضي أيضا مخاصمة المجرمين والقتلة وليس الإحتفاء بهم والتصفيق لهم، لدينا ( مع الأسف الشديد) بعض النشطاء السياسيين في المعارضة الإرترية يجبرون الواحد منا على التساؤل عما إذا كانوا لا يزالون يحتفظون ببقايا من إنسانيتهم المتشظية، تجدهم يتعاطفون، ويذرفون الدموع على كل الضحايا في العالم ، ضحايا الزلازل، ضحايا التفجيرات وضحايا المجاعات في العالم الثالث أيضا، كما يتعاطفون مع ضحايا الجبهة الشعبية بشرط أن يكون الظلم والعسف الذي حل بهم وقع بعد تأريخ اعتقال مجموعة الخمسة عشر في سبتمبر 2001م وليس قبله، حتى أن بعض النشطاء يغربلون صفحات التأريخ بحثا عن أي حادثة  تساعدهم على نسيان ما حدث من قهر وتسلط وإعدامات واعتقالات وإخفاء قسري وغيرها من الإنتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان التي مارستها الجبهة الشعبية ( العصابة الإجرامية) قبل تأريخ اعتقال مجموعة الخمسة عشر، حتى أن بعض هؤلاء يتذكر اغتيال رجل الدين وداعية الحقوق المدنية القس مارتن لوثر كينج ، تلك الحادثة التي مر عليها نصف قرن من الزمان تقريبا، وعلى ما يبدوا،  ليس ذلك تعاطفا مع الضحية كينج ولا إيمانا بمبادء الحقوق المدنية، ولكن نكاية بمن يحاول ازعاجهم بالرابع عشر من إبريل ” يوم المعتقل الإرتري” ذاك المعتقل ” الآخر” الذي لا يعترفون به ولا بحقوقه لأنه يذكرهم بأنفسهم عندما كانوا عرايا “من إنسانيتهم” يرقصون مع الذئاب في غابات الوحشية والبربرية المظلمة ، يتذكرون  أنفسهم وهم يقرعون الطبول ويتهامسون بعبارات التهكم على إنسانية الضحايا ويلبسونهم لبوسا غير لبوسهم تارة بوصفهم ” حامشاي مسرع” وتارة أخرى بتبرير اختطافهم لداوعي تأمين البلاد من شر مستطير يتأبطه هؤلاء الضحايا، بالرغم من الشواهد التي تؤكد تهافت وزيف هذه التهم المرسلة.

 ولهذا تجدهم يلوذون بمحراب الإنكار،، وكما يتضح من تجارب الأمم السابقة فإن الإتكار هو الوصفة الناجعة والسريعة لفتح أبواب الإنتقام والثأر الشخصي الذي بدوره يعتبر وصفة أسرع لإنزلاق الشعوب إلى هاوية الحروب الأهلية التي تفتح أبواب جهنم على مصراعيها، عكس التواضع والإعتراف بأخطاء الماضي وإبداء حسن النية على عدم العودة إليه وهو ما يمكن التعويل عليه لبناء الثقة بين المجتمعات وتمهيد الطريق نحو السلم الأهلي الذي تنعكس إيجابياته على كل الأطراف، يتمنى البعض أن يكون يوم الرابع عشر من إبريل نسيا منسيا لإخلاء الساحة لمراسم النياحة على عتبات المبكى في الثامن عشر من سبتمبر 2001م ،لأن الأول يسبب آلاما مبرحة لإنسانيته، ويحدثونك عن مبادئ العدالة وهم يلوحون بشعاراتها الزائفة، دعوا الناس تعود إلى إنسانيتها يرحمكم الله.

=

يوم المعتقل2

 

 

شاهد أيضاً

مواضيع الناقوس-العدد 11- مقابلة العدد مع المناضل/ عبدالله سعيد علاج

الجزء الأول أجرى الحوار: الصحفي محمود أفندي   تحاور مجلة الناقوس المناضل الكبير عبدالله سعيد …

شخصية العدد- المناضل المغييب محمد عثمان داير (الناقوس العدد 11)

       المناضل المغيب / محمد عثمان داير                   …

المنخفضات -تنخفض الأرض.. ترتفع الهمم (الناقوس العدد 11)

بقلم/ ياسين أمير الجغرافيا رسم الاله على صفحة الكون.. والجغرافيا ترسمنا حين نحسب أننا رسمنا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *