شباب الوطن البديل

بقلم: الأستاذ / عبد القادر شيا

خمسون عاماً مضت، جيل بأكمله كابد الحياة. وخلّف جيل جديد شق طريقة في دروب الحياة. ففي عام 1967م، أطفال صغار لم يبلغوا الحلم هرولوا مع ذويهم في الوديان واعتلوا الجبال وشقوا الغابات، لا يعرفون إلى أين هم ذاهبون ومن ماذا يهربون. فقط عندما يسمعون أزيز الطائرات يفعلون كما يفعل ذويهم، يختبئون تحت الأشجار وخلف الأحجار.

نساء أجهضن، وأخريات أنجبن أطفالاً لم يتسنى لهم رؤية منازلهم، قراهم ومدنهم، ذلك العام هو عام اللجوء الكبير. قرى بأكملها أحرقت، مدن عامرة هجرها أهلها. الكل يهرب بجلده. من أصيب بجراح نزف حتى الموت، جثث متناثرة لم تجد من يواريها الثرى، ومن كتبت له الحياة وصل إلى بر الأمان.

ديار غير ديارهم وحياة لم يألفوها. نساءهم ورجالهم توحدوا تحت مسمى اللاجئين. أطفال صغار نشأوا في بيئة مختلفة عن التي نشأ فيها ذويهم، الكثير منهم أكمل تعليمه وابتسمت له الحياة، وأكثرهم تفرق في أرض الله الواسعة من شرقها إلى غربها طلباً للحياة الكريمة ومستقبل مشرق.

أقاموا في دول متعددة ودرسوا بلغات مختلفة أمّنوا مستقبلهم وصاروا سندا لأهاليهم. أبناءهم تخرجوا من الجامعات وصار يشار إليهم بالبنان. انتماءهم للبلد الذي ولدوا فيه والذي احتضنهم، هكذا تعلموا دروس الوطنية، أما وطنهم الأصل – إرتريا – فهم لم يعرفون له طعم ولا رائحة. فآباءهم لم يخبروهم عن ديارهم لأنهم لم يروها أصلا. وفاقد الشيْ لا يعطيه. وطن رسموه في الخيال يجرى في دمائهم، أمنياتهم أن تطأ يوماً أقدامهم أرضه ويستنشقوا هواءه.

ترى لو قدّر لهم يوماً العودة إلى ديار أجدادهم هل يعرفهم أم يعرفونه. إنهم شباب الوطن البديل. الوطن الذي قدره لذويهم أن يتخذوه ملاذاً ووطناً بديلاً. إنهم الجيل الثاني الذي ولد خارج إرتريا، هم واباءهم لم يعرفوا من الوطن إلا اسمه.

ألا يحق لهم أن يتزودوا بشيء من المعرفة عن وطنهم؟ المفرح إن أكثرهم يتابع المواقع الإرترية، إلا أنني أتساءل ما هي الإضافة التي ستضاف إلى معرفتهم عندما يقرؤون مقالاً عن اجتماعات المعارضة في أديس أبابا؟ ما أوجه الاتفاق بينهم وعلى ماذا يختلفون، الأيسر لهؤلاء أن تسألهم عن أسباب انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي أو عن الانتخابات الأمريكية.

أعجبتني كتابات الأستاذ الحسين على كرار تحت عنوان “شيء من التاريخ غير الموثق”. مثل هذه المواضيع تجد لها مكانة لدى القارئ الشغوف. خاصة مثل هؤلاء الشباب، جيل المستقبل ووعد إرتريا، فمثل هذه المواضيع ترسم في مخيلتهم صوره للوطن، فالأستاذ الحسين على كرار يتحدث في مقالاته عن تفاصيل الحياة التي عاشها في مدينته ومنطقته، والتفاصيل إذا أضيفت إليها تفاصيل أخرى تكتمل الصورة. صورة للوطن، قراه ومدنه، طبيعة شعبه وثقافاتهم، عاداتهم وتقاليدهم، بعض هذه التفاصيل قد لا تتكرر، وكأنما فصّلت لهم وذهبت مع ذهابهم إلا أنها تبقى ذكرى لأناس وضعوا بصماتهم في مخيلة شعبهم بسماحتهم وصفاء السريرة.

هذا العنوان “شيء من التاريخ غير الموثق” يصلح ليكون نموذجاً لعناوين أخرى مماثله تفرد لها مساحة في المواقع الإرترية يكتب تحتها كل من له خلفية عن الحياة في إرتريا، وكل من عاش جزءًا من حياته في إرتريا. فهذه الكتابات تفيد أيما فائدة لمن يريد أن يعرف الحياة في إرتريا وطبائع شعبها في زمن تعمل فيه جماعات على قدم وساق لطمس هويتنا. هويتنا المستمدة من عاداتنا وتقاليدنا وديننا الحنيف. فهذه المعرفة لتفاصيل الحياة وطبائع الشعب الإرتري تقربهم كثيراً بمن هم صامدون في الوطن، بمن ارتضوا بكفاف العيش تمسكاً بأراضيهم وحفاظاً عليها، في انتظار الأحفاد ليتسلموا الراية ويكملوا المسيرة.

ختاماً، عام اللجوء هذا يذكرنا بأن الصبية الذين كانت أعمارهم ما بين الثامنة عشر والعشرون في ذلك العام قد شارفوا الآن السبعين من أعمارهم.

ترى كم من الزمن سيتاح لهؤلاء الأجداد ليمدونا بذكريات صباهم؟

:
:

شاهد أيضاً

مواضيع الناقوس-العدد 11- مقابلة العدد مع المناضل/ عبدالله سعيد علاج

الجزء الأول أجرى الحوار: الصحفي محمود أفندي   تحاور مجلة الناقوس المناضل الكبير عبدالله سعيد …

شخصية العدد- المناضل المغييب محمد عثمان داير (الناقوس العدد 11)

       المناضل المغيب / محمد عثمان داير                   …

المنخفضات -تنخفض الأرض.. ترتفع الهمم (الناقوس العدد 11)

بقلم/ ياسين أمير الجغرافيا رسم الاله على صفحة الكون.. والجغرافيا ترسمنا حين نحسب أننا رسمنا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *