هوامش نقدية على تصريحات السفير ولدي جرجيس

masur aliسِلْسِلَةُ مقاربات نقديّة(١)

بقلم:منصور علي

لا أخفي على القارئ سراً أنّ لي اهتمامًا بمتابعة وفحص خطابات كوادر حزب الجبهة الشعبيّة في إريتريا، لاسيّما الخطابات المتّصلة بمراجعات تجربتهم النضاليّة داخل وخارج الحزب. وهي خطابات (إذا صح التعبير) علىى درجة عالية من المراوغة، لأنّ الكثير من حامليها رغم هزيمته المعنويّة؛ مايزال يتمسك بقناعاته الحزبيّة العتيقة، بدلاً من إعادَةِ النَّظر فى منظومته الفكريّة.لم يأتي أيُّ من الخارجين بنقدٍ جَوْهريّ لتجربته فى الجبهة الشعبيّة، وظلَّ ثابتا على تأكيده بأنّ طبيعةَ الإشكاليّة فى إريتريا إداريّةٌ في أساسها. وهذا غير صحيح، إنْ لم يكن تمسكٌ بذات الأخطاء المتواترة التي قامت عليها الجبهة الشعبية، لأنَّ كل الدلائل الموضوعيّة تقول: إنّ الإشكاليّة تكمن فى المنفستو الفكرى والثقافي الذي نهضت عليه الجبهة الشعبية.

 وعليه، اطمح عبر هذا المقال( وسلسلة الأجزاء التي ستتبعه) مقاربة هذه المسألة، خصوصًا وأنّ مجموعة مقدّرة من الكوادر المنشقة عن حزب الجبهة الشعبيّة في إريتريا اِنتظمت أخيرًا ضمن كيان سياسي ومدني اطلق عليه ” المنتدى الإريتري للحوار الوطني”. والحقيقة، تمكّن هذا المنتدى في فترة وجيزة في استقطاب انتباه الناس عبر البرامج والأنشطة التي يقوم بها، مثل البرامج التي تبثها إذاعة صوت المنتدى التابعة له، أو عبر استضافته منتديات حواريّة لقوى المعارضة الإريترية (نيروبي 2015م) أو مشاركته النشطة في الحوارات بشكل عام ( فرانكفورت 2015م)

وعلى الرغم من أهميّة هذه البرامج للمنتدى، إلا أنها بدأت تكشف المستور (كما يقال). مثلاً، فى ورشة عمل فرانكفورت التي نظَّمها معهد فيلسبيرغ بألمانيا في نوفمبر المنصرم، تفاجأَ الناس بتصريحات السفير السابق “عند برهان ولدي جرجيس” والمسؤول حاليا في المنتدى، عندما ذكر أنّ “اللّغة العربية في إريتريا هي لغة أكيتو” في إشارة غير لائقة للمرحوم الشيخ محمد عمر أكيتو(١٩١٩-٢٠١١) الذي كان ضمن أوائل المطالبين باعتماد اللّغة العربيّة لغةً رسميةً فى إريتريا. وقد أثمرت تلك الجهود بتثبيت المادة(٩٣) في دستور١٩٥٢والتي نصَّت على اعتبار اللغتان العربية والتجرينيا اللغتات الرسميتان في إريتريا. بذلك، تعتبر اللغة العربية من الثوابت الوطنيّة التي يتفق عليها الجميع في إريتريا. لهذا أثَارَ تصريح السفير ولدي جرجيس، اسْتِياءًا  في أوْساط الإريتريين، كما تَسَبَّب في إِحْرَاج شركاءه في المنتدى. وتحت ضفوط شركاءه تراجع  فيما يشبه الإعتذار عن موقفه حول اللّغة العربيّة. على المستوى الشخصي، لَمْ يُفَاجِئْنِي سلوك السفير ولدي جرجيس أبَدًا، لأنّ هذا النوع من التفكير الإقصائي متوفر بخصوبة عالية أوْساط كودار الجبهة الشعبية( الحكوميين/ والمعارضين). وهذا مايدفع المرء للتساءل ما إذا كان خروج أمثال السفير ولدي جرجيس من النظام يمثل خروجا على المنظومة الدكتاتورية فكرًا وممارسةً؟ أو بمعنى آخر، هل يُشكّل خروجهم قطيعة(بالمعنى الإبستيمولوجي) مع النظام بكل ما يمثله من شموليّة، وأُحاديّة، وتصوراتٍ أَيْدُيُولُوجِيّة راسخة في ثقافة الإقصاء؟

وأدهى وأمَرُّ من تصريح السفير ولدي جرجيس، هو أمرُ المجموعة التى اِنْبَرت للدفاع عنه بحجج واهية إلى درجة أنْ بلغت الجرأة بأحدهم القول أنَّ ولدي جرجيس لم يصرح بمثل هذا الكلام. لا أنوي الدخول في سجال حول مُسَوِّغات الدفاع عن السفير، لكنّي أزعم إن تصريح ولدي جرجيس ليس بجديد لمن اِطَّلَع على كتابه الصادر باللغة الإنجليزية، والموسوم بــــ” إريتريا على مُفْتَرَقِ الطّرق:شهادات عن حِكَاية النصر، والخيانة، والأمل”. يقع الكتاب في ٦٦١ صفحة من القطع المتوسطة، وصدرت طبعته الأولى فى العام ٢٠١٤. وشغل الكاتب مواقع مرموقة في الحكومة الإريترية، من ضمنها مدير جامعة اسمرا(١٩٩١-١٩٩٣)، ومحافظا للبنك المركزي الإريتري، عضوا بالمجلس الوطني، ثم سفيرا بعدد من العواصم الأوروبيّة حتّى ساعة اِنْشِقاقه عن النظام الإريتري في العام ٢٠٠٦. فيما يلي من المقال، يسرني تقدّيم ترجمة للجوانب المتّصلة بموضوع اللّغة العربية كما طرحها السفير ولدي جرجيس فى كتابه، دون أدنى تدخل من جانبي. أرجئ أمر التدخل للحقلة القادمة، لأنّني أنوي القيام بتحليل مفصّل يبين حيثيّات تصريحه ويكشف وجوه التدليس في توثيقه لمسألة اللّغة في إريتريا.

(2)

الترجمة مأخوذة من كتاب “إريتريا على مُفْتَرَقِ الطّرق: شهادات عن حِكَاية النصر، والخيانة، والأمل”

 من ص ١٧٩-١٨٠

إنَّ سياسة الحكومة المتصلة بــ”التدريس باللّغَة الأُمّ/لغة المنشأ، تتوفر على مزايا جديرة بالاعتبار. أولاً، إنَّ اِسْتِخْدام المرء للغته يعتبر حقا ثابتا لايسلب. ثانياً، يؤكد خبراء التعليم أنَّ التدريس بــ”لغة المنشأ” يُسهِّل على النَّاشِئ اكتساب مهارات القراءة والكتابة، ويمكِّنه بالتالي من إحراز فهمٍ أفضل للمحتوى الدّراسي. ذلك، لأنَّ اِسْتِخْدام النَّاشِئ للغته الأولى يوفر له مزيّة بيداغوجيّة/تَرْبَوِيّة، يتفوق بها على منهج التعليم عبر لغة ثانية دَخِيلة. ثالثاً، إنَّ مسألة اِسْتِخْدام اللّغَة الأُمّ وتطويرها يضطلع بتأدية دورٍ مهم في المحافظة على الهويّة الإثنيّة، والفلكلور، والتراث الثقافيّ.

ومع ذلك، أثَارَ تبنىّ سياسة التعليم باللّغَة الأُمّ، اسْتِياءً بين الإريتريين الذين تلقّوا تعليمهم بالعربيّة، ذلك أنّهم وجدوا أنفسهم بعد عودتهم للوطن مهمشون في سوق العمل مقارنةً بِنُظَرَائهم من المتحدثين بالتجرينيا والإنجليزية. كذلك، تَعَرَّضَت هذه السياسة لانْتِقادٍ شديدٍ لاسيّما من مؤيّدي اِسْتِخْدام اللّغَة العربيّة بوصفها وَسيلةِ التدريس في المدراس التي يكون غالبية سكانها من المسلمين. وَقد جَدَّدَ هَؤُلاَءِ النقَّاد الدعوة إلى التَّخلِّي عن اِسْتِخْدام اللّغَة الأُمّ كوَسيلة للتعليم للمجموعات الإثنيّة من غير قوميّة التجرينيا؛ والقيام بدلاً عن ذلك، بــ”اعتماد” اللّغَة العربيّة، لأنها تعتبر بمثابة عامل مُوحِّد لتعزيز التضامن الإسلامي لمواجهة هيمنة المسحيين من التجرينيا.

وهكذا، فإنَّ إضفاء بُعْدٍ دِينّي على الحياة السياسيّة؛ جعل من القضية أن تكون على درجة من الحساسية، وبالتالي تحوّل الحوار إلى اِستِقطابٍ حادٍّ حول موضوع اللّغة. وإن كان النقاش الذي بدأ حينها، مع الاِنْتِعَاش المؤقت الذى شهدته الصحافة الخاصّة في الفترة من ٢٠٠٠-٢٠٠١ ، قد أُجْهِضَ بصورةٍ قمعيةٍ شرسة فى البلاد؛ لكنّه اِزْدَهَرَ فى الــ”دياسبورا “/الشتات، عبر وسائط الفضاء السايبري المفتوح والخالي من القيود. ومع ذلك، تستلزم الضرورة تَوَخّي الحذر وعدم المغالاة في الترويج لــ رُؤًى ضيِّقة، حتَّى لوكانت مهمة من منظور العدالة والإنصاف، لكنها ينبغي أنْ لا تسيطر على القضايا المشروعة وعلى النقاش السياسي الأوسع حول مستقبل إريتريا.

الحقيقة يعرض التاريخ علينا حالات تبيّن عدم جدوى اِسْتِخْدام الدّين أو بالأحرى النتائج الكارثية المترتبة عنه فى حالة اعتماده أساسًا للهُويّة الوطنيّة او موئلا للتضامن الطائفي. والحقّ، يمثّل اِنفِصال باكستان من الهند في العام ١٩٤٧، حالة نموذجية لحالات التفكك التى تمت بــ”إيعاز دينيّ. والمفارقة، حتّى هذا التجانس الدّينّي لم يسعف في الحيلولة دون حدوث حرب أهلية والانفصال لاحقا فى باكستان الشرقية، مما أدَّى في النهاية إلى تأسيس بنغلاديش في العام ١٩٧١. والحال، تُبرهن حالة الهشاشة واِنْعِدام الأمن المستَمِرّ لدولة باكستان، وماتشهده سياستها من تقلّبٍ شديد لاسيّما العلاقات بين الدولة والمجتمع؛ تبرهن على أنّ الدّين لا يمكن أن يكون أساسًا عمليّا لمسألة التضامن

شاهد أيضاً

مواضيع الناقوس-العدد 11- مقابلة العدد مع المناضل/ عبدالله سعيد علاج

الجزء الأول أجرى الحوار: الصحفي محمود أفندي   تحاور مجلة الناقوس المناضل الكبير عبدالله سعيد …

شخصية العدد- المناضل المغييب محمد عثمان داير (الناقوس العدد 11)

       المناضل المغيب / محمد عثمان داير                   …

المنخفضات -تنخفض الأرض.. ترتفع الهمم (الناقوس العدد 11)

بقلم/ ياسين أمير الجغرافيا رسم الاله على صفحة الكون.. والجغرافيا ترسمنا حين نحسب أننا رسمنا …

تعليق واحد

  1. كنا في انتظار استكمال حلقات سلسلة المقاربات النقدية التي ابتدأها المبدع الشاب منصور ، وقد عزوناها لمشاغل وارتباطات العمل التي تثقل كاهل الجميع ، لكن الإنتظار طال اكثر من اللازم ، نتمنى ان يكون المانع خيرا ؟؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *