من يختلف معنا نصيبه الرصاص أو يغيب ولا يرى الشمس مدى الحياة !

بقلم / أبوبكر عبدالله صايغ

في زمن اللجوء بعنفوان الثورة وأحلام العودة كانت تردد الى اذاننا بيانات النصر المبين وتلقين العدو خسائر فادحة في الارواح والمعدات والكل كان يتلهف لسماع خبر تحرير إرتريا ودحر الجيوش الغازية، لأن الشعب الإرتري الابي الشجاع الذي قدم كل ما يملك من أجل أن يرى اليوم الذي ترفرف فيها أعلام الثورة في شرفات ومنازل كل البيوت الإرترية، وبفضل صمود نضالات امتدت لأكثر من خمسة عقود تمكن أبناءه الاشاوس من دحر العدو، لتبدأ مرحلة العودة للوطن وكان ذلك فصل الكتاب الاول زينته أفراح النصر وهتافات حناجر الجماهير المتفاعلة مع النصر المبين وتحرير إرتريا .

بعد نهاية الفصل الاول بدأت الفصول الاكثر سواداً في تاريخ الشعب الإرتري البطل: حروب هنا وهناك، عدائيات لا حدود لها، عنتريات لا يدعمها واقع الشعب الإرتري الأليم الذي نفض غبار جراحات الاستعمار ليجد نفسه محاصراً مرة أخرى بلا حرية ولا استقلال ولا استقرار ولا سلام .

القصة المأساوية تبدأ بمشهد درامي عنيف ” كل من يختلف معنا نصيبه الرصاص ” الحية ” كما يطلق عليها رجالات التهديد والوعيد أو يغيب ولا يرى الشمس في حياته ابدا. هكذا أعلنوها حرباً لا هوادة فيها على الشعب الإرتري البطل صانع المعجزات.

كثيرة هي القصص التي من الواجب سردها بمناسبة يوم المعتقل المغيب قسريا في سجون النظام الإرتري، نهج الخطف والتصفية والاخفاء القسري لازم النظام الحالي منذ ظهوره في الساحة الإرترية، ولغة العنف وتصفية الحسابات بالدم والخطف والتغيب القسري أوصل إرتريا الدولة الفتية التي كان يتنبأ بها المحللون لتكون سنغافورة القرن الافريقي الى دولة فاشلة تحاصر حكومتها شعبها وتلاحقهم بكافة الوسائل دون رحمة بأساليب القرون الاشد ظلامية في تاريخ البشرية .

ويعرف الإخفاء القسري بأنه القبض، الاحتجاز، أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية، يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات تتصرف بإذن أو دعم أو موافقة الدولة، يعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص المختفى من حريته أو إخفاء مصيره أو مكان وجوده، بما يضع هذا الشخص خارج حماية القانون

اتفاقية روما تستدعي الحديث عن جريمة الإخفاء القسري بعد أن غدت أحد الانتهاكات المتكررة وكانت هذه الاتفاقية أول اتفاقية دولية تبرز تلك الجريمة، وقد اعتبرت الإخفاء القسري ضمن الجرائم ضد الإنسانية التي لا تسقط بالتقادم. لاحقًا، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2006م “الميثاق العالمي لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري” ودخل حيز التنفيذ عام 2010م .

الخطف يبدأ في إرتريا حين يستيقظ المواطن على أصوات طرق شديدة على باب المنزل، وبعدها يدخل الى فناء الدار أشخاص ملثمين بأقنعة سوداء، ومدججين بالسلاح، ليقوموا بتفتيش المنزل ونهب محتوياته خاصة الأجهزة الإلكترونية كاللاب توب والهاتف المحمول والكتب والرسائل وغيرها إذا كان المطلوب من الشخصيات المهمة،  ثم يصطبحوا المطلوب الى جهة غير معلومة. ورحلة اختفاء أي مواطن تبدأ في اللحظة التي قام فيها هؤلاء الملثمون باقتياده بعد تغطية عينيه بقطعة قماش، وربط يديه، هنا تبدأ رحلة الاختفاء القسري للآلاف من الإرتريين داخل الوطن الجريح .

المعتقلات التي تقام عادة تحت الارض وفي مناطق نائية عند حواف الجبال يعزل ساكنيه عزلاً تاماً عن العالم كله. لا شيء يمتد أمام أعين السجناء غير السماء عند خروجه لقضاء الحاجة لا شيء ينبسط ولا شيء ينطلق. مكان ينعدم فيه التاريخ فلا أحد يعرف الزمن الذي مضى ولا الزمن الذي يأتي . لا السجين يعرف متى ينتهي مصيره ولا السجان يعرف متى تنتهي وظيفته. بين شروق الشمس وغروبها أسئلة كثيرة ومشاكل كثيرة، بين غروب الشمس وشروقها ثانية تتشكل المأساة في كوابيس كل سجين.

الجبال الشاهقة والغابات المنيعة هي العالم الوحيد المحيط بجدران السجن والسجناء وحتى السجانين أيضاً هم سجناء بمعنى آخر لانهم هم ايضاً مغيبون ومراقبون، ولكن حركتهم أوسع، مكانهم أكبر، لكن زمانهم له بعض وجود، مثل المغيبين قسريا تماماً كلما مر يوم نزداد تعطشاً الى الحرية.

لا يمكن لأي احد أن يتجاوز على حاضره فهو مستبعد من أية قدرة. القضية الوحيدة الحاضرة  في كل لحظة مع السجناء هي قضية الصراع مع الألم، ولا شيء يبعد الألم غير التأملات المتسلسلة المنبثقة عن إيمان السجين بأن القيود لا بد ان تتحطم ذات يوم مهما طال الزمن .

كل الشرفاء الذين دخلوا تلك السجون الرهيبة التي اصبحت تذكر كرمز  للاضطهاد والقمع والظلم والاستبداد سلاحهم هو الصمود ومقاومة السجان وظلمه بسلب الحريات العامة، وإن قساوة السجن وبرودته وعزلته وما يقاسيه السجناء من تعسف وقهر من قبل السجان لا يمكن أن يجبرهم على الاستسلام. هكذا قاوم سيدنا يوسف عليه السلام الذي كتب على باب سجنه ” هذا قبر الأحياء، وبيت الأحزان، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء ..” هكذا كان في الماضي وفي حاضرنا اليوم نجد الاف السجناء دون محاكمة أو ابسط الحقوق مختطفين لا يدري أحد عنهم شيء، وهذا يعتبر وسمة عار على جبين ثوار الأمس القريب الذين كانوا يملؤون العالم ضجيج بشعار ”  تحرير الارض والانسان ” والنتيجة لم يتحرر الانسان ولم تعمر الأرض.

وأن جريمة الإخفاء القسري في ارتريا تحمل رسائل للمجتمع عبر تغييب وخطف المواطنين وتعذيبهم لإجبارهم على الاعترافات بعيدًا عن جهات التحقيق وأيضا إرهاب المغيب معنويا بعزله عن محيطه، بالإضافة لنشر رسالة لكل معارضي النظام تتضمن أننا قادرون على إخفائكم وعزلكم عن الحياة، ولن يعلم أحد مكانكم.

لكن العجز لم يكن من نصيب الشعب الإرتري المحاصر في الداخل والملاحق في الخارج فحسب، بل امتد ليشمل مؤسسات رسمية عالمية على رأسها الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الاممية والاقليمية والوطنية. يظهر ذلك في حالات المغيبين قسريا في إرتريا التي تعد من أصعب الحالات التي يمكن أن تقابلها في العالم المتحضر اليوم، إذ تكشف قصصهم بأنه لا يوجد شواهد تضعهم في خانة الموتى ولا شواهد تعطي أملاً بأنهم بين الأحياء، وما بين الأملين ترفض الجهات الأمنية إعطاء أي معلومة حول مصيرهم، أو حتى الاعتراف باعتقالهم.

يا تري كيف يكون حال الاسر التي فقدت معيلها ربة الأسرة والاخ الكبير والصغير والاخت والجار والصديق؟ وماهي الصورة التي يمكن أن تعكس لتوضح حال أسر المختفين قسرًا؟ كيف تنام الأم أو الزوجة وجزء من الأسرة في مكان مجهول ومصير مجهول، يتوقع الجميع عودته جثة هامدة كما حصل مع مفجر ثورة الكرامة والحقوق بمدرسة الضياء الشهيد الشيخ / موسي محمد نور وقبله أخوه الشهيد أحد مؤسسي الثورة الإرترية  / طه محمد نور وغيرهم كثر لا يمكن إحصائهم في هذه العجالة وقد نجد أسمائهم لدي المنظمات المختصة؟

 الأسر الإرترية تعيش مأساة حقيقية ينجم عنها أوضاع مزرية لها تأثيرات ممتدة على المجتمع، فحين تجد زوجات وأمهات المغيبين أن الأطفال قد كبروا ولا يعرفون أين آباؤهم، آخرون تزوّجوا في غياب الأب، وآباء وأمهات توفوا من الحزن على أولادهم ومصيرهم المجهول.  ان كارثة الاختفاء القسري والمخفيين قسريا لا تقتصر المعاناة فيها على المغيبين أنفسهم، بل تمتد إلى ذويهم واقاربهم والمجتمع عموماً .

الخطف والاعتقال والتغييب القسري في ارتريا يبدأ عادة باستهداف الشخص المطلوب في الطرقات العامة وغالبا يكون في الأماكن التي يقل فيها الازدحام أو الخطف من المنازل ليلاً أو من مكان العمل …. الخ .

 وحين يتم خطف الشخص المطلوب فوراً تعصب عيناه ويتعرض للكتيف الخلفي وربط الذراعين ويظل ملقىً على الأرض في السيارة التي يخطف بها، ثم ينقل الى جهة غير معلومة يقضي فيها بقية حياته مخفياً دون محاكمات علنية ولا مرافعات ولا موكلين يدافعون عنه ولا اسر تعرف مكانه وتزوره .

خلال مرحلة الاخفاء القسري تراودك كل الذكريات، وتتصارع معها، والتي تكون حاضرة معك لحظة بلحظة حتي لو وجدت صعوبة في مراجعتها غيابيًا، تتزاحم الصور والاشواق للأهل والاولاد والاسر الممتدة والوطن وتخنقك شعارات الثورة الزائفة وسنوات العمر التي ضاعت وكان نصيبك منها الاخفاء القسري لا حقوق ولا مثل ولا عدالة يمكن أن تنصفك. إنها لحظات الألم الفظيع والموت المتكرر لحظة بلحظة حين تشاهد مريض يتلوى من الألم وتنادي بأعلى صوتك ولا أحد يجيب، ويعد التجاهل أشد أنواع الإيذاء النفسي .

في الختام لا يسعني ال أن أضم صوتي لأصوات الاحرار الذين يرفعون صوتهم عالياً مطالبين بالإفراج عن المغيبين في بلادي ارتريا وتحرير الانسان الإرتري المحاصر والملاحق والمغيب والمخفي دون وجه حق من قبل نظام الهيمنة القومية وسلطة لا تحترم الانسان ولا الانسانية .

شاهد أيضاً

مواضيع الناقوس-العدد 11- مقابلة العدد مع المناضل/ عبدالله سعيد علاج

الجزء الأول أجرى الحوار: الصحفي محمود أفندي   تحاور مجلة الناقوس المناضل الكبير عبدالله سعيد …

شخصية العدد- المناضل المغييب محمد عثمان داير (الناقوس العدد 11)

       المناضل المغيب / محمد عثمان داير                   …

المنخفضات -تنخفض الأرض.. ترتفع الهمم (الناقوس العدد 11)

بقلم/ ياسين أمير الجغرافيا رسم الاله على صفحة الكون.. والجغرافيا ترسمنا حين نحسب أننا رسمنا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *