من كتاب ” صمود الهويات ودحض المفتريات ” الفصل الخامس (3)

sumud

الفصل الخامس: معضلات الصراع الثقافي في إرتريا  (3)   

 بعض مصادر التعليم كانت وبالا على إرتريا  

التعليم عملية مقدسة إنما عندما توجه لغرض معين مخالفا لما تعارف عليه أهل البلاد تكون غير مقدسة بل وبالا على أهل البلاد. منذ مئات السنين يتعلم النصارى الإرتريين في الأديرة والمسلمين في الخلاوي والمساجد ولم يحاول أي طرف استمالة الآخر إلى دينه ترغيبا أو ترهيبا. وحتى عندما كان يجبر الإمبراطور المتعصب يوحنا الرابع المسلمين بإثيوبيا منطقة ( تجراي) المجاورة للهضبة الإرترية إما لمغادرة البلاد أو للتنصٌّـر، لم يحاول نصارى التجراي ونصارى الهضبة الإرترية ركوب الموجة وإيذاء المسلمين الفارين بدينهم بل يقال بعضهم استقر بالهضبة الإرترية وبعضهم عبر إلى المنخفضات الإرترية ( كرن – أغرادات – مصوع ) بسلام .لو كان التعليم الديني يحرض الاتباع ضد المسلمين كان الوضع مختلفا لهؤلاء الفارين بدينهم. ذكر لي صديق من سكان منطقة شيري( محافظة تجراي الإثيوبية) بعدما زالت محنة المسلمين وهلك الامبراطورالمتعصب يوهانس الرابع على يد الدراويش وأعلن الحاكم الجديد أن يعود المسلمين المرتدين قسرا إلى دينهم إن رغبوا ظهرت صداقات حميمة بين بعض الأسر المسيحية والمسلمة استمرت لأجيال لأن أولئك المسيحيين وقفوا مع المسلمين في محنتهم وقدموا لهم كل عون وحماية وقت الشدة حتى لا يرتدوا عن دينهم . هذه حادثة تاريخية إيجابية لا بد من ذكرها. إلا أن التعليم التنصيري غير التقليدي (القادم من وراء البحار) ساهم ولا يزال في إيجاد حالة من الاستقطاب الحاد في البلاد منذ 130عاماً.

لم ينخرط الإرتريين المسلمين في مثل ذلك التعليم وامتنعوا من المدارس التي كانت تديرها المنظمات التنصيرية ، وقد منع الاستعمار الإيطالي  التعليم عن العامة ربما ظنا منه بأنهم قد يلجئون إلى التعليم التنصيري لكن المسلمين وحتى النصارى الارثودوكس خيبوا ظنه ولم يذهبو إلى التعليم الكنسي في البداية وحتى الحرب العالمية الثانية . وهذا أتي بنتيجة سلبية فيما بعد إذ كان يظن من يتخرج من تلك المدارس مثلا بأن المسلمين يرفضون المدارس الكنسية لأنها لا تقدم اللغة العربية التي الدخيلة على البلاد التي دخلت مع التجار العرب ، ولم يوجه هؤلاء الطلاب توجيها صحيحا عن مواطنيهم المسلمين فتأثروا بالنهج الذي تربوا عليه .

هذه الحالة استمرت  لفترة طويلة واعتبر بعض النصارى الإرتريين اللغة العربية لغة دين فقط شأنها شأن لغة الجئزالمندثرة . ولقد بدأت مدارس الكنيسة البروتستانية في وقت مبكر يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر ثم تبعتها مدارس الكنيسة الكاثوليكية. وكان للكنائس مراكز في منطقة سنحيت وهضبة المنسع وبارنتو ودقي محاري وسقنيتي وأسمرا ومصوع ، ومقرات في الساحل الشمالي ( افعبت ونقفة ). وما يجدر ذكره للتاريخ بعد الحرب العالمية الثانية انشأت الحكومة الإيطالية مدارس فيتوريو بوتيقو بتمويل من الحكومة الإيطالية ولم تركز تلك المدارس على الجانب التنصيري بل الجانب التعليمي فقط لذا تعلم فيها أعداد كبيرة من أبناء المسلمين، وفي حصة الدين للنصارى كانت تعطى بعض المدارس الإيطالية في اسمرا دروس في اللغة العربية حتى دون معرفة الحكومة الإثيوبية التي منعت اللغة العربية من  المدراس بقرار جائر . وحتى في المدارس التي كانت تديرها الكنيسة الكاثولكية اختلف الوضع عما كان عليه في النصف الأول من القرن العشرين وكانت تستقبل طلابا مسلمين دونما فرض قيودا تنصيرية عليهم الأمر الذي رأي فيه مسلمي إرتريا إنصافا ولو متاخراً. يرى البعض إن قرار إيطاليا منع التعليم عن العامة وخلق بنية تعليمية معدومة للسكان خلال أكثر من 50 عاما وما تبعه من تذبذب في روح الوحدة الوطنية أثناء تقريرالمصير أصاب الإيطاليين بقليل من وخز الضمير لما عملوا وتسببوا فيه من هلاك الإرتريين بسبب الجهل العام الذي كان مستشريا في الأغلبية وكان له نصيبا في مآلات البلادالبائسة ، لذا بدر منهم سخاءا غير عادياً بدعمهم التعليم في إرتريا بعد الحرب العالمية الثانية وكان هناك بعض المدارس المعتدلة منذ البداية أرتادها أبناء المسلمين والمسيحيين الإرتريين منها مدارس كمبوني ومدارس قيتوريو بوتيقو. وشرعت الحكومة الإيطالية حاليا في إنشاء مدرسة ثانوية متطورة بمصوع ربما تبدأ خدماتها بحلول 2016 م أو ربما قبل ذلك .

المنصر (رودين) ولهجة التجري

المنصر رودين كان من أوائل المنصرين البروتستانت الذين وصلوا إرتريا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بعد تنقلات طفيفة أستقر به المقام ومنظمته بقلب( رورا منسع) وتمكن بعد فترة من تنصير عددًا من المواطنين على المذهب البروتستانتي في المنطقة .

يحكى بعد احتلال إرتريا من قبل الطليان عرض رودين على أهل كرن فتح دارس لهم وتكون لغة التدريس ” التجري وليس اللغة العربية” . رفض المواطنين وطالبوا الحكومة الإيطالية بمدرسين عرب وأحضروا لهم مدرسين من مصر سرعان ما أعيدوا أدراجهم بعد صدور القرار الاستعماري الإيطالي الذي قضى بمنع العامة من الإرتريين عن التعليم وحصره على بعض أبناء الأعيان وأبناء زعماء القبائل وابناء التجار في المدن ، وذلك حتى الصف الرابع وباللغة الإيطالية فقط مستبعدين اللغة الوطنية للبلاد. إلا أن رودين تمكن من افتتاح مدرسة ابتدائية في (قَلَب) تعلم بلهجة التجري.

دور التعليم في تعثر مشروع بناء الدولة الوطنية الإرترية خلال القرن العشرين

لو بدأ هذا المشروع بالمصالحة الوطنية بعد الاستقلال وبحد أدنى من التوافق على الثوبت الوطنية ربما لتحقق بعض النجاحات وجبّت تلك النجاحات ما قبلها من الاخفاقات والمرارات الماضية منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن تلك الشروط الضرورية رفضت من قبل الفصيل المستولي على البلاد وضلت خارطة الطريق وأيقظت كل المظالم والاخفاقات القديمة والجديدة.

هناك عاملين أساسين كانا سببا للتعثر الذي واكب المشروع الوطني الإرتري حتى بعد الاستقلال ومن ثم المآسي المستمرة على الشعب الإرتري، بعضها نما إلى أن طفح بعد مائة عام من الغليان وبعضها كان من صنع إثيوبيا والاستعمار الحديث بعد الحرب العالمية الثانية. العامل الأول لتلك العثرات خارجيُّ والثاني داخليُّ الطابع.

 العوامل الداخلية: نذكر منها 

  • تذبذب الهوية الوطنية لبعض المسيحيين الارتريين منذ الأربعينات من القرن الماضي لأن ولاء بعض المواطنين من الهضبة الإرترية في بادئ الأمر كان لإثيوبيا. فسره بعض المسلمين هذا التذبذب بأزمة  انتماء وطني عاني منها المسيحيين الإرتريين.
  • أغلب الزعماء المسلمين لم يعوا متطلبات المرحلة ، بل العديد من الزعماء المسلمين حينها قرأوا الأحداث قراءة غير صحيحية بسبب الجهل السياسي ودليل ذلك شخصنتهم للقضايا الوطنية حيث تحول بعضهم إلى حزب الاتحاد (الوحدة) بسبب خلافات شخصية وكأن الأمر لا يعدوا كونه خاصا بهم . بعضهم كان يعلم إرتباط أرتريا بإثيوبيا ليس من مصلحة الشعب الإرتري المسلم ولكن غلبت عليهم الأنانية والسذاجة السياسية المفرطة . لإن الخلاف المستمر بين المسلمين الإرتريين أضعف مطلبهم الوطني في الإستقلال الناجز في وقت مبكر ولم تمكنهم محاولاتهم السطحية ليكونوا بمنأى عن الإرتباط بإثيوبيا التوسعية الأمر الذي كلفهم الكثير من الأرواح والأموال في ما بعد وحتى اللحظة . البعض يعزي بداية هذا الاختلاف المستمر لمسلمي إرتريا بالمنخفضات إلى الربع الثالث من القرن التاسع عشر إذ قاتل المسلمين في المنطقة الغربية بجانب الرأس ألولا ضد المهدية بشراسة لاسباب طائفية واهية وبتحريض من الاستعماري البريطاني الذي كان بالسودان ، بينما قاتل المسلمين في الساحل الشمالي وسنحيت مع المهدية لأسباب رأوها استراتيجية ودينية وثقافية وتحررية حتى وصل جيش المهدية والقبائل المتحالفة معه اقليم سمهر وقاتلو جيش الولا – ولو لا قتال مسلمي المنطقة الغربية بشراسة وإيقاف جيش المهدية المسلمين ودحرهم في منطقة كوفيت بالتعاون مع جيش ألولا التجراوي ربما لتمكن الجيش القادم من كسلا من الالتحام مع الجيش القادم من الشمال وتمكن من دحر جيش الولا والطليان فيما بعد (1) . ولكن مشيئة الله فوق كل اعتبار.

بعد ذلك تمكُّنت إيطاليا من إرتريا بمباركة بريطانية وشرعت في إحداث شقاق بين المسلمين عبر الطريقة الختمية (2) وشرعت في تحجيم الوعي الوطني والسياسي في كثير من المناطق الإرترية وخصوصا في المنخفضات وعزلت الشعب الإرتري بالمنخفضات عن بعضه وعن التعليم والثقافة العربية بلغته العربية وعن محيطه العربي لفترة امتدت أكثر من 50 عاماً الأمر الذي اثر سلبا على الوعيْ الجمعي للإرتريين وعلى ما كان  يدور في امتدادهم الطبيعي ( المنطقة العربية) والقضايا القومية .

  • تجذر الانتماء القبلي والمناطقي والديني على حساب الانتماء الوطني الأمر الذي أضعف مطلب الكيان الوطني المستقل وفتح على مصراعيه التدخل الدولي سياسيا وفرض الإتحاد الفيدرالي الذي كان البداية الحقيقية لمأساة الشعب الارتري المستمرة.

                 العوامل الخارجية نذكر منها :

  • بروز أمريكا كقوة عالمية بعد الحرب العالمية الثانية وأطماعها الجديدة لمناطق نفوذ وقواعد عسكرية في منطقة القرن الإفريقي وتحالفها مع الإمبراطور هيلي سلاسي لتحقيق ذلك لقاء تسليمها تسهيلات وقواعد بإرتريا.
  • اسرائيل والصهيونية العالمية وسعيها أن لا يتحول البحر الأحمر إلى بحيرة عربية اسلامية وان لا تظهر في الوجود دولة إرتريا كدولة عربية جديدة.
  • المنظمات التبشيرية وسعيهم لتنصير أكبر عدد ممكن من المسلمين والوثنيين الإرتريين ورغبة هذه المنظمات أن لا تتحول ارتريا إلى دولة عربية اسلامية وهو مسعى قديم يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر . والجدير بالذكر التنصير في إرتريا لم يوفق مقارنة بالمجهود والأموال التي بذلها المنصرين خلال 150 عاما.

وبعد الاستقلال لم يتغيرالأمر كثيرا بل أخذ منحىً أكثر تعقيداً ودهاءاَ ، فهناك مدارس تابعة لمنظمات تبشيرية قديمة في البلاد تعمل حتى الآن . فعملية التنصير المباشر بدأت بإرتريا منذ الربع الثالث من القرن التاسع عشر ولم تتوقف إلا بعد الاستقلال لاسباب استدعت منع التنصير المباشر وسلك طرق أخرى أكثر فاعلية على المدى البعيد. في عموم إرتريا وخلال 130 عاماً تم تنصير العديد من المسلمين والوثنين ولكن من المفارقات القدرية اسلمتْ العديد من القبائل الناطقة بالتجري جماعات دفعة واحدة وكانت تمارس طقوس شبه مسيحية من قبل . تم ذلك قبيل وصول المنظمات التبشيرية بعقد أو عقدين وكان على يد الشيخ محمد عثمان الميرغي وأسرة عد شيخ واسر دينية أخرى التي كان لها مجهودات مقدرة للدعوة إلى الله قبل جولة الشيخ محمد عثمان الميرغني . حدث  ذلك في الفترة من 1820 م إلى 1875 م وهي الفترة التي سبقت وصول طلائع المنصرين والمستعمرين الأمر الذي حدّ من مجهودات التنصير في إرتريا، وهي ذات الفترة التي عاشت فيها الحبشة ركودًا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً إلا ما كان يقوم به الراس وبي من حين لآخر لأغراض السلب والنهب ، ما عدى ذلك لم تسجل  بإثيوبيا غزو إرتريا بشكل مكثف في تلك الفترة لأنها كانت ضعيفة وممزقة وكان يحكمها عددًا من أمراء حرب لذلك أطلق على ذلك العهد في التاريخ الإثيوبي” زمن مسافنت” وتعني بألأمهرية  ” عهد الأمراء” . ويعرف في التاريخ الإثيوبي إن ” عهد الأمراء كان من عام 1750 م إلى عام  1850م.

  • جوناثان ميران : كتاب مواطني البحر الأحمر ( مصوع ميناء متعددة الثقافات ) صفحة 183 وصفحة 177

شاهد أيضاً

تهنئة

بمناسبة عيد الفطر المبارك تتقدم رابطة ابناء المنخفضات الإرترية للشعب الإرتري الأبي بأصدق التهاني القلبية …

الاعلام بين الماضي والحاضر

بقلم محمد نور موسى ظهر الإعلام الإرتري مع ظهور الحركة الوطنية الإرترية في مطلع أربعينات …

من مواضيع مجلة الناقوس-العدد التاسع

سعدية تسفو فدائية من جيل آخر! نقلا من صفحة الاستاذ ابراهيم حاج لترجمته من كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *