من كتاب ” صمود الهويات ودحض المفتريات ” الفصل الثاني (1)

sumud2الفصل الثاني : نشأة وتطور الهوية الثقافية والدينية لسكان المنخفضات الإرترية (1)

 “هذا الفصل تمت ترجمته من كتاب ” مواطني البحر الأحمر ” ومصوع ميناء متعدد الثقافات” للدكتو ر جوناثان ميران الاستاذ بجامعة ويست واشطنون الأمريكية  “بإذن خطي من المؤلف و الناشر.”.

شأنها شأن المجتمعات الاسلامية الأخرى إن هوية قبائل المنخفضات الإرترية متأثرة بالثقافة الاسلامية في الحياة اليومية إلى أبعد حد وليس فقط في الشعائر التعبدية والسلوك اليومي. هذا التأثير غائر في تاريخ المنطقة حيث برز جليا منذ أوائل القرن الثامن الميلادي عندما هاجرت مجموعات من العرب إلى جزر دهلك في عهد الدولة الأموية بعد طرد القراصنة من أرخبيل دهلك وكانت أول منطقة شرق إفريقية تدخل تحت الحكم الاسلامي. وبعد مضي قرنا آخر تقريبا انتقلت بعض القبائل العربية من شبه الجزيرة العربية وتم استيعابها تدريجيا داخل قبائل البجة الحامية وعرّفت البجة بالدين الاسلامي . ويسكن البجة إلى اليوم بالمنطقة الممتدة  من سواحل البحر الأحمر إلى النيل شرقا ومن جنوب مصوع إلى حلايب شمالا ( ضمنها مناطق تمثل اليوم شمال وشرق  وغرب إرتريا).

في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين كان أرخبيل دهلك مقرا لإمارة مستقلة تعاقب عليها العديد من السلاطين وكانت محطة عبور وتزويد مياه مربحة للسفن وخدمت التجارة بين مصر والهند وكذلك بين الحبشة واليمن  المارة عبر البحر الأحمر.

إن النهضة التجارية والاستقرار النسبي بإقليم البحرالأحمر نتيجة لهيمنة الدولة الفاطمية بمصر قد عززا الدور الاسلامي بالمنطقة بشكل واسع . فالحركة التجارية وتنقلات رجال الدعوة بحرية أدى إلى نشر الاسلام على طول شاطئ البحر الأحمر الغربي . فمن وجهة نظر مكانية وسياسية بإمكان اعتبار منطقة المنخفضات الإرترية كنقطة التقاء تاريخية ( تخوم أو رأس حربة ) لعددِ من الخطوط الواقعة بين البحر الأحمر وشبه الجزيرة العربية المواجه لها، ووادي النيل السوداني ، والمرتفعات الإثيوبية الشمالية. فقد تشكل التاريخ الاسلامي بالمنطقة من التطورات السياسية والاقتصادية والدينية وعوامل الهجرة على كل هذه الأصعدة على مدى قرون وأثرعلى المنطقة وسكانها إلى يومنا هذا.

بنظرة واقعية جدّا إن تنوع المجتمعات الإرترية المسلمة تعكس هذه التكوين التاريخي المتكامل، حيث تنتمي هذه المجتمعات إلى مجموعات إثنية مختلفة، يتحدثون عددًا من اللغات منها السامية والكوشية ونيلو صحراوية، يمارسون أنماط انتاجية متعددة ومنظمون اجتماعيا وسياسيا بطرق متنوعة. والأهم في الذكر إن هذه المجتمعات قبلت الاسلام في فترات متميزة وبطرق مختلفة وكيفت ممارساتها المحلية مع عقيدة الدين الاسلامي وممارساته بطرق وحِدّة متباينة. إذا نظرنا من زاوية محددة تتجسد هذه التراكمات التاريخية و التأثيرات في التوزيع المذهبي على طول القطر الإرتري (بمعنى آخر نجد  المذهب الشافعي والمالكي والحنبلي والحنفي . من هنا يتضح بأن مسار الاسلام التاريخي بالمنطقة يجب أن يبحث ضمن رؤية أوسع تتجاوز حدود دولة إرتريا الحديثة . عوامل مؤثرة من مصر ووادي النيل ومن شبه الجزيرة العربية ومن الحبشة التي رأى حكامها ونخبها عبر أجيال عديدة بأن إرتريا مسيحية بالميراث، كل هؤلاء كانوا أدوات فاعلة في تشكيل تطور وممارسات وردود أفعال المجتمعات المسلمة ومؤسساتهم في منطقة المنخفضات الإرترية.

حيث معظم التقاليد الشفاهية والتاريخية للمجموعات الإرترية المسلمة تؤكد دور رجال الدعوة العرب في نشر الاسلام بمنطقتهم ويرى بعضهم ارتباط سلالاتهم العشائرية بالجزيرة العربية. مثل هذه التقاليد يجب أن تؤخذ بحذر أحيانا ً لأن بعض الذين يزعمون أصول عربية من خلال هؤلاء المهاجرين أسلموا في القرن التاسع عشر القريب ما يوحي بأنهم دائما اعتمدوا وكيفوا ماضيهم بمثل هذه القصص لتشكيل واستيعاب وتوطيد هوياتهم الاجتماعية والدينية المكتسبة حديثا.

بعض هؤلاء العشائر جديرة بتوثيق دورها الديني بإرتريا عموما وفي المنخفضات الإرترية على وجه الخصوص، منهم بيت شيخ محمود ومركزها زولا ولديها وجود مقدر بمنطقة سمهر وحتى في الأماكن الحضرية كمصوع وحرقيقو ، وكذلك قبائل عد درقي وعد معلم وأسرة الزبير والعشيرة الأهم عد شيخ حامد ود نافعوتاي. كل هؤلاء العشائر أصولهم ممتدة كأسر دينية ( دعوية) قدّمو للمجتمعات المحلية حولهم الخدمات الدينية كالقضاء والتعليم الاسلامي، مستمدين شرعيتهم من أصولهم التي تنحدرمن سلالات مرموقة من الحجاز أو من مناطق أخرى في شبه الجزيرة العربية.

خلال عهد الإحياء الاسلامي  في القرن التاسع عشر معظم العشائر الدينية (الدعوية) اشتركت في نشر الاسلام في شتى المناطق الارترية، أحيانا من خلال زيجات مشتركة مع أسر من مجتمعات غير مسلمة .

وإذا عدنا قليلا إلى أبعد من القرن التاسع عشر فإن نتائج وربما فوائد انتصارات المسلمين الإثيوبيين بقيادة الإمام أحمد إبراهيم الغازي المعروف (بأحمد قران) وتعني الأشول على ملوك الاسرة السليمانية بالحبشة بين عامي 1527 م إلى 1543 م أدى إلى نشر الاسلام بالمنطقة الإثيوبية الإرترية بيسر  . فضلا عن ذلك فإن الصراع بين المسلمين والمسيحيين في تلك الفترة حشد قوىأجنبية للسيطرة على شواطئ البحر الأحمر وتوجت تلك الحشود في نهاية المعارك باحتلال الخلافة العثمانية ميناء مصوع عام 1557 م ذلك الاحتلال الذي استمر حتى عام 1865 بطريقة أو أخرى.

عموما  إن سيطرة الخلافة العثمانية على حوض البحر الأحمر نشّط التجارة عبر المنطقة ووفر درجة من الاستقرار بالمنطقة. ومن نتائج ذلك الاستقرارالنسبي كان هجرة بعض المجموعات والأفراد العرب من الحجاز واليمن وحضرموت إلى المراكز الحضرية بالشاطئ الإرتري وهما مصوع وحرقيقو.

من نتائج التأثير الديني لتلك الهجرات تم إنشاء عددا من المساجد والأضرحة والقباب أهمها مجمع الشيخ حمال الأنصاري وكان يعتبر من انجازات ومميزات العهد العثماني بمصوع الانضمام الطويل لمصوع والمناطق الداخلية التابعة لها ( المنخفضات الإرترية) للنظم الإدارية والتجارية التابعة للخلافة العثمانية بمنطقة البحر الأحمر وضع مصوع وتوابعها ضمن التبعية الدينية والثقافية والسياسية للأمة الاسلامية.

وقد انتشر الاسلام بالمنطقة بشكل أوسع على طول القرن التاسع عشر وتعتبر هذه الفترة محورية بالنسبة للمنخفضات الإرترية، حيث تناغمت أمواج التحديث الديني مع حركة التجديد عبر العالم الاسلامي مع التوسع العسكري المصري في منطقة شمال شرق إفريقيا . تزامن هذا أيضا مع التحولات في السياسة الاقتصادية للمنطقة والذي نتج عن التكامل المتزايد مع الاقتصاد العالمي. هذه التحولات كلها عرفت بفترة  ” الإحياء الاسلامي” المنطلق بنهاية القرن الثامن عشر وتطورخلال القرن التاسع عشر. كان هذا عبارة عن رد فعل للاختراق المتزايد لاقتصاد أوروبا للعالم الاسلامي والذي نتج عنه أيضا ضعف واهتراء القبضة المركزية للإمبراطورية العثمانية. هذه الفترة شهدت أيضا تطورًا نشطا للحركات الاسلامية التجديدية كالوهابية بالجزيرة العربية والمهدية بالسودان وانبثاق طرق صوفية جديدة وتنشيط الطرق الصوفية القديمة

مثلما حدث في أجزاء عديدة من إفريقيا وفي تخوم العالم الاسلامي  ، هذا النشاط المفاجئ عبر عن نفسه في الأنشطة الدعوية للصوفية بهدف عرض الاسلام على غير المسلمين وتعميق الإيمان والعبادة والتقوى في أوساط المجتمعات المسلمة حيث رأو شيوخ الصوفية بأن المسلمين باتو بلا هدف روحي وديني ، هذا الجهد أدى إلى تكامل وانسجام أكثر المناطق تماسا بسكان غير مسلمين كمنطقة المنخفضات الإرترية مع العالم الاسلامي الأوسع متصلة بالتكتلات الصوفية الاسلامية على مستوى العالم.

في القرن التاسع عشر وفي شمال شرق إفريقيا وتحديدا بمنطقة المنخفضات الارترية وشرق السودان تجلت حركة الإحياء الاسلامي بانبثاق اسر دينية (دعوية) مؤثرة وطرق صوفية جديدة وإحياء الطرق الصوفية القديمة. كان للطريقة القادرية موطئ قدم سابق بإرتريا وخصوصا بمصوع حيث انجذب إليها بعض المريدين قبل عهد الإحياء الصوفي وأقام مريدي الطريقة(مقاماً) أي مزارً إحياءًا لذكرى الشيخ عبد القادر الجيلاني. مجموعات قبلية على رأسهم عد شيخ حامد ود نافعوتاي قامو بتنشيط الطريقة القادرية بالمنطقة وأدخلوها نحو الداخل والوسط  الإرتري وبالأخص نحو المنخفضات الشمالية والغربية.

شاهد أيضاً

تهنئة

بمناسبة عيد الفطر المبارك تتقدم رابطة ابناء المنخفضات الإرترية للشعب الإرتري الأبي بأصدق التهاني القلبية …

الاعلام بين الماضي والحاضر

بقلم محمد نور موسى ظهر الإعلام الإرتري مع ظهور الحركة الوطنية الإرترية في مطلع أربعينات …

من مواضيع مجلة الناقوس-العدد التاسع

سعدية تسفو فدائية من جيل آخر! نقلا من صفحة الاستاذ ابراهيم حاج لترجمته من كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *