من كتاب ” صمود الهويات ودحض المفتريات ” الفصل السادس (3)

sumudالفصل السادس: قضايا لغات التعليم واللغة الرسمية بإرتريابعد الاستقلال(3)

تأثير التثقيف السياسي الموجّه إلى المقاتلين

ما كان يسمى بالتثقيف السياسي والسمنارات الأيديولوجية المقدمة من قبل الجبهة الشعبية للمقاتلين بالميدان   كان في الحقيقة تشويش فكري وعصف ذهني وغسل أدمغة لاخراج الشباب بنمط محدد من التفكير لا يرون إلا ما يرى قائدهم ويفعلون ما يؤمرون.

تعرض إدريس أبعري شأنه شأن بقية أبناء المسلمين الذين انخرطو في صفوف الجبهة الشعبية وهم آلاف مؤلفة تعرض ضمن رفاقه لأفكار قيل لهم هي إشتراكية لا تميز بين المسيحي والمسلم في قضايا الوطن. لكن الحقيقة  ظاهرها كان الوئام وباطنها الفرقة والاقصاء. استمرغسل دمغة المقاتلين لسنين عبر شعارات وسمنارات واجتماعات مكثفة .

الفرق بين المناضل المغيب أبعري وبين العديد من رفاقه الآخرين، إن ابعري كانت له ملكات كتابية أخرج من خلالها ما يراه حقا وما يكنه في صدره تجاه من يراهم مخالفيه في الرأي،  وعندما تكشفت له الحقيقة لم يكن بذات الاندفاع والهجوم نحو رفاقه ولكن كان شجاعاً بما فيه الكفاية حيث قال ما رآه حقاً ولكن في ظروف غير مناسبة من الناحية الأمنية لسلامته الخاصة بعد ما أسهم علم أو لم يعلم نوعا في ترسيخ دولة الخوف بإرتريا..

وإذا ابتعدنا قليلا نحو الماضي،  واحدة من ابتلاءات المسلمين الإرتريين منذ زمن تقرير المصير (الأربعينيات من القرن الماضي) إلى يومنا هذه هي إن العامة البسطاء من المسيحيين الإرتريين لا يميزون بين ما هو عربي وما هو إسلامي ويظنون إن اللغة العربية تُعني بالدين فقط ولا يجوز اقحامها في التعليم، أما نخبهم وهم ( السياسيين حديثاُ ورجال الدين قديماً ) يعرفون الحقيقة ولكن لا يكشفونها للعامة من قومهم للإستفادة منهم في مشاريعهم الانضمامية قديماً، والإقصائية حديثا لذا نراهم درج العامة من الهضبة على التوجس من تعلم المسلمين اللغة العربية ومطالبتهم بها كانه تهديدا لمعتقدهم  المسيحي. هذا تضليل كبير لابد لمسلمي إرتريا من التصدي له وإقناع مواطنيهم المسيحيين عدم صحته كونه افتراًء مستوردًا من الخارج.

أما النظام الإرتري اليوم ينظر الأمر من زاوية الدفاع عن اللغة التجرنية وعن ثقافة قومية التجرنية الإرترية، وهو توجس في غير محله غير أن العديد من المتحدثين بالتجرنية يتعاطف مع النظام من هذه الزاوية وكأنهم يعانون بالجملة من فوبيا غزو اللغة العربية  ديارهم عبرالمسلمين. وقد صرح القس ديمطروس قديما ً بهذا المعنى حين قال” يريدوننا أن يتعلم أبناؤنا لغة أجنبية غصباً عنا “. وأقول ذلك كان إدعاءًا عاريًا من الصحة حيث لم يُجبر المسيحيين الإرتريين لتعلم اللغة العربية قسراُ في أي مرحلة من مراحل التاريخ الإرتري المرير.

بعد اندلاع الثورة الإرترية  مباشرة كان بعض المأجورين من سكان الهضبة كان يقول ” المسلمين يريدون بيع أرتريا إلى العرب ” وذلك كان بتحريض من التوسعيين الإثيوبيين بل استخدم ذلك الافتراء كشعار دعائي وتعبوي لقوات الكومندوس المشكـّلة من الهضبة الإرترية والتي أبادت وأحرقت العشرات من قرى المسلمين.

بعد انضمامهم إلى الثورة بكثافة،  أبناء المرتفعات المتحدثين بالتجرنية كانو أكثر حذراً في  تصريحاتهم ضد اللغة العربية بوضوح في بادئ الأمر، إلا أن قادتهم كانو يحرضونهم سرا عبر وثائق ( أنبيبكا إحلف ) بأن الأمم المتحدة هي التي فرضت اللغة العربية ولا يجوز توطينها إرتريا ، وإن قبيلة الرشايدة فقط هي التي تتحدث العربية وليس لأي مجموعة إرترية أخرى علاقة بالعربية غير علاقة الدين، وإن مكان الدين هو المسجد فقط وليس الحياة العامة والمدارس والمكاتب.

هذا جانب من من قصور المسلمين الإرتريين  على طول فترة النضال وما بعده إذ لم يجد اهل الهضبة البسطاء من يحاورهم بجدية وضوح عن اختلاف اللغة العربية عن لغة الجئزالمندثرة التي تستخدم في الكنائس والأديرة للقداس فقط. ولو علم العامة من سكان الهضبة هذه الحقيقة ربما لاختلف الأمر غير أن المشكلة  كانت أغلبهم أحاديي اللسان ونافذتهم الوحيدة إلى العالم وإلى من حولهم كان ما يصلهم من القساوسة قديماُ ومن السياسيين حديثا بعكس المسلمين الذين أغلبهم متعددي الألسن بمعنى يتحدثون أكثر من لغة إرترية واحدة بجانب العربية والتجرنية ويستفيدون من الإعلام العربي الضخم حولهم ( الصحف والراديو والمجلات ) . لذلك الإخفاق في التوعية من جانب الوطنيين الإرتريين بالثورة الإرترية دور في نمو واستمرار مشروع لغة الأم المكروه شعبياً .

 

أثر تفكيك جبهة التحرير الإرترية على نشر اللغة العربية بإرتريا

في الثمانينيات وبعد تشتيت قوة جبهة التحرير الأرترية بدت خطط المناهضين للغة العربية في إرتريا متقنة ومتماسكة وفعالة وسرية بعكس المسلمين أصحاب اللغة العربية وهم الأقدم في النضال الذين ابتلو للأسف الشديد بفعل فاعل أو لأسباب ذاتية داخلية من أمراض اجتماعية داخلية “متمثلة في سهولة الاختراق وسوء الوفاق وكثرة الشقاف وقلة الخبرة في الاستشراف والتخطيط الاستراتيجي”  والفشل في حماية مصالحهم الثقافية المشتركة في بلد متعدد الأعراق والديانات ومتميز بالموقع الجغرافي ومهم جدُّا جيوسياسيا واستراتيجياً للقوى الاستعمارية ، هذا بجانب العاهات الاجتماعية المزمنة كالتشرذم والتقوقع حول القبلية والجهوية والاثنية الضيقة والتي لا تستطيع حماية القضايا الوطنية الآنية ناهيك عن القضايا الوطنية الاستراتيجية الكبرى إلى أن وصلت الكارثة إلى ما وصلت إليه الآن .

وبعد اعتماد النظام في الجانب الأمني بدلا من القانون والتوافق الاجتماعي والسكاني، وانحيازه للمصالح الإثنية التي تنتمي إليها النخبة الحاكمة بدأو لا يلتفتون إلى المصالح الوطنية الكبرى وهم يظنون أو يتظاهرون بالوطنية. بالتأكيد لو انحازو إلى المصالح الوطنية لحققوا مكاسب أكثر للبلاد، وهي مكاسب اقتصادية وسياسية مستدامة منها إصلاح الجانب التعليمي الذي نحن بصدده وهم بهذا يشبهون المحافظين الجدد الذين يفضلون الانحياز إلى التنبؤات الدينية المؤيدة لاسرائيل وليس لهم أي اعتبارأو تفكير لمصالح الولايات المتحدة الاقتصادية مع العالمة.

أما دعوة النظام الحديثة للمستثمرين الإرتريين دونما إصلاح سياسي وتشريعي وضمانات قانونية ودستورية إنما هو جولة جديدة من جولات المغامرة  في بلد معدوم اللون والطعم والرائحة في سياسته الإدارية ونظامه التعليمي الذي يعاني من التسييس المخل، وبنيته التحتية العتيقة تعاني من سوء صيانة وتحديث .ومن سوف يشتري مصانع تحتوي على خرد مهترئة أكل عليها الدهر وشرب. ومن الذي سوف يغامر بأمواله في ظل الحصار الاقتصادي المفروض على البلاد وفي ظل عدم وجود أي احتياطي من النقد الأجنبي للدولة. إذا كان هناك بقية من إرادة سياسية للجنة المركزية للحزب الحاكم، الإصلاح السياسي والتشريعي – والمصالحة الوطنية يجب أن تسبق أي إصلاح آخر لطمأنة المستثمرين، وقبل ذلك لطمئنة المواطنين وقبل فوات الأوا

الطغمة الحاكمة في إرتريا يعلمون إن أي تعايش بين المكونات السكانية الذي يصاحب تحكيم القانون في البلاد سيستفيد منه جميع السكان وأهل المرتفعات بدرجة أكبر لوجود بنية تحتية أفضل ومجتمع زراعي أكثر تماسكاً من الناحية الديموغرافية ولأسباب موضوعية أخرى ولكن رغم ذلك يفضلون تعطيل القانون وكأنهم يأملون ليكون العنصر المسيحي أغلبية يوماً ما إما بتهجير المسلمين أو بمنعهم من العودة من أماكن لجوئهم أو بشتى الطرق الأخرى، وربما يظنون إن تنازلهم قيد أنملة قد يؤثرعلى أجيالهم الذين قد تستهويهم أو تتغلب عليهم قوة الثقافة العربية الوافدة عبر المسلمين الأرتريين الذين أغلبهم يتحدث اللغة التجرنية بطلاقة ما يعني سهولة تواصلهم مع مواطنيهم المسحيين لو تحسن الوضع الإقتصادي والسياسي، لذلك يبدو إن الطغمة الحاكمة تعمل للتأثير على الكثافة البشرية للمسلمين وعلى دورهم السياسي والاقتصادي ثم بعد ذلك يتغلبون عليهم ديمقراطياُ كأقلية ضعيفة .

الملاحظ أيضاً من باب الإلهاء وكسب الوقت والمراوغة وربما الخداع المبيت نرى الدكتاتور يصرح بين فترة وأخرى بأنهم بصدد العمل على إعادة اللغة العربية في المدارس الابتدائية كلغة تعليم كما كان الوضع قبل الانضمام. سمعنا ذلك قبيل اعتقال مجموعة الخمسة عشر وسمعناها قبيل انعقاد مؤتمر أواسا ورأينا كيف تحرك وزير تعليمهم قبل أكثر من عامين مع قافلة إلى السودان طلباً للدعم والخبرة السودانية في تعليم الرحل ما لبث أن تم نسيان الأمر، وبالتأكيد سوف تتكرر تصريحات مماثلة في المستقبل إذا شعرو إن عملاً جماعياً قد يتحقق من قبل المعارضة ، ثم يتم تجاهل التصريح عياناً جهاراً عندما يتأكد من أن لا شيء يهدد وجودهم من الخارج أو من الداخل.

وهناك عذر أقبح من الذنب يسمع من أفواه عناصر النظام لتبرير موقفهم بين حين وآخر وهو إن البلاد في حالة حرب ولا يمكن أن تشرع في تطبيق الدستور. ما علاقة تعطيل الدستور بإصلاح الشأن التعليمي والشأن السياسي الداخلي ؟ وما هي علاقة الحرب بالدستور؟ الحقيقة لو كان هؤلاء صادقين لأستعجلو النظام لتطبيق الدستور لأجل تقوية وتوحيد الجبهة الداخلية ولسحب البساط من المعارضين . ولكن هذا ضربُ من الاستخفاف بالعقول. الشعب الذي لديه دستور واضح ومقبول يستميت للدفاع عن وطنه الذي ضمن له دستور وحفظ له حقوقه ومصالحه. والكل سيدافع عن مصالحه ووطنه بخلاف الانسان الذي لا يعلم حقوقه وواجباته. أي إنسان يدافع للحفاظ على مكتسباته وحقوقه مثلما يدافع عن حياته، وكيف له أن يدافع عن مكتسبات ووطن لم يرى منه شيئ غير التضييق في كل شيء .

وبالعكس ربما يرى المواطن أو الجندي الإرتري إن عدم دفاعه عن النظام القائم الذي لا يعلم حقوقه وواجباته فيه  قد يجلب له وضعاُ أفضل ولذا يمتنع عن الدفاع أويستسلم مع أول طلقة أو ربما يهرب من البلاد في أي فرصة وهي الحالة السائدة الآن في إرتريا.

لم يترك الانسان وطنه ودياره إلا إذا انتهكت كرامته وحرم من حقوقه السياسية والثقافية المشروعة وتولدت لديه حالة عميقة من الغبن.

شاهد أيضاً

تهنئة

بمناسبة عيد الفطر المبارك تتقدم رابطة ابناء المنخفضات الإرترية للشعب الإرتري الأبي بأصدق التهاني القلبية …

الاعلام بين الماضي والحاضر

بقلم محمد نور موسى ظهر الإعلام الإرتري مع ظهور الحركة الوطنية الإرترية في مطلع أربعينات …

من مواضيع مجلة الناقوس-العدد التاسع

سعدية تسفو فدائية من جيل آخر! نقلا من صفحة الاستاذ ابراهيم حاج لترجمته من كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *