رابطة أبناء المنخفضات والتحديات الماثلة

mahmoud omer.5محمود عمر / بورتسودان

منذ ظهور مشروع رابطة أبناء المنخفضات قبل نصف عام علي شاشة الشبكة العنكبوتية استبشرت به كثير من فعاليات المجتمع واختلفت معه أخرى ، وصمدت الرابطة أمام من وصفوها بكثير من النعوت السالبة فكان كلما تدفق مداد لينال منها جاءت ريشة فنان لتزين بهذا المداد رونقها وعاد الأمل وتسابق المجتمع بالتأييد بل وتأسست الفروع بأريحية خالصة وبصورة تلقائية حتى أضحى مشروع ووثيقة الرابطة يمشيان بين الناس علي أقدام راسخة. وكانت الوسيلة التي اعتمدتها الرابطة للتعبير عن مصالح مجتمعها الحوار، هذه الوسيلة الرسالية والتي انتصر بها الأنبياء، فهذا موسى عليه السلام يطلب أن ينصره الله تعالى بأخيه هارون ويدخل حلبة الصراع مع فرعون وينتصر عليه بقوة الحجة والمنطق وأخيراً بالسلاح الذي يكافئ سلاح الخصم فكان بروز الوثيقة والتعبير أمام الملأ تحدياً واجهته الرابطة وتجاوزته وأكدت مواكبتها للمرحلة ولم يعد مشروعها من أساطير الأولين وأضغاث الأحلام.

أما إذا تأملنا في التحديات التي تواجهها الرابطة أولها مجاهدة النفس وإصلاح الذات وتعميق الحوار الداخلي وتشريح أمراض المجتمع وتشخيص ما كان سبباً أساسياً للظلم والتهميش، وأهم هذه الأمراض عدم الثقة بالنفس التي كرسها الأسلوب الإداري التقليدي المتوارث والذي كان يستمد سلطاته من المستعمر والدويلات العسكرية التي كانت سائدة في تلك العصور والتي أصـَّــلـَـتْ وَرَسـَّــخـَــتْ مهمتها في تحصيل المال والرجال وقوداً للحروب التوسعية لتلك الدويلات الغابرة، وينبع ذلك بالضرورة من الاستخدام المفرط للقوة واستعراض عضلات وجبروت السلطة، حيث لم تعرف تلك العهود نظام حكمٍ راشد، وزاد من تعمق النهج الإقصائي أنظمة الاستبداد العسكرية القمعية بدءاً بالفاشست الطليان ثم الكهنوت الامبراطوري لهيلي سلاسي ثم الدرق وأخيراً عصابة أسمرا العنصرية التي عمقت الاستبداد وقربت فئة وأبعدت أخرى لتعميق هوة الخلاف ولضرب إسفين في عوامل الوحدة والتلاقي بين أبناء المجتمع حتى تستمر في تغييب العقل الجمعي والمصالح المشتركة . وإن هذه التركة  تعتبر التحدِّي الأساسي لرابطة أبناء المنخفضات، ولتجاوز هذه الأزمة ولبناء صرح يليق بهذا المجتمع ودوره وللخروج من الاحباط الذي أصاب عامة الناس بل أصاب رذاذه بعض المثقفين الذين ذهب بهم الإحباط الي الاعتقاد بأن هذا المجتمع غير قادر علي إدارة شأنه بنفسه، وأننا لا نصلح لإدارة مشروع ذاتي أو فاشلين في الالتفاف حول مصالحنا المشتركة ، وقد صارهذا الاعتقاد اليائس والمحبط لبعض ضعاف النفوس حائط مبكى يعلقون على مشجبه مواقفهم المترددة والمتشككة في أية محاولة ذاتية للنهوض والاستنهاض، بل تجاوز هؤلاء هذا الاعتقاد الى الإقرار بأن هذا المجتمع لا يصلح معه إلا أسلوب البطش والاستبداد حتى لتحقيق مصالحه، أي إنه بحاجة الى جلاد أو سياف يحثه علي العمل علي حصد مزرعته بتلويح المهماز (السوط) فوق رأسه بين الفينة والأخرى.

لذلك علينا بوضع مرتكزات علمية ومعالجات استراتيجية تخدم مجتمعنا حيث تعتبر الاستراتيجية في نظر علم الاجتماع النشاط المرتبط بأهداف وغايات تختص بدراسة المجتمع والانتقال به من مرحلة التخلف الي مرحلة النمو الذي بالضرورة أن تكون قاعدتنا فيه قائمة علي بناء مجتمع معافىً خالٍ من الأمراض مسلح بالمعرفة وأن ننظر للتاريخ بأنه علم لمعرفة الوقائع وأسبابها، وبالعصيان والتمرد علي الواقع يتم صناعة التقدم في عيون أي إنسان يقرأ التاريخ. كما أن التغيير يجب أن يشمل التنبؤ بالمستقبل وقراءة وتحليل المرحلة التاريخية الراهنة عالمياً واقليمياً ومحلياً، إذ يعيش العالم اليوم مرحلة تعقيدات حضارية وتحولات مفاهيمية هائلة (عصر العولمة) الذي يتميز بالهيمنة السياسية والاقتصادية والاعلامية المفروضة من الدول الكبرى علي غيرها عبر وسائل القوة الناعمة بالوسائط المتعددة كالانترنت والأقمار الصناعية والخصخصة والشركات العملاقة العابرة للجنسية وبالقوة والعنف أحياناً. هذه التحولات التي تجد دور إصلاح المجتمع فيها يأخذ بعداً فلسفياً وواقعياً جديداً مرسوماً لا يصلح معه إغفال التخصصية والتكاملية لتعلو ببعديها الحسي والمعنوي والذي يتطلب استخدام الفن الاستراتيجي الذي يعتبر مغامرة محسوبة تحتاج الي التأني وفق التطورات والمخترعات والذي يحتّم علينا إستخدام رأس المال الإجتماعي كأكبر مورد ليس بتبادل المعلومات حول الحياة الشخصية اثناء الجلسات بين الزملاء وتبادل الالفاظ الادبية المهذبة والمنمقة والتفاخر الاستعلائي ولكن يجب ان تتحول العلاقة الى ثقة تغري بالانتظام والرغبة في الانجاز لكسب الاحترام ومساعدة بعضنا البعض رغبة في إشراك الجميع في متعة النجاح والانتصار . لذا يجب أن يحمل التغيير الفكري هذه المفاهيم لإعداد إنسان عصري وبهذا نكون قد أعددنا أنفسنا لتحمل مسئوليتنا التاريخية للصمود امام أي نائبة من نوائب الدهر، ثم تحدٍّ آخر وهو الحماية والشكل والموقع الذي ندير منه عملية إعداد وصيانة المجتمع وما تواجهه من الأجسام السياسية والتنظيمية القائمة  نظاماً أو معارضة ، فاذا قلنا إنها ثورة على الظلم والاقصاء والتهميش علينا ان ننطلق من مفهوم الثورة التاريخي والعلمي وهو أن الثورة هي الرد بالقوة على نظام سياسي اجتماعي يمنع تداول السلطة والثروة ويجعلها حكراَ لفئة، ويكون منطلق الثورة الحديثة هدم الكيانات والامتيازات الموروثة أو الممنوحة بغير حق ومساواة الناس في فرص السعي للسلطة والثروة والتعليم والمعرفة وفق الكفاءة والاداء مما يشكل اساساً مفهومياً حديثاً، وهذا هو رهان النجاح لأنه لا يوجد فكر بلا كلمات ولاتعني الكلمات شيئاً دون فكر.

انطلاقا من منطق التحليل  الاستقرائي للربط التاريخي  للأحداث لنعد الى مرحلة مخاض تكوين الدولة الارترية في الاربعينيات ولنتأمل هذه القصة الواردة في كتاب ألم سقد ( لن نفترق ): (في اجتماع بيت قرقيس بتاريخ24نوفمبر 1946م جاء الكولونيل نقا هيلي سلاسي ممثل اثيوبيا في ارتريا من اديس ابابا وهو يحمل المال والسلاح لضم ارتريا لاثيوبيا ، وسهر الليلة التي سبقت الاجتماع مع جماعة حزب الوحدة للترتيب وكانت النخب التقرنياوية مقسمة الى كتلتين: الأولى يقودها ولدآب ولد ماريام وتسعى لاقامة نظام حكم في ارتريا يرتبط باثيوبيا بما فيها التقراي بعلاقة مميزة، والكتلة الثانية تقودها نخبة لحماسين”أسمرا” والتي كانت ترغب في الانضمام لاثيوبيا دون شروط، وكان المسلمون يميلون لعلاقة مشروطة ينظر اليها الاجتماع وبدأت فعاليات الاجتماع وتحدث ولدآب عن ميزات قيام نظام في ارتريا مرتبط بعلاقة مميزة مع اثيوبيا، ونهض تدلي بايرو قائد حزب الانضمام وقال: انك يا ولد آب تقراوي ولايمكن ان تضع شرطاً للابن يلقنه كيفية التعامل مع أمه، ثم إن أهلك ينعمون بحكم بلادهم ونحن نرزح تحت استعمار الغريب. وقام ولدآب بالرد على تدلي بايرو مفتخراً بأهله وعمقه التقراوي وأنه من سلالة ملوك وحضارة وأنه اهلٌ للتحدث عن مصير ارتريا، وكان من بين الحضور مجموعة شباب من حزب الوحدة حضروا الاجتماع متأبطين الخناجر والعصي تحت ملابسهم، وحينها قام ابراهيم سلطان يريد الخروج من الاجتماع فأمسك به كلٌّ من بلاتا دمساس ودقيات حقوص وقالا له: لقد اخطانا، فنحن لم نسأل اخواننا المسلمين عن رأيهم فتحدث يا ابراهيم فأجاب سلطان قائلاً: (ليس لديَّ ما أقوله ونحن لانمثل المسلمين فالمسلمون لم يأتوا بعد، فعمد قبائل بيت أسقدي وعمد قبائل عد شوم والنارا والكوناما وعد نائب في مصوع وعد شوم الساهو والاساورتا والمنيفري وزعماء الدناكل والجبرتا كل هؤلاء لم يأتوا عليه أرجو ان تنهوا هذا الاجتماع وتحددوا موعداً آخر يحضره الجميع. ونهض شاب وبدأ يتحدث “عجباً يا ابن سلطان نحن لسنا عاطلين حتى ندعو كل من هب ودب من المسلمين البدو رعاة البقر والجمال، إن ما نقرره هنا سيتقبله المسلمون صاغرين. فقال ابراهيم سلطان اني لا املك في الوقت الراهن القدرة على مجاراتكم في الاساءة  فنحن الموجودين هنا لا يزيد عددنا على العشرة او العشرين وأنتم بالمئات فيمكنكم ان تضعوا القمع في أنوف المسلمين وتصبوا ما تشاؤون وليوفقكم المولى)، ثم غادر المكان وتوجه الى مقر عمله بالغرفة التجارية باسمرا وجلس بمكتبه واخذ ورقة وبدأ بالبسملة ووضع برنامجاً لحزب أسماه الرابطة الاسلامية وجاء الى مكتبه كل من الحاج سليمان شقيق مفتي ارتريا والشيخ عبدالقادر كبيري فعرض عليهما المسودة ثم عرضت على مفتي الديار ابراهيم مختار ودقيات حسن علي ووقعوا على وثيقة الرابطة.

وكانت هذه الوثيقة التي تعتبر نقطة تحول تاريخية قد أعدت ببراءة وحس وطني لايضاهـَـى في مكتب موظف بسيط مفعم بالحلم والأمل والحرص علي سلامة أمته.

هذا المشروع يمثل الركيزة الأساسية للدولة الارترية الحديثة وقد تكسرت علي صخرته كل احلام الطامعين والانتهازيين وظل مفخرة وتاجاً علي رأس كل من ينتمي الى ابراهيم سلطان اجتماعياً وثقافياً وعقدياً ووطنياً.

إذاً وثيقة رابطة أبناء المنخفضات تأتي في مرحلة سياسية حساسة تعيشها ارتريا اليوم وذلك لهروب الشباب امل الامة والوطن الذي أضحى سجناً كبيراً لا يضمن فيه من أمسى أن يصبح ولا من أصبح أن يمسي، ووطن لم تحرك سلطته ساكناً وهو يحتضر بين يديها، ولم تقدر معارضته علي توحيد جهودها.

تأتي وثيقة الرابطة في مرحلة تدخلات دولية ومصالح دول تجاوزت الحدود ومرحلة غبن داخلي يعيشه المواطن المكبوت ويمكن ان يستغل من قوى الاطماع والارهاب حتى تكون ارتريا صك غفران جديد تهفو اليه قلوب المتزمتين، ولذا على رابطة أبناء المنخفضات تقع هذه المسئولية وتعتبر حجر زاوية لانقاذ الوطن إيماناَ منا أن هدم وطن بـُــنـِــيَ علي دماء وعرق أهلنا وعمقنا الاجتماعي ومات من أجله شهداؤنا وهم يحلمون بدولة العزة والكرامة لهو تفريط في كل المكتسبات والارث النضالي الذي يعد مفخرة سُطرت بأغلى الاثمان فاذا كان ورقة خطـَّــها موظف صغير داخل مكتبه غيرت هذا المجتمع وجعلته يغير محور الصراع وصمدت أمام جهابذة العالم وترسانته العسكرية حتى أوجدت دولة ارتريا، فحريُّ بنخبة مسلحة بتاريخ الماضي ووقائع الحاضر أن تضع خارطة طريق تعين مجتمع المنخفضات وتقوّم علاقاته بالآخر وفق مشروع العدل الاجتماعي ليكون جاذباً لتجسير العلاقات مع بقية المجتمعات من خلال عقد جديد  منطلق من مفاهيم التحول المفاهيمي بين مكونات الدولة الذي لا قدسية فيها الا لمصلحة العباد والبلاد وبناء وطن يمثل لوحة جاذبة تحمل بصمة كل وطنيّ غيور ينشد السلام والاستقرار،هذه النعمة التي استحقت العبادة من الله سبحانه وتعالى والتي قال عنها: “فليعبدوا ربَّ هذا البيتِ الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” صدق الله العظيم.

محمود عمر

كاتب ارتري – بورتسودان

شاهد أيضاً

مواضيع الناقوس-العدد 11- مقابلة العدد مع المناضل/ عبدالله سعيد علاج

الجزء الثاني أجرى الحوار: الصحفي محمود أفندي متابعة : ماذا حدث لك بعد نجاح العملية …

مواضيع الناقوس-العدد 11- مقابلة العدد مع المناضل/ عبدالله سعيد علاج

الجزء الأول أجرى الحوار: الصحفي محمود أفندي   تحاور مجلة الناقوس المناضل الكبير عبدالله سعيد …

شخصية العدد- المناضل المغييب محمد عثمان داير (الناقوس العدد 11)

       المناضل المغيب / محمد عثمان داير                   …

تعليق واحد

  1. الأخ محمود سلمت يداك ، كما لعبنا دورنا التاريخي في الدفاع عن هذا الوطن فإن واقع الحال الآن ينذر بنفس المخاطر ، لكن يجب أن تكون منطلقات دفاعنا هذه المرة مختلفة عن سابقاتها وفق حقوق ومصالح مكوناتنا الإجتماعية في إطار الوطن ، لأن مايحاك الآن يؤشر لإقصاء مجتمعنا ودوره التاريخي من دائرة المسرح السياسي لصالح قوى الهيمنة مرة أخرى .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *