الأجيال الإرترية والإغتراب

بقلم: المهندس سليمان فايد دار شح

إن إحدى المشكلات التي من شأنها إضعاف هذا البلد هي اتساع الهوة بين أجياله الأمر الذي يشكل اغتراباً حقيقياً ، وعدم انتماء وتماسك وترابط يصوغ وجداناً واحداً، ويؤلف فكراً وثقافة متداخلة متتابعة، يربطها حبل واحد متين، يمتد عبر التاريخ ويمسك به كل جيل لينسج منه حسب ظروفه وإمكاناته، تاركاً المجال للجيل اللاحق ليواصل النسج، ويخطو مقتفياً أثر الجيل السابق، ليتم التسلسل الطبيعي ، والذي يُكوِن في النهاية ما يعرف بالثقافة الإرترية الواحدة المترابطة المتداخلة والتي تدل على هذا الشعب وتؤكد خصائصه ويعرف بها.
والباحث عن أسباب هذه الهوة الساحقة التي تفصل الأجيال الإرترية بعضها عن بعض، يجد أسبابها كثيرة ومتشعبة المناحي، وبحثها وكشفها يحتاج إلى جهد وتضافر نخبة من الباحثين والدارسين في هذه المجالات وانكبابها وانقطاعها لهذه المهمة الصعبة، وذات الجدوى والنفع في الوقت ذاته لخلق الشخصية الإرترية المتآلفة والمنسجمة بعضها مع بعض، والتي يربطها رباط واحد قوي، وحتى لا يحدث الاغتراب والتنافر والبحث عن هوية وانتماء.
وأثناء البحث عن هذه الأسباب، يطل على المتتبع سبب نرى أنه من الأهمية بمكان، ويجب وضعه على رأس قائمة الأسباب التي تؤلف هذا الانفصام والتشتت والتباعد وانقطاع التسلسل وربط الأجيال الجيل تلو الجيل.
وهذا السبب في رأينا هو خلو المكتبة الإرترية من كتب السير والتراجم للشخصيات الإرترية العظيمة التي أعطت بلا تراخ أو انتظار مَنٍ في كل مجال من مجالات الثورة، وبذلت من نفسها وعصبها فوق طاقات البشر، لتترك بصمات واضحة في مسيرة النضال الإرتري المعاصر.
ولكن .. أين هي تلك الشخصيات العظيمة الآن؟ وماذا يعرف عنها الجيل الحالي أو الأجيال الآتية؟.
إنها أعطت وذهبت، وبذهابها قبر ذكرها أو قل إذا صح التعبير همشت واندثر أثرها، ولم نجد من يبحث في تاريخها ليترجم لها ويضع سيرها أمام هذه الأجيال، لتعرف عنها شيئاً، لتتواصل المعرفة والترابط، ويمتد الحبل المتين الذي سيربط تاريخ هذا البلد برباط لا ينفصم ولا ينقطع.
لو أخذنا القائد الشهيد عواتى ورفاقه المناضلين من الرعيل الأوائل مثلاً، لوجدنا كيف ربض هؤلاء الأبطال في خنادق القتال وصارعوا الأهوال وتصدوا للصعاب وسهروا الليالي وأيديهم على الزناد وسجلوا الملاحم البطولية وهم يسعدون بتلك الحياة التي ترقبوا عبرها فجراً عظيماً، فجر الاستقلال لبلدهم الغالي، وكلمة حق تقال لولا تضحيات هؤلاء الرجال الشجعان في ذلك الظرف الصعب لما تحقق الاستقلال الذي ينعم به اليوم الشعب الإرتري العظيم.
فأين هم هؤلاء؟ إنهم – الرعيل الأول – للأسف أضحوا نسياً منسياً، لا يعرف عنهم هذا الجيل شيئاً، فما بالك بالأجيال القادمة!!.
وهنا يحضرني موقف عجيب، أحد الشباب يؤكد هذا الاغتراب وهو : قبل عدة أيام مضت كنت في زيارة خاصة إلى أحد أصدقائي الأعزاء، ووجدت عنده شاب إرتري أنيق من أقاربه، عمره ثلاث وعشرين عاماً تقريباً، وحينها دار بيني وبين صديقي نقاش حول أهم الشخصيات الوطنية التي ساهمت بجهد كبير في صنع الثورة الإرترية وتعبيد طريق الحرية، ثم تركز جلّ حديثنا إلى فخر الأمة الإرترية ومصدر عزها ودرة تاج رأسها الزعيم الكبير عثمان صالح سبي (طيب الله ثراه) ، فوجه لنا الشاب الذي كان يسمع حديثنا هذا السؤال: من هو عثمان صالح سبي الذي تتحدثون عنه؟
في تلك اللحظة انتابني شعور لن أستطيع وصفه، هل أضحك أم أبكي؟! لم أجد نفسي إلا محوقلاً في سري، وتساءلت في سري إذا كان هذا الشاب الأنيق لا يعرف زعيم بقامة عثمان صالح سبي المعروف محلياً وعالمياً، هل سيعرف أسماء أبطال المقاومة الإرترية في عهد الاستعمار الإيطالي والإنجليزي أو أسماء الرعيل الأول للثورة الإرترية؟
وعندما لاحظ الشاب تعابير وجهي ووجه صديقي، حاول أن يبرر سؤاله، بأنه لم يحضر عهد عثمان صالح سبى !!! ( والعذر هنا أقبح من الذنب)، وكأن الناس الذين يعرفون أسماء أبطال المقاومة الوطنية في عهد الاستعمار الإيطالي والإنجليزي، والرعيل الأول للثورة الإرترية أو أي شخصية وطنية تاريخية كانوا معاصرين لتلك الشخصيات الوطنية!
وللعلم وجدت هذا الشاب يعرف غالبية أسماء نجوم السينما والمسلسلات الهندية والتركية والممثلين والفنانين العالميين القدماء – أبيض وأسود – والوجوه الجديدة، ومن المؤسف لا يعرف اسم واحد من أسماء الزعماء الإرتريين الذين بنوا مجداً لشعبهم ووطنهم ورحلوا من الدنيا، وتركوا إرثاً عظيماً وتاريخاً مجيداً من العزة والشرف.
من تلك اللحظة تأكد لي تماماً، وبما لا يدع مجالاً للشك، أنه سيأتي زمان ليس بالبعيد – إذا لم يتم تدارك الموقف – أن تسأل بعض الشباب عن بعض الزعماء الوطنين الإرتريين التاريخيين، فتكون الإجابات من قبيل: أعتقد أنهم لاعبي كرة القدم!!.
وما أخشاه – وأتمنى أن يكون ظني في غير محله – أكبر أن تسأل ما هي المناسبة التي تحتفل بها إرتريا سنوياً في الأول من سبتمبر؟ سيقولون لك عيد الحب أو الفالنتاين!!!.
يحزنني جداً أن أرى هؤلاء الشباب بمنتهى السطحية وهم يحملون أحدث ما أنتجته التكنولوجيا من هواتف ذكية وأجهزة حاسوب محمولة وغيرها، وهذا يذكرني بمقولة:
(إنسان العصر الحجري يعبث بتكنولوجيا القرن الحادي والعشرين).
عندما أقول العصر الحجري فإنني أعنيها مجازاً بسبب الجهل بالتاريخ، لأن أي أمة بلا تاريخ هي أمة بلا ذاكرة، ولا تتعظ من دروس من سبقوها، إنني لست ضد اهتمامات وميول الشباب الفكرية والثقافية والوجدانية، لأن لكل فرد الحق في أن يُكيّف ويُعوّد نفسه مع الأشياء والهوايات التي يحبها ويجد نفسه فيها، ولكن ليست على حساب الوطن وتاريخه، على الأقل يجب أن يكون هناك حيزاً من الذاكرة – وليست كل الذاكرة – مشغولاً بالتاريخ المجيد للوطن وقياداته التاريخية!!.
أحسب إن فرح القارئ الإرتري الواعي المتبصر ، يبدوا عامراً، وغبطته دافقة، وسعادته في قمتها، وفائدته لا حدود لها، لو أنه انتقى، دائماً وأبداً الكتب التي تصدر خصيصاً بكتابات ذات دراية وعمق وشمول، وهي تترجم لحياة شخصيات إرترية، بذلت وما بخلت كل في ميادينها الذي اختارته وخاضته بلا هوادة، وتحدثنا في شفافية عن أدق تفاصيل حياة تلك الشخصيات، منذ الميلاد وحتى الاستشهاد – إذا كانت قد استشهدت – وعن نضالها وصراعها وهي تقاوم وتجالد الظروف، لتبني ذواتها، حتى استوت لتعطي من هذه الذوات من غير خور أو بخل.
ختاماً أود التأكيد مرة أخرى أن خلو المكتبة الإرترية من هذه التراجم والسير للشخصيات الفذة العظيمة التي اضطلعت بأدوارها على أتم الوجوه وأحسنها، وأدت ما عليها من رسالة وطنية في أمانة وتجرد، هو السبب والسبب المباشر في هذا الاغتراب والانفصام الذي يسود حياتنا، وفقدان الهوية والخلو من الروح والنبض في كل الأعمال التي يضطلع بها المواطن، والتهرب من الالتزام والتملص من المسئوليات، وأداء الواجبات في فتور، وسأم، إلى أن أضحت حياتنا وكأننا لم نسر خطوة واحدة للأمام منذ استقلال هذا البلد.
ولكي نخلق أصالة حقيقية في كل ما نعمل لا بد من العودة بأجيال اليوم والغد إلى ماضيهم وتراثهم، وأن نوفر لهم التراجم والسير لأولئك الذين صنعوا ذلك الماضي العريق، لتخرج أعمالهم – الأجيال – فيها أصالة وعبق ذلك الماضي، ولتصبح أكثر التصاقا بهذا البلد ومواطنه، وتعبر عنهما التعبير الصادق الوفي الأمين الذي يجعل لهذه الأعمال لونها وطعمها ونكهتها، ويعطيها طابعها المميز، والمتفرد والأصيل لكي تتواصل وتترابط وتتسلسل الأجيال.

شاهد أيضاً

مواضيع الناقوس-العدد 11- مقابلة العدد مع المناضل/ عبدالله سعيد علاج

الجزء الأول أجرى الحوار: الصحفي محمود أفندي   تحاور مجلة الناقوس المناضل الكبير عبدالله سعيد …

شخصية العدد- المناضل المغييب محمد عثمان داير (الناقوس العدد 11)

       المناضل المغيب / محمد عثمان داير                   …

المنخفضات -تنخفض الأرض.. ترتفع الهمم (الناقوس العدد 11)

بقلم/ ياسين أمير الجغرافيا رسم الاله على صفحة الكون.. والجغرافيا ترسمنا حين نحسب أننا رسمنا …

2 تعليقان

  1. كلام جميل الا ان هناك أسباب عديدة لعبت دورا عاما في تهميش المجتمع الارتري بشكل عام والشباب بشكل خاص منها مافعله النظام الديكتاتوري الطائفي الذي لعب على وتر العصبية القبلية للمجتمعات القومية بادعائه التعليم بلغة الام إدراكا منه ان هذه اللغات لن تستطيع منافسة نظيرتها التغرينيا مهما بلغت من القوة والشعبية وبالتالي ستمحو من ذهن المجتمع الارتري المسلم اللغة العربية التي تشكل وعاءه الثقافي هذه الثقافة التي تعد ندا قويا لثقافة الدولة الوليدة التي تنكرت لكل التضحيات والدماء التي روت تراب الوطن مما ستمحو بها الزاكرةًالوطنية وخاصة في وسط الناشئة واجيال ما بعد الاستقلال وبالتالي مما أدى الى زيادة الأمية في المجتمعات التي كانت بالأساس مجتمعات أمية وتهميش دور المجتمع من كافة النواحي المعيشية والحياتية للمواطن مما أدى الى بروز التفاوت الطبقي في المجتمع نتيجة هذا التهميش الذي منح حقوق لفئة معينة دون الفئات الاخرى وتحيز الدولة لطائفة معينة لأسباب معروفة للجميع وعسكرة المجتمع بحجة افتعال حروب مع دول الجوار والخدمة الوطنية اللامحدودة ساهمت بدورها بغسل أدمغة الناشئة بمايتناسب مع رؤية السلطة الطائفية التي اغتصبت الدولة والمجتمع واحتكرت كل شيء بما يلائم نهجها الطائفي وأدى ذلك الى هجرة الشباب وهروبهم من جحيم السخرة التي فرضتها تلك السلطة التي قهرت الشعب واذلته حتى اصبح الاستقلال لعنة على الشعب الارتري بكل فئاته ومكوناته وهذا ما يخص الداخل الارتري اما في دول الجوار لم يكن الحال أفضل من الداخل نتيجة حالة الشتات الذي يعانيه الارتري الذي فقد وطنه بعد ان حرمه من حقه من المواطنة وعدم استيعابه تحت أي مسمى لا من قبل التنظيمات السياسية المعارضة ولا من قبل المجتمع المدني فضلا عن حالة اللجوء الذي اعتاد عليه الارتري منذ عدة اجيال وتناحر هذه التنظيمات المعارضة بعضها ببعض مما أدى ذلك الى الفشل الذريع في كافة مناحي الحياة وَمِمَّا لحق به من التهميش والتجهيل وعدم اتاحة الفرص للشباب لا من قبل النظام الحاكم ولا من قبل المعارضة التقليدية التي بقيت متمسكةبقيادةالتنظيمات السياسية وضاع الناشئة بتقديري بين هاتين القوتين الجبارتين التي لعبت دورا في تهميش الحياة السياسية وفِي حال كهذا لا اعتقد ان هناك سبيلا في تعريف الناشئة بالتاريخ علما بأن التاريخ النضالي لارتريا يكاد يكون بلا فخر اروع تاريخ نضالي في المنطقة ككل الا ان مشيئة النظام الطائفي العميل في المنطقة وجهل الكثير من نخبنا الوطنية أدت الى ما آل اليه الوضع في بلدنا وإذا لم تتدارك هذه النخب لهذه المشكلات سيتفاقم الخطر وتزداد المعضلات اليوم قد يكون أفضل من الغد لحلحلة المشكلات الوطنية وهناك عامل موضوعي آخر لعب دوراهاما هو عدم وجود الثقافة الواحدة نتيجة عامل التفتيت التي اعتمده النظام الطائفي باعتماده على التعليم بلغة الام وبالتالي هناك عدم انسجام وانعدام العامل الثقافي معا لاسف الشديد وهذا العامل هو الاخطر في نظري لان مجتمع بدون ثقافة موحدةلايمكن ان يساهم ببناء مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية وعلينا ان نوحد ثقافتنا اذا لم نتفق على الثقافة العربية فلتكن الثقافة الوطنية بلغة التغريتيا اذا لم نستطع الاتفاق على اللغة العربية وذلك على الأقل يضمن ببقاء المجتمع متجانس وبالتالي نستطيع ان ننقل تاريخ نضالنا الوطني الذي أطول وأروع البطولازلاطول حرب تحرير في العالم

  2. الشيء الوحيد الذي به يمكن ان نحافظ علي تراثنا و علي قضيتنا هو لغة التيقري و للأسف الشديد نحن الشعب الوحيد الذي يكره لغته ، اذا لم نحافظ علي لغة التيقري فإن الشعب سيتسودن و ينسي شيء اسمه اريتريا ، اللغة العربية لها أهلها و لا حرج في ان نتبناها لكن في هذا الوقت لغة التيقري مسألة ضرورية لإستمرارية القضية ، لذا اتمني تعليم الجيل الجديد لغة التيقري و تطويرها و المحافظة علي تراثنا الأدبي و الفني ، تفاعل الاريتري الذي يعرف العربي فقط يختلف تماما عن و الاريتري الذي يتكلم تيقري او اي لغة أخري مع القضية الاريترية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *