شباب الوطن البديل (2)

الهدية

بقلم الأستاذ / عبد القادر شيا

الإنسان بطبعه تواق للأحسن، يطلب المزيد. وفي هذا الوقت الذي سيطرت فيه المادة على كل شيء، صار من متطلبات الحياة توفير المال والسعي في طلبه بشتى الوسائل مما يتطلب السفر والابتعاد عن الأهل والأصدقاء. فالهجرة والاغتراب صارا من الضرورات لإصلاح الحال خاصة في الدول الفقيرة ودول العالم الثالث بشكل أعم. فالشباب من هذه الدول يشدون الرحال إلى بلاد بعيده طلباً للمال، والسفر بالطرق المشروعة وغير المشروعة، وعزاءهم العودة غانمين إلى ديارهم وقد حققوا أحلامهم، فالدول وما توفره من فرص العمل محدودة ولابد للفرد من البحث عن العمل وتوفير متطلبات الحياة أينما وجد الى ذلك سبيلا. والجميع في هذه الحالة هدفهم واحد، وهو العودة إلى بلادهم بعد أن يحققوا مبتغاهم، لذا من الصعوبة بمكان اندماجهم في المجتمعات الأخرى، وفكرة الاندماج في المجتمعات التي هاجروا إليها قد لا تخطر ببالهم، لأن فكرة العودة هي المسيطرة في أذهانهم وسلفاً قد حددوا أهدافهم. وإقامتهم وسط الشعوب الأخرى ما هي إلا لتحقيق أهدافهم التي من أجلها ابتعدوا عن أهلهم وديارهم. وأهاليهم في انتظار عودتهم سالمين غانمين. حتى بالنسبة لذوي الكفاءات الذين وجدوا مستقبلهم في الدول المتقدمة وبما تقلدوه من مناصب رفيعة عينهم دائماً على بلادهم. يزورونها كلما أتيحت لهم الفرصة، مصطحبين معهم أبناءهم. وكل ما كبر الأبناء كبر قلقهم عليهم ويكونون عقبة أمام أبنائهم من الاندماج في الحياة الغربية. فهم يرون فيها خطرا على أبنائهم لأنهم يعتبرون انخراط أبنائهم في الحياة الغربية ضياعاً لهم. بل منهم من يتعجل بإرجاع أبنائه إلى بلده حتى يحافظوا على عادتهم وتقاليدهم.

أما بالنسبة للشعب الإرتري فالأمور تختلف، فمن البداية لم يغادروا بلدهم بمحض إرادتهم، بل أجبروا على ذلك. فنصف الشعب الإرتري، إن لم نقل أكثر، ترك بلده مرغماً، بل طلباً للنجاة من هول ما ينتظره في بلده. فالهجرة عنده هي البحث عن ملاذ آمن يضمن له الاستقرار والعيش بكرامة. ففي دول الجوار وبفعل العوامل المشتركة سهل عليهم التأقلم بل الذوبان في وسط المجتمعات التي هاجر إليها، بحيث صار من الصعوبة بمكان التفريق بينهم. أما الذين هاجروا إلى بلاد بعيدة وانتشروا في القارات الخمسة، وجدوا الأمن والأمان الذي افتقدوه في بلادهم. فالدول التي هاجروا إليها احتضنتهم ووفرت لهم سبل الحياة الكريمة من مصادر كسب الرزق والتعليم الراقي، أحبوها واتخذوها وطناً لهم. لهم مالها وعليهم ما عليها. اندمجوا في مجتمعاتها، وكل في مجاله أبدع حتى من وجد ملكة في نفسه اخترع مثل مواطني الدول التي هاجروا إليها، فالعلم متوفر، نهلوا منه كما أرادوا، ساهموا في تطوير البلاد. تقلدوا مناصب رفيعة. وفي الفاتح من سبتمبر أحيوا انطلاقة الثورة احتفلوا بها. استذكروا التضحيات الجسام، الشهداء الذين رووا الأرض بدمائهم وبذلوا أرواحهم رخيصة فداءً لوطنهم. النضال المرير الذي خاضه شعبهم أشعل في وجدانهم الحنين لوطنهم فحبه دائماً يجري في دمائهم.

هناك حمل ثقيل ألقي على أكتاف الشعب الارتري. فإيطاليا ورغم الفترة الطويلة التي استعمرت فيها إرتريا، لم تهتم بتعليم الشعب الإرتري. أكسبتهم مهارة في الأعمال الحرفية وبعض المهن الضرورية من أجل تسخيرهم في بناء اقتصادها. أما التعليم فقد وجدت فيه خطراً على وجودها وسرقت خيرات البلد. حرمتهم من العلم حتى يرون العمران الماثل أمامهم مكسباً لهم وتطويراً لبلادهم في الوقت الذي هو تنمية لاقتصاد إيطاليا. وعندما دخلت بريطانيا إرتريا، ورغم أنها أقامت حكومة إرترية وبرلمان وأحزاب وقوات نظامية، على النقيض من هذا كله ادعت هي والدول الاستعمارية بأن الشعب الإرتري عاجز عن قيادة بلده، وغير مؤهل لأخذ استقلاله. وبهذه الفرية وهذا الادعاء الباطل أُرغم الشعب الإرتري لأن يدخل في اتحاد فيدرالي مع إثيوبيا لمدة عشر سنوات حتى يتأهل لقيادة بلده وهكذا قدمت الدول الاستعمارية إرتريا لقمة سائغة لإثيوبيا، فابتلعتها.

إثيوبيا الكبرى لقنت التلاميذ في المدارس النشيد الوطني الإثيوبي وعلمتهم اللغة الأمهرية. عملت على طمس الهوية الإرترية فكان الاستعمار المقيت. بعد ثلاثون عاماً من الكفاح المسلح أشرقت شمس إرتريا ونالت البلاد استقلالها بعد أن ارتوت الأرض بدماء أبنائها. إلا أن الإرث الثقيل ظل جاثماً على اكتاف الشعب الإرتري. فالقيادة الوطنية أو هكذا تدعي، أقرت بأن هذا الإرث الثقيل حق إرتري ولابد من أن يحمله الشعب، أقرت بأن الشعب الإرتري غير قادر على قيادة بلده، فالشعب لم ينضج بعد لتحمل المسؤولية. عوضاً عن ذلك منحه الله القائد الملهم والمفكر الأوحد. فهو يُغْني عن الأحزاب والبرلمان والدستور. فهو السياسي والاقتصادي والمهندس وهو القادر على حمل أعباء البلاد والوصول بها إلى بر الأمان، وليهنأ الشعب الإرتري بحمل إرثه. حتى يأتي اليوم الذي يكون فيه أهلاً لتحمل المسئولية. أكثر من ربع قرن مضى والقائد يتحمل المسئولية نيابة عن الشعب، والمواطن لم يتأهل بعد لتحمل المسئولية. يبدو أن محاضراته لم تجدى نفعاً.
قديماً قيل دوام الحال من المحال. فالأنظمة المتعاقبة على حكم إرتريا ولت. ولت بلا رجعة، والنظام الحالي سائر على نفس الطريق يعيش أيامه ويذهب مثل الذين سبقوه إلى مزبلة التاريخ. والحمل الثقيل الذي حمله شعبنا زوراً سيرمى في واد سحيق. وفجر العزة والشموخ والمستقبل الباهر آت لا ريب فيه يحمل في طياته الديمقراطية والرفاه الاقتصادي.

هذه المقدمة الطويلة التي سقناها نرمي من ورائها تقديم هدية لوطننا. لإرتريا المستقبل. لابد من أن ننظر للأمام ونعد العدة من الآن حتى نقوم بواجبنا ونرسم خارطة طريق لمستقبل مشرق حتى نتخلص من هذا الإرث الثقيل الذي ألقوه على أكتافنا زوراً وبهتانا.
من قبل أشرنا إلى الشباب الإرتري الذي نهل العلم من أرقى الجامعات في العالم وحمل الشهادات العليا في مختلف مجالات العلوم والتكنولوجيا في الإدارة والاقتصاد والآداب والقانون. في أي مجال من مناحي الحياة نجد الكثيرين من ذوي الاختصاص، هذا إذا وضعنا في الحسبان عدد الإرتريين المقيمين في الخارج والذين قدرناهم بنصف تعداد سكان إرتريا أو يزيد. هل أتيح لنا المجال لنحصي عدد الأطباء الإرتريين العاملين في الخارج، والذين يضاف إليهم سنوياً من مختلف الجامعات؟ مجرد طرح مثل هذا السؤال يجعلنا نتساءل وكم عدد الخريجين من مختلف الكليات إجمالاً. أسئلة كهذه تجعلنا نقف أمام ثروة بشرية ضخمة. ثروة إذا وظفت لتنمية البلاد لقفزت بإرتريا إلى مصاف الدول المتقدمة. فإرتريا غنية بثرواتها المعدنية وموقعها الجغرافي المميز المطل على العالم بشاطئه الطويل يجعل منها أنموذجاَ للدول الناجحة.

هنا يحق لنا أن نتـساءل هل بإمكان أي حكومة ديمقراطية أن تستوعب هذا العدد الكبير من المثقفين وأصحاب الكفاءات وتستفيد منهم في نهضة إرتريا؟ أم سيقفز رجالات السياسة على سدة الحكم ويكون التغيير فوقي؟ وعلى أصحاب الكفاءات الراغبين في خدمة بلدهم تقديم طلباتهم ليدخلوا في نفق الروتين؟ هذه الأسئلة تجعلنا نأخذ هذا الأمر بجدية، وان يتصدى له بعض المثقفين باقتطاع جزء من وقتهم الثمين لهذا الأمر، وبفضل التكنولوجيا المتاحة من الممكن إنشاء قاعدة بيانات للخريجين، وإعداد قوائم بأسماء الخريجين والجامعات التي تخرجوا منها والدرجات العلمية التي نالوها مع أماكن عملهم، يضاف إليهم سنوياً الخريجين الجدد. وكل هذا لا يحتاج أكثر من إنشاء موقع إلكتروني ونشر عنوانه حتى يرسل إليه كل من يحمل شهادة جامعية صوره من شهادته وعنوانه الحالي، وبفضل تواصل الخريجين بهذا العنوان تتجدد المعلومات باستمرار، ولتعم الفائدة أكثر يمكن للمواقع الإرترية نشر قاعدة البيانات هذه اعتماداً على الموقع الرئيسي. وهذا أولاً يمنحنا الثقة بقدراتنا العلمية والمهنية، وثانياً بنشرها على الملأ ويكون عامل ضغط شعبي على أي حكومة قادمة وإجبارها على استيعابهم من أجل نهضة إرتريا وازدهارها. وهكذا نكون قد قدمنا أعظم هدية لوطننا وشعبنا المناضل.

وكل عام وأنتم بخير.

.

.

.

شاهد أيضاً

مواضيع الناقوس-العدد 11- مقابلة العدد مع المناضل/ عبدالله سعيد علاج

الجزء الأول أجرى الحوار: الصحفي محمود أفندي   تحاور مجلة الناقوس المناضل الكبير عبدالله سعيد …

شخصية العدد- المناضل المغييب محمد عثمان داير (الناقوس العدد 11)

       المناضل المغيب / محمد عثمان داير                   …

المنخفضات -تنخفض الأرض.. ترتفع الهمم (الناقوس العدد 11)

بقلم/ ياسين أمير الجغرافيا رسم الاله على صفحة الكون.. والجغرافيا ترسمنا حين نحسب أننا رسمنا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *