من كتاب ” صمود الهويات ودحض المفتريات ” الفصل الثاني (2)

sumud2

الفصل الثاني: نشأة وتطور الهوية الثقافية والدينية لسكان المنخفضات الإرترية(2)

 “هذا الفصل تمت ترجمته من كتاب ” مواطني البحر الأحمر ” ومصوع ميناء متعدد الثقافات” للدكتو ر جوناثان ميران الاستاذ بجامعة ويست واشنتون الأمريكية  “بإذن خطي من المؤلف و الناشر.”.

التطور الأهم والأبعد أثراً بالنسبة للحركة الصوفية وأنشطتها بالمنطقة في القرن التاسع عشر كان ظهور الطريقة الختمية ( خاتم الطرق الصوفية) مستلهمة تعاليمها وطقوسها وأدعيتها من فكر الشيخ أحمد بن إدريس الذي عاش من 1750 إلى 1837 م . رأى بعض المستشرقين ومنهم أوفاهي و راديكي بأن الطرق الصوفية الجديدة (وتحديدا الختمية) وإن كانت أقل ابداعا بالنسبة لمداها الفكري كانت أكثر تنظيماً في خصائصها البنيوية. فإذا كانت الفترة ما قبل القرن الثامن عشر شهدت الانتماءات الصوفية ( في القادرية والشاذلية) على أسس عائلية أو قبلية، تجاوزت الطريقة الجديدة ( الختمية) الحدود القبلي والاجتماعي . فقد اعتبر المريدين أنفسهم منظمات، وكانو أكثر التزاما بالنظام الهرمي واحترموا مركزية العائلة المؤسِّسة.

بدءاً من عام 1820 م ومنذ التوسع المصري نحو السودان جنوبا، وتنشيط الطرق التجارية المتصة بموانئ البحرالأحمر بوادي النيل واكب التوسع التجاري انتشاراً مذهلاً للاسلام وسط معظم المجتمعات التي تتحدث بلهجة التجري بمنطقة المنخفضات الإرترية . فإن العلاقة بين التوسع المصري نحو منطقة القرن الإفريقي وانتشار الاسلام فيها منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى نهايته جديرٌة بأبحاث ودراسات أكثر عمقا وتوسعا.

 كما أن تفكك الدولة المركزية الإثيوبية خلال الفترة المعروفة في التاريخ الإثيوبي بعهد الأمراء ( زمن مسافنت ) 1750 م إلى 1850 م وقبول المجتمعات الرعوية الاحتماء بأي منقذ من غزوات الحبشة الناهبة كان أيضا عاملا مساعداً . حيث ظل الزعماء المسيحيين بشمال إثيوبيا يقومون بغزو هذه المجتمعات الرعوية بشكل متقطع وباستمرار في محاولة لتوسيع مناطق حكمهم واستغلال السكان اقتصاديا ( نهبا أو فرض أتاوي ). فإن تحول هذه المجتمعات إلى الاسلام ووعيهم بحقوقهم رسخ فيهم هوية جديدة وقوة وفكر متجددين للدفاع عن انفسهم ومكافحة الهيمنة والغزو المستمر من الحبشة الأمر الذي منحهم مصدرا للتوحد توقا للسلطة الذاتية والشرعية السياسية المستقلة.

كما ذكر أنفا أن عدداً من الأسر والعشائر الدينية لعبت دورا محوريا في نشر الاسلام والدعوة لتطبيق الممارسات والأحكام الشرعية والتعاليم والثقافة الاسلامية في المنطقة الممتدة بين البحر الأحمر ووادي النيل خلال فترة الاحياء الإسلامي فإن قدسيتهم دائما كانت مستمدة من انتماؤهم للأصول الشريفة ومن البركة المتوارثة التي حباهم الله بها كتقاة صالحين.

واحدة من أكثر القبائل الدينية التي لعبت دورا محوريا في نشر الاسلام بمنطقة المنخفضات الإرترية في القرن التاسع عشر كانت قبيلة ” عد شيخ” كما أسلفنا. وكما سنرى بدأ الاستعمار الإيطالي يتوجس من نفوذ هذه (القبيلة الدينية) منذ الوهلة الأولى لوصوله خلافا للحكم المصري والتركي اللذان كانا منفتحين ومتعاونين مع أنشطة الأسر الدينية.

وبين عامي 1820 م 1860 م كان لمشائخ “عد شيخ ” دورا فاعلا في اعتناق معظم عشائر المنخفضات الارترية الاسلام وكان بعضهم يعتنق أنماط من المسيحية غير المنظمة . وبحلول 1880 م كان معظم أفراد المجموعات الإثنية في المنخفضات الإرترية  قد تحولو إلى الاسلام ما عدى الكوناما وبعض البيوتات من البلين .

تنحدر أسر عد شيخ من أشراف مكة ومنذ بدايات القرن التاسع عشر أحرزت هذه الاسرة تقديرا وتبجيلا في الساحل الشمالي خصوصا من خلال الأعمال الدعوية والبركات التي أحاطت بالشيخ الأمين بن حامد بن نافعوتناي. وكان لهم تقديرًا خاصاً من نواب حرقيقو حيث كانو يعملون لنشر الدين بدعم وموازرة منهم ونحن نعلم إن معظم المجموعات التي اسلمت على أيديهم كانو تحت إدارة النواب. كذلك بالتوازي مع إعتناق الاسلام كان المشائخ يبادرون لضم المسلمين الجدد إلى الطريقة القادرية .

انجذبت كافة مجموعات الأقنان نحو عد شيخ بسبب تقويضهم نظام الأقنان والنبلاء الذي كان راسخا في النظام الاجتماعي لدى مجتمعات ناطقي التجري الرعويين وشبه المزارعين . فالضغوط المتزايدة على طبقات ناطقي التجري الأضعف جراء تحولات العلاقات التجارية المتشعبة في المناطق المحيطة بمنخفضات إرتريا ربما يفسر عدم استقرار النظام الاجتماعي الذي كان سائدا في منطقة المنخفضات حيث شكل نوعا من الثورة الاجتماعية توجت بتحرير الأقنان ( التقري). كذلك الثورة الاجتماعية التي فجرها اعتناق الاسلام وتبني الطرق الصوفية أفرزت تهديدا وتحديا خطرًا للنبلاء التقليديين ( الشماقلي) كما حدث في منطقة بركا والساحل . وبمرور السنوات زاد عدد الناس الذين استهوتهم السكنى مع عد شيخ ورويدا رويدا ظهر على  ” عد شيخ التوسع والغنى”. وبدأ عدداً من أبناء الشيخ الأمين بن حامد بن نافعوتاي بالانتشار. بعضهم استوطن وادي عنسبا وبعضهم توغل إلى وادي بركا وبعضهم هاجر نحو الشمال إلى طوكر والجزء الأكبر بقى بالساحل ما يوحي بأن تأثيرهم على تلك المجتمعات كان في تنامي مضطرد.

انتقل حفيد الشيخ الأمين بن حامد بن نافعوتاي وهو الشيخ محمد بن علي بن الأمين من الساحل إلى حرقيقو ومكث هناك 12 عاما قبل أن ينتقل ويسكن قرية امبيرمي في 1840م تقريباً  مؤسساً فرع سمهر لأسرة ” عد شيخ ” الدينية . وتمتع الشيخ محمد بن علي بصلاح ظاهر وانتشرت سيرته كولي مكرم بالبركة، حتى إن المستشرق الفرنسي غويلوم ليجين زار امبريمي في عام 1860 م ووصفها كقرية دينية تؤمها أعداد غفيرة من الناس من مناطق الساحل وسمهر وبركا.  كان الشيخ محمد بن علي بن الأمين واحداً من الرموز الدينية الأبرز والمؤثر في زمانه في منطقة سمهر والساحل والمناطق الداخلية بدءا من عام  1840 م إلى سنة وفاته في 1877 م . ذكر الرحالة المستشرق هينري بلانك إن قبائل الحباب تحولو إلى الدين الإسلامي برجل دين كان يعيش بالقرب من “أم كلو” وكان يتمتع بقدسية كبيرة. وكذلك أسلمت مجموعة كبيرة من المنسع على يديْ الشيخ محمد بن علي. ( ويقصد ربما بقوله بالقرب من أم كلو قرية إمبيرمي – المترجم)

وإن تحالف هذا الشيخ مع أسرة النائب والتجار وأصحاب النفوذ  بميناء مصوع والسمعة التي منحته ثقة الأتراك وبعد ها الإدارة المصرية كان لها دور في نجاح مهام الدعوة الإسلامية.

عموما إن أنشطة الطرق الصوفية التي قام بها مشائخ عد شيخ وخلفاء الختمية وآل الميرغني كانت الموصل إلى الثورة الاجتماعية الدينية الحقيقية التي انتظمت المنخفضات الإرترية والسكان وقد انتظموا كمسلمين صوفيين بتأثير هذه الطرق الصوفية . وقد حصل بعض الارتباك لدى بعض المجتمعات في فترة من الفترات لأن الأقنان من هذه المجموعة القبلية أو تلك تحولوا إلى الاسلام بواسطة ” عد شيخ ” بينما جزء من النبلاء أسلم بواسطة شيوخ الختمية وجزء آخر بواسطة مشائخ آخرين وبالطبع جرت العادة أن يعترف كل مؤمن جديد بشيخه الذي قدم له الاسلام . عموما على مستوى المنطقة عززت الطرق الصوفية النشطة والأسر الدينية انتشار الشبكة الاسلامية وخلقت مناطق متداخلة ومتعارفة ممتدة بين  شواطئ البحر الأحمر والمناطق الداخلية لشرق السودان مع ارتباط أوسع عبر البحر من جهة وغربا نحو النيل وما بعده  من جهة أخرى.

شاهد أيضاً

تهنئة

بمناسبة عيد الفطر المبارك تتقدم رابطة ابناء المنخفضات الإرترية للشعب الإرتري الأبي بأصدق التهاني القلبية …

الاعلام بين الماضي والحاضر

بقلم محمد نور موسى ظهر الإعلام الإرتري مع ظهور الحركة الوطنية الإرترية في مطلع أربعينات …

من مواضيع مجلة الناقوس-العدد التاسع

سعدية تسفو فدائية من جيل آخر! نقلا من صفحة الاستاذ ابراهيم حاج لترجمته من كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *