من كتاب ” صمود الهويات ودحض المفتريات ” الفصل الثالث (3)

sumud

الفصل الثالث: إطلالة على الهوية الثقافية والاجتماعية لسكان الهضبة الإرترية (3)

العلاقات الخارجية التاريخية لسكان الهضبة الإرترية

هناك دلائل تشير، منذ القرن الخامس عشر الميلادي جرت محاولات من قبل المنصرين القادمين من أوروبا لإبعاد أهل الهضبة الإرترية من الاحتكاك بالثقافة العربية وبالمنخفضات الإرترية بدوافع تنصيرية ، ربما لعلمهم بأن اللغة التي يتحدث بها السكان (التجرنية ) تعتبر أقرب الساميات الحية إلى اللغة العربية المعاصرة من حيث البناء والتركيب والمفردات والضمائروالأعداد والكثير من المظاهر اللغوية والثقافية الأخرى التي قد تجذبهم نحو الثقافة العربية ، أو ربما كان ذلك لأسباب تتعلق بخطط طلائع الاستعمار الجيوسياسية ترتب على إثرها ضرورة عزل المنطقة عن محيطها الطبيعي الأمر الذي حال دون تمازج وتعارف الشعبين في الهضبة والمنخفضات الإرترية . بعد قدوم الاستعمار الإيطالي منع أهل الهضبة عن الهبوط إلى المنخفضات الإرترية بالقانون الاستعماري.

رغم الجهود الجبارة التي بذلوها لم يحقق المنصرين الأوروبيين نتائج ملموسة لتحويل معظم السكان الأرثودوكس إلى مذاهبهم الجديدة ويعزى ذلك لصلابة الكنيسة الأرثودوكسية وعراقتها في الهضبة الإرترية وتأثيرها على السكان وهذا ما تأكد  في القرن الماضي أثناء تقرير المصير الإرتري عندما أوعزت الكنيسة بالوقوف إلى جانب حزب الاتحاد مع إثيوبيا وكان لها ما أرادت . ولكن للتاريخ كان هناك أقلية من أهل الهضبة الأرثودوكس واجهوا معاناة واغتيالات من قبل عصابات الشفتا جراء موقفهم السياسي المعارض لحزب الإتحاد مع إثيوبيا واعتبروا مارقين عن الدين المسيحي بسبب موقفهم ذلك . وكان القس دميطروس وبلاتا دقسا يدعمون تلك العصابات القادم جلها من منطقة تجراي المجاورة لإرهاب واغتيال الوطنيين . وهم أصلا من التجراي أدعو إنهم إرتريين ونالو شرف العضوية في أول برلمان إرتري وكانو أكثر المعارضين للثقافة العربية للمسلمين.

والتاريخ يذكر لنا صراعات وتحالفات تاريخية كانت سائدة بين زعماء الهضبة الإرترية الأرثودوكس ورؤوس التجراي الإثيوبيين ولم يسجل لنا صراع بين سكان الهضبة الأرثودوكس وسكان المنخفضات الإرترية المسلمين إلا ما كان يحدث في إطار تحالف زعماء الهضبة الإرترية وحكام التجراي والأمهرا ضد المنخفضات الإرترية والسودان . آخر تلك التحالفات القاتلة كانت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي عندما تم تكوين قوة كوماندوس مؤلفة من 5000 عنصرًا من أبناء الهضبة الإرترية تولوا اجتياح المنخفضات الإرترية كافة وأحرقوا العشرات من القرى وقتلوا وهجّروا عشرات الألوف من المسلمين من سكان المنخفضات الإرترية يعيشون حتى اللحظة في معسكرات بائسة بشرق السودان . اعتبر الوطنيين الإرتريين   من الهضبة والمنخفضات بأن تأسيس تلك القوى القاتلة كان محاولة لضرب اسفين في الوحدة الوطنية الإرترية وزرع فتنة طائفية وليس لنقص في الرجال من إثيوبيا . فمنطقة تجراي الإثيوبية المجاورة إرتريا وحدها فيها أكثر من خمسة مليون نسمة . ولكن خيب الشعب الإرتري أمل المحرضين والوشاة والمفرقين وتكامل في حرب التحرير الشاملة ليسطر أروع التلاحم والنضال الوطني المشترك وحقق الاستقلال .

علاقة أهل الهضبة بأهل المنخفضات الإرترية بعد الثورة الإرترية

معرفة أهل الهضبة الإرترية بتقاليد وألسن أهل المنخفضات الإرترية كانت معدومة إلى أن اندلعت الثورة الإرترية حيث بدا التعارف الثقافي واللغوي يتطور تدريجيا  بحده الأدنى . فمعظم سكان الهضبة المسيحيين كان ولا يزال لا يعرف من اللغات واللهجات الإرترية غير لغتهم التجرنية خلافاً لمكونات المنخفضات الإسلامية المجاورة لهم الذين يتحدثون اللغة التجرنية ولغة المكونات الاخرى التي تجاورهم . فمثلا قبائل الساهو المجاورين لناطقي التجرنية من جهة الشرق يتحدثون التجرنية بجانب لغتهم والمجاورين للتجري يتحدثون التجري بمعنى آخر معظم أفراد قبائل الساهو والقبائل الناطقة بالتجري يتحدثون ثلاثة إلى اربعة لغات أرترية منها التجرنية والعربية، وهذا ينطبق على المكونات المسلمة الأخرى في المنخفضات الغربية ما يعني تفاعل وتمازج الهويات الثقافية الاسلامية مع بعضها وعدم رفض ناطقي التجرنية ثقافياً.

وقديما إذا سكن أحد مواطني الهضبة الإرترية المنخفضات يضطر على مضض لتعلم اللغة السائدة في المنطقة بجانب محاولة نقل لغته إلى الأغلبية التي يعيش وسطها، ما يوحي مدى صلابة ناطقي التجرنية فيما يتعلق بالجانب اللغوي والثقافي وعدم تفاعلهم مع المكونات الأخرى بطريقة سلسة خلافا لسكان المنخفضات الإرترية الذين يتسمون بالمرونة وقبول الآخر بغض النظر عن الهوية والدين والمنطقة.

هذه الخاصية المنغلقة التي كانت تؤخذ على أهل الهضبة بدت تتراخى خلال حرب التحرير الإرترية الطويلة وخصوصاً بعد انضمام أعداد غفيرة من شباب الهضبة إلى الثورة الإرترية منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي وتعرفهم عن قرب على سكان ومناطق المنخفضات الإرترية هربا من ثورة الدرق التي أطاحت بالإمبراطور هيلي سلاسي حيث كان ضمن بطانة الإمبراطور نخب مؤثرة من الهضبة الإرترية وهم بقايا حزب الاتحاد القديم وبعض رموز الكنيسة الأرثودوكسية الإرترية ، ويعتقد أنه  كان لهؤلاء النخب دور فعال في تدفق أبناء الهضبة نحو الثورة في المنخفضات الإرترية بشكل جماعي وفي فترة وجيزة بعد انهيار نظام هيلي سلاسي الإمبراطوري الكهنوتي.

بعد استقلال إرتريا إن آمال التكامل والاستقرار الوطني الإرتري الذي كان مرجوا بالتوافق بين سكان الهضبة الإرترية والمنخفضات الإرترية واعتماد الثنائية الثقافية والإدارية كما كان متفقاً عليه في الخمسينيات من القرن الماضي ، أو التوافق على ترتيبات جديدة بتفاهمات بين كل المكونات الإرترية، تبخرت وذهبت أدراج الرياح على الأقل حتى الآن بسبب رفض المتشددين من الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة المنحدرين من الهضبة الإرترية كل أشكال التوافق السياسي وترسيخ مبدأ استقطاب ثقافي وإثني حاد بدوافع تتعلق برؤيتهم الخاصة لبناء الدولة الإرترية تحت شعارهم ” حادي هزبي حادي لبي” وتعني شعب واحد قلب واحد.

جانب كبير مما وصلت إليه الأوضاع في إرتريا اليوم يعود إلى الانغلاق والعزل الذي تعرضت له منطقة الهضبة الإرترية لعقود إلا باتجاه الجنوب قبل العهد الكولونيالي وبعده ، ولما جاء وقت انفتاح أهل الهضبة على أهل المنخفضات الإرترية بفعل الثورة الإرترية وبعد انتصارها تحول النصر إلى انتكاسة وطنية بعد إظهار المتشددين من أبناء الهضبة الإرترية الذين سيطروا على إرتريا بدعم عسكري وسياسي واستخباراتي أجنبي علنا رفض كل ما لا ينتمي إلى لسان الهضبة وثقافته ودينه واسقطوا من كان معهم من المسلمين شر إسقاط سجنا أو قتلا أو تشريدا بعد أن استغلوهم ضد مصالح أهلهم ووظفوهم ضد قيمهم .

مجموعة الهضبة المتشددين تمكنوا من الانفراد بإرتريا بالدهاء والخداع والتدليس والتزوير بجانب العوامل المذكورة أعلاه مستغلين التباين الثقافي بين سكان الهضبة الإرترية والمنخفضات الإرترية، والانغلاق الثقافي واللغوي لسكان الهضبة الإرترية وربما حاجة بعض سكان الهضبة الإرترية للتخلص من ضيق الأراضي الزراعية بأي وسيلة واستفادوا من تجاهل المجتمع الدولي ممارساتهم الوحشية ضد حقوق الانسان الإرتري لأسباب ربما تتعلق باستراتيجيات الدول الاستعمارية وخطط قوى الهيمنة العالمية الخاصة بمنطقة القرن الإفريقي.

كافة سكان المنخفضات الإرترية بدأو يتنبهون أخيرا لعمق الاختلاف بين ثقافة الهضبة والمنخفضات الإرترية . فعوضا عن مكافحة الفقر والجهل والمرض في بلادهم بعد انجاز استقلال بلادهم عن إثيوبيا وجدوا أنفسهم في مرحلة تتطلب الصمود دفاعاً عن هوياتهم ودحض الافترءات التي سيقت في سبيل فرض مشروع التجرنة عليهم .

أما المتشددين من أبناء الهضبة الإرترية الذين يحاولون تنفيذ مشروعهم هذا دون جدوى قد حرموا الأغلبية الصامتة من أهل الهضبة الإرترية فرصة العيش المشترك في وطن يسوده الوئام والحرية والاحترام المتبادل والاستقرار ، حيث إن الاستقلال قد أنجز بالنضال المشترك للآباء امن كافة مناطق إرتريا.

هذا التبويب الجغرافي ( منخفضات x الهضبة ) كان ممكن تجاوزه لو تعامل النظام الإرتري مع ما وجده على الأرض كما هو ولم يخطط لفرض طبيعة جديدة وواقع جديد ولسان جديد فرضا على بعض المكونات الإرترية دون غيرها. حينها ما كان ليتجرأ كاتبا أو خطيبا لفرز الأمكنة الإرترية على نحو فاعلاً ومفعولاً به.

وختاما أشكر كل من أمدني بأي معلومة كتابة أو شفاهة لكتابة هذا الفصل من الكتاب.

شاهد أيضاً

تهنئة

بمناسبة عيد الفطر المبارك تتقدم رابطة ابناء المنخفضات الإرترية للشعب الإرتري الأبي بأصدق التهاني القلبية …

الاعلام بين الماضي والحاضر

بقلم محمد نور موسى ظهر الإعلام الإرتري مع ظهور الحركة الوطنية الإرترية في مطلع أربعينات …

من مواضيع مجلة الناقوس-العدد التاسع

سعدية تسفو فدائية من جيل آخر! نقلا من صفحة الاستاذ ابراهيم حاج لترجمته من كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *