من كتاب ” صمود الهويات ودحض المفتريات ” الفصل السادس (1)

sumud2

الفصل السادس: قضايا لغات التعليم واللغة الرسمية بإرتريا بعد الاستقلال (1)

  كتابات إدريس سعيد  أبعري نموذجاً

الصراع الثقافي في إرتريا ماثل لعيان ولا يحتاج إلى مكبرات أو تحليلات ، سواء كان سببه اختلاف البيئة الجبلية والبيئة السهلية للسكان ( طوبوغرافيا البلاد) كما يرى البعض أو أنماط علاقات الانتاج (ثقافة التقشف المرتبطة بالأرض الضيقة وثقافة الرعيْ المنطوية على السعيْ في الارض الواسعة ) أو الجغرافيا والديموغرافيا والطقس والتضاريس الأرضية، أوالتاريخ وعلاقات السلم والحرب القديمة والجديدة، أواللغة والدين أو مؤثرات خارجية أخرى. كان من السهل تحويل الاختلاف الثقافي ذلك إلى إثراء فكري وتبادل ثقافي حميد في ظل وجود شرعية دستورية وتبادل سلمي للسلطة أو على الأقل توافق مرحلي للحكم حتى تنضج العلمية الديمقراطية سياسيا ، إلا أن الطرف المسيطر على إرتريا اراد أن يكون صراعا عنيفا لدرجة أن إرتقى به إلى تخوم جرائم ضد الانسانية بتصفية من يراهم خصوم ثقافيين جسديا أو تغييبهم في سجون مجهولة أو إجبارهم للفرارمن البلاد.  من الواضح إن تلك المعضلات ممتدة إلى العديد من مناحي حياة السكان وليس فقط في الشئون الثقافية والتعليمية وانعكست سلبا على استقرارالمواطنين في بلادهم.

بعض هذه الصراعات غير المتكافئة نلمسها في قضايا لغاة التعليم ومخرجات التعليم واللغة الرسمية للبلاد.

المناضل سعيد إدريس أبعري نموذجا من الذين تصدو لقضايا لغات التعليم من منطلق وطني .

ذلك المناضل الكاتب أفنى زهرة شبابه في الثورة الإرترية في صفوف فصيل قوات التحرير الإرترية ثم بعد ذلك في ( الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا ) وأصيب بإحدى المعارك الطاحنة إصابة بالغة ، غير أنه لم يتوقف عن النضال حتى استقلال إرتريا . وبعد الاستقلال ببضع سنوات اعتقل عندما قال كلمته عن السياسة التعليمية بالبلاد ودون أن يخرج من قرارات تنظيمه في ذلك الشأن. وإلى الآن لم يعرف مصيره أحيا أو ميتاً شأنه شأن المئات من مواطنيه الإرتريين.

البطاقة الشخصية:

– إدريس سعيد  أبعري ( مناضلا في صفوف الثورة الإرترية من عام  1970م  إلى 2001 م)

– ولد في أغسطس 1953م بقرية عد شومة بإقليم سمهر من أبوين إرتريين.

عمل بمختلف الوحدات القتالية في قوات  التحرير الإرترية ثم في الجبهة الشعبية وأصيب إصابة بالغة في عام 1976 م.

– وبعد الإصابة انتقل إلى قسم الإدارة الشعبية.

– من عام 1979م حتى 1991 م عمل بمكاتب الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا في السودان – (بورسودان ثم الخرطوم) وتابع في السودان دراسته  ونال شهادة المدرسة السودانية المفتوحة بالمراسلة.

– طوّر مداركه الثقافية في السودان وبدأ يكتب مدافعاً ومنافحاً عن الثورة الإرترية خاصة وعن قضايا القرن الإفريقي بصفة عامة ولم يلاحظ  في كتاباته تعصب حزبي أو تنظيمي.

– من عام 1991 م إلى 1994 م عمل مسئولاً بشعبة الدراسات في وزارة الشئون الخارجية الإرترية.

– من عام 1997 م إلى تاريخ اعتقاله في سبتمبر 2001 م كان يعمل مديرًا عاماً بوزارة العمل والرعاية الاجتماعية.

في عام 1993 م أصدر مجموعة قصصية بعنوان عظام من خزف. ونشر عدة دراسات سياسية بعددٍ من الجرائد والمجلات الإرترية والسودانية.

في 1998م  أصدر كتابه السياسي ” إرتريا ورهان الاسلام السياسي” حركة الجهاد الإسلامي نموذجاً.

وفي 2001 م كتب عددٍ من المقالات في صحيفة إرتريا الحديثه عن السياسة التعليمية بإرتريا . سبب إعتقاله المباشر قد يكون مقاله المنشور في صحيفة إرتريا الحديثة وكان تحت عنوان

” التعليم بلغة الأم بين سندان الرفض الشعبي ومطرقة أكاديميي وزارة التعليم” (1) وكان ذلك المقال ردًّا قوياً لتصريحات رآها استفزازية صدرت من بعض مسئولي الوزارة الذين أسند إليهم تنفيذ مشروع التعليم بلغات الأم عندما أعلنو في وسائل الإعلام المحلية بأن مشروع لغات الأم قد اكتمل بنسبة 75 % ووجد ترحيباً وقبولا من الشعب الإرتري. هالته تلك التصريحات ففندها وانبرى يفصَّل في مقاله ذلك كل المصاعب المصاحبة تنفيذ هذا المشروع وأضراره البالغة على الطلاب المستهدفين وصعوبة تطبيقه في المناطق الحضرية المختلطة التي تقطنها أكثر من مجموعة لغوية وعلى أبناء الزيجات المختلطة، ولم  يذكر في مقاله ضرورة اعتماد اللغة العربية لأسباب تاريخية واجتماعية ودينية وإن كان ذلك حقيقة لا غبار عليها، ربما لتفادي إثارة حساسية بعض الإرتريين الذين كانو على رأس المشروع ولم يكتمل بعد وعيهم الوطني لهزيمة العصبية الإثنية وقبول مقتضيات الوحدة الوطنية أو لم يكتمل بعد يقينهم بأن الأمر لا يمكن تجاوزه .( يبدو إن هذان العنصران أي اليقين والوعي الوطني من أجل مقتضبات الوحدة الوطنية الإرترية السليمة سيستغرقان سنوات طويلة ).

كان ذلك المقال القشة التي قصمت ظهر البعير لأن المقال كان واضحاً وقوياُ ومنصفاً ومحرجاً في نفس الوقت للذين أسند إليهم مهام ” مشروع لغة الأم المرفوض شعبياً “. غُيِّب الرجل وربما قضى نحبه بالسجن المجهول ولم يثيرالموضوع  أحدًا بعده من داخل التنظيم إلا ما كان من أصواتٍ خافتة ومنشورات باهتة محدودة من مجموعة (جمعة الحرية ) أي (عاربي حارنت) السرية التي لم يعد لها أثر بعد حادثة فورتو. ولم يسمع عن إطلاق سراح ذلك المناضل الفذ بعد.

بعد اعتقال إدريس أبعري بفترة صودرت في القطركله حرية الصحافة وبالضرورة بصيص حرية التعبير التي لم تدم طويلا واعتقل أو فرَّ من البلاد معظم الصحافيين. وبدى للجميع، دوافع تلك الإجراءات ( تكميم الأفواه) وقطع الطريق أمام الكتاب والصحفيين حتى لا يسئل عن المعتقلين السابقين وكشف السياسات المخفية والمرفوضة شعبياً وعن أمور مرفوضة أخرى ربما سينفذها النظام تباعاً في المستقبل.

 لم يشفع للمناضل إدريس أبعري نضاله الطويل والمرير ( 1970 م إلى 2001 م ) وعاهته الخطيرة المزمنة  وكونه مقاتلا بالجبهة الشعبية لفترة طويلة ، وخدماته الإعلامية والإدارية بعد العاهة، والأخطرمن كل ذلك  نيله الفظيع من مشائخ وقيادة حركة الجهاد الإرتري في كتابه المنشور عام  1998م  ( الاسلام السياسي بإرتريا حركة الجهاد الاسلامي نموذجاً ) وقوله عنهم مالم يقوله مالك عن الخمر، الأمر الذي اعتبر حينها تحريضاً من الجبهة الشعبية. لم يشفع له كل ذاك واعتبر وجوده  فوق سطح الأرض خطراً على مشروع تحويل المجتمعات الإرترية المسلمة إلى ثقافة مغايرة لما درجو عليه، فقط بمجرد نقده طريقة عمل المسئولين عن التعليم ومطالبته تطبيق قرارًا من قرارات الحزب الحاكم في هذا الشأن.  بمعنى آخر ذنبه كان مجرد مطالبة الدولة باحترام قراراتها التنظيمية والحزبية فيما يتعلق بالإختيارية في لغة التعليم وضرورة تطبيق الاختيارية المعلن عنها على الوجه الصحيح).

مقاله كان ردّا على تدليس وافتراء بعض المسئولين بوزارة التعليم الإرترية ليس له معهم عداءً شخصياً، ولم يستنكر عليهم ما يحملون من آراء ولكن استنكر إعلان أراء وهمية وتصريحات كاذبة. وكان يسعى فقط لتفعيل ما أتفق عليه حزبياً ظاناً منه  الدولة القائمة وهو منها تحترم قرارات الحزب الذي يقودها وتحترم حقوق الإنسان وخياراته.

اعتقاله بتلك الصورة الكيدية دليلٌ على أنه لم يكن عضواً في حزب الشعب السري بل مناضلا ضمن آلاف المناضلين المستغفلين ولا أقول المغفلين. لذلك لم تـشفع له خدماته الكبيرة للتنظيم ويبدو لأهمية القضية التي تناولها بالنسبة للحزب السري، بل ربما منذ فترة طويلة كان يُنظر إليه بريبة وشك وتوجس بسبب ملكاته الكتابية الملفتة وحنكته وميوله الوطني وشجاعته في قول الحق الأمر الذي يفسر نقله إلى مناصب عديدة خلال فترة وجيزة. الرجل كان مشهودً له بالإقناع عندما يكتب عن موضوع معين متيقن من صحته وله عنه معلومات كافية وحقيقية.

أوضح إدريس أبعري في بداية مقاله مدار البحث بأنه يكتب عن موضوع ” التعليم بلغات الأم”  للمرة الثانية لأن الأمر يهم الجميع وإن التعليم قضية وطنية هامة خصوصاً في بلد متعدد اللغات مثل إرتريا، وطالب في مقاله الأول البت في الأمر عبرجهة تشريعية وطنية وليس من خلال وزارة التعليم  ملفتا النظرعن وضع وزارة التعليم كجهة تنفيذية وبأن لغة المنهج ليست قضية فنية تعالجها جهة تنفيذية بل هي قضية وطنية تبت فيها جهة تشريعية منتخبة من الشعب. ما يعني كان يريد إنشاء جهة أو هيئة برلمانية أو تشريعية ضمن المجلس الوطني الصوري لبحث موضوع لغات التعليم بإرتريا بشكل علمي دقيق

ذكر في مقاله ذلك مقابلته بالصدفة مسئول في وزارة التعليم ونقاشهم عن اكتمال مشروع لغة الأم من عدمه ويقول وجدَ معلومات ذلك المسئول الكبير بوزارة التعليم مشوشة فيما يتعلق بلغة وثقافة شطركبير من الشعب الإرتري وتكاد معلوماته معدومة أو ربما كان ذلك جهلا مفتعلاً. كما أوضح في المقال أنه لا يشك في نوايا القائمين على وزارة التعليم وعلى مقاصد القائمين بمشروع لغة الأم تحديدأ ما يوحي بمدى إلتزامه بخطه التنظيمي، كما ذكر إن حرصه على سلامة وطنه وبناء دولة يسودها القانون والإنصاف هو الدافع الوحيد لمقاله ذلك ما يدل على إن الرجل كان وطنياً أكثر من كونه حزبياً متعصباً.

 إن الذين يحكمون إرتريا اليوم لم ينظرو لمطالب الإرتريين المسلمين والوطنيين الآخرين في قضايا التعليم واللغة العربية والهوية والحرية وتكافؤ الفرص وحكم القانون من وجهة نظر الغالبية العظمى أو من وجهة نظر إدريس سعيد أبعري الوطنية ومن يمثلهم ، بل ينظرون إلى تلك المطالب من وجهة نظرهم ومن زاويتهم الثقافية الخاصة وربما المحرًّضَة كما أن رد فعلهم  ضد مقالات المناضل إدريس أبعري ينم عن ضحالة فكرية لا يملك أصحابها شيء من أدوات الإقناع إلا القمع والإسكات. المقال الأخير حقيقة أخلّ بتوازنهم ولم يتوقعو مثل ذلك الرد القوي من شخص محسوب على الجبهة الشعبية منذ نعومة أظافره، شخص كانو يظنونه منهم وفيهم قلباً وقالباً وهم يعلمون علم اليقين إن ما كتبه حق لا غبارعليه وأنه يمثل ضميرأمة هو منها، ولم يتعدّىً حدود الالتزام وحدود آداب الكتابة في مقاله ذلك.أو ربما ظن هؤلاء إن كتاباته السابقة عن حركة الجهاد الإسلامي وقياداتها قد تمنعه عن الكتابة ضد مشروع التعليم بلغات الأم وغيره من الأمور المنفرة للمسلمين باعتبار ما كتبه عن حركة الجهاد ليس سباُ مباشراُ لأغراض سياسية وحسب بل بالنسبة لوعيهم الباطني كان ردة صريحة عن الاسلام اقترفها إدريس أبعري ولا يمكنه التراجع ومناقضة نفسه بانتقاد سياسات الشعبية بأي حال من الأحوال حسب ظنهم.

ولكن إدريس أبعري فاجأهم وكأنه اراد أن يخيّب ظنهم وانحاز لصالح الثوابت الوطنية الإرترية لأنه تربي في بيتٍ من المسلمين في بيئة يسكنها مجتمع من المسلمين لم يتعرضو قط في نضالهم الأزلي مع القادمين من الجنوب لمثل تلك الهجمة الشرسة على موروثهم الثقافي والديني وهوياتهم.

إدريس أبعري شأنه شأن السواد الأعظم من مسلمي إرتريا كان يعلم جيدًا مدى أهمية التعليم باللغة العربية وأخذِ دروس من الدين في المدارس بالنسبة لإخوانه وأبنائه المسلمين الإرتريين وربما كان يدرك مصيره بعد تلك المقالات الصادقة.

إدريس ابعري بطل من آلاف الأبطال الذين ضحو من أجل كرامة وحقوق وهوية أهلهم وسلامة واستقرار بلادهم إرتريا . رحم الله إدريس أبعري ومن في شاكلته وغفر لهم أحياءًا أو ميتين.

المراجع ( صحيفة إرتريا الحديثة عدد 10 فبراير 2001 م)

المواقع الإرترية (أكثر من موقع اليكتروني)

 

 

شاهد أيضاً

تهنئة

بمناسبة عيد الفطر المبارك تتقدم رابطة ابناء المنخفضات الإرترية للشعب الإرتري الأبي بأصدق التهاني القلبية …

الاعلام بين الماضي والحاضر

بقلم محمد نور موسى ظهر الإعلام الإرتري مع ظهور الحركة الوطنية الإرترية في مطلع أربعينات …

من مواضيع مجلة الناقوس-العدد التاسع

سعدية تسفو فدائية من جيل آخر! نقلا من صفحة الاستاذ ابراهيم حاج لترجمته من كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *