الهويات القاتلة : كتاب يستحق القراءة أكثر من مرة

Books

الهويات القاتلةعلي عافه إدريس

 

     كتاب الهويات القاتلة لكاتبه الأستاذ أمين معلوف وترجمة الأستاذة نهلة بيضون والصادر عن دار الفارابي بعدد 229 صفحة من القطع المتوسط ، كتاب قيم ومهم وأهميته تكمن في أنه يتناول قضية الهوية وتشعباتها ، والأستاذ أمين معلوف قد أبدع في تناولها بلغة بسيطة وسهلة و بفكر عميق ومتزن.

يتضمن كتاب (هويات قاتلة) مقدمة وخاتمة و أربعة فصول هي :

  • هويتي ، انتماءاتي.
  • عندما تأتي الحداثة من الآخر.
  • زمن القبائل الكونية.
  • ترويض الفهد.

      الأسلوب الذي كتب به كتاب الهويات القاتلة والمعلومات الواردة به تجعل تلخيصه أمر صعب لأنك ستكون دائما تحت ضغط احساس أهمية بعض المعلومات التي تجاوزتها رغبة في الاختصار ، مثلا ما ورد في مقدمة الكتاب لم أستطع تجاوزه لأنني وجدت أنه مفتاح مهم لما سيأتي من فصول ، لهذا وجدت نفسي اضطر لنسخ أهم ما جاء بها ، يقول الأستاذ أمين معلوف في مقدمته : منذ أن غادرت لبنان عام 1975 للاستقرار في فرنسا، فكم من مرةٍ سألني البعض عن طيب نيةٍ: إنْ كنتُ أشعر بنفسي “فرنسياً” أم  “لبنانياً”. وكنت أجيب سائلي على الدوام : “هذا وذاك!” لا حرصاً مني على التوازن والعدل بل لأنني سأكون كاذباً لو قلت غير ذلك . فما يحدِّد كياني، وليس كيان شخص آخر، هو أنني أقف على مفترقٍ بين بلدين، ولغتين أو ثلاث لغات، ومجموعة من التقاليد الثقافية. وهذا بالضبط ما يحدِّد هويتي. فالهوية لا تتجزأ، ولا تتوزَّع مناصفةً أو مثالثةً، ولا تصنَّف في خاناتٍ محدَّدة ومنفصلة عن بعضها البعض. وأنا لا أملك هويات متعدِّدة بل هوية واحدة مؤلَّفة من العناصر التي صنعَتها وفقاً “لجرعةٍ” خاصة لا تتطابق مطلقاً بين شخص وآخر. فحين يسألني البعض عمَّا أكون “في قرارة نفسي”، يفترض هذا السؤال أنه يوجد في “قرارة” كل إنسان، إنتماء واحد ذو أهمية، هو “حقيقته الدفينة” نوعاً ما، و “جوهره” الذي يتحدَّد تحديداً نهائياً عند الولادة ولا يتغيَّر قط ، كما لو أن الباقي، بمجمله ـ أي أن مساره كإنسان حر، وآراءه المكتسبة، وميوله، وحساسيته الخاصة، وأهواءه، وباختصار، حياته بأكملها ـ يصبح عديم القيمة. وحين يُشجَّع معاصرونا على “تأكيد هويتهم”، وهذا ما يحدث حالياً في أغلب الأحيان، فالغاية من ذلك أنه يتوجَّب عليهم أن يجدوا في قرارة أنفسهم ذلك الانتماء الجوهري المزعوم الذي غالباً ما يكون دينياً أو قومياً أو عرقياً أو إتنياً، والمفاخرة به أمام الآخرين. ويضيف: إنَّ كلَّ من يجاهر بهويةٍ أكثر تعقيداً يجد نفسه مهمَّشاً؛ فالشاب الذي ولد في فرنسا لأبوين جزائريين يحمل في داخله انتماءين بديهيين ويفترض به أن يكون قادراً على الاضطلاع بهما على حدٍّ سواء. إنها تجربة غنية ومثمرة لو شعر هذا الشاب بحرية عيشها إلى أقصى حدودها، وبالتشجيع على الاضطلاع بكل تنوُّعها. وعلى نقيض ذلك، قد يكون مساره صدمةً قاسية لو اعتبره البعض خائناً بل ومرتداً كلَّما أكَّد هويته الفرنسية، ويفترض المنطق السليم أن يستطيع هذا الشخص المجاهرة بانتمائه المزدوج، ولكن لا شيء في القوانين ولا في الذهنيات يسمح له اليوم بأن يعيش بانسجام هويته المركَّبة. ويضيف الأستاذ أمين معلوف : ولكنني، والحق يقال، لا أوافقهم الرأي، فالشخص الذي ذكرته ليس وحده من يملك هوية معقدة. ففي داخل كل إنسان، تلتقي انتماءات متعددة تتصارع في ما بينها، وترغمه على القيام بخيارات مؤلمة.

ورغم جمالية المقدمة الا أن ما يتناوله في فصل هويتي ، انتماءاتي يظل الأجمل ، فيقول الاستاذ أمين في هذا الفصل ،  لقد علمتني حياة الكتابة أن أرتاب من الكلمات، فأكثرها شفافيةً غالباً ما يكون أكثرها خيانةً. وإحدى هذه الكلمات المضلِّلة هي كلمة “هوية” تحديداً. فنحن جميعاً نعتقد بأننا ندرك دلالتها، ونستمر في الوثوق بها وإنْ راحت تعني نقيضها بصورة خبيثة. ولا أنوي مطلقاً إعادة تحديد مفهوم الهوية ، والتصدي مجدداً لهذا التحديد في أيامنا الراهنة يحتاج إلى الكفاية أكثر مما أملك، وإلى المزيد من الشجاعة والإقدام. أما المهمة التي أخذتها على عاتقي، فهي أكثر تواضعاً بكثير، وتقوم على محاولة فهم الأسباب التي تدعو الكثيرين اليوم إلى القتل باسم هويتهم الدينية والإتنية والقومية أو غيرها. هل كان هذا الوضع قائماً منذ فجر التاريخ، أم أن ثمة حقائق خاصة بعصرنا الراهن؟ سوف يبدو كلامي مغالياً في التبسيط أحياناً، ذلك لأنني أريد أن أمضي في تحليلي بأكثر الأساليب هدوءاً ورويةً وإخلاصاً دون اللجوء لمصطلحات معقَّدة أو اختزالات واهية. نجد على ما اصطلح الناس على تسميته “بطاقة هوية” الشهرة، والإسم، وتاريخ الولادة ومكانها، والصورة الشمسية، مع ذكر بعض العلامات الفارقة وتوقيع حاملها، وفي بعض الأحيان، بصمات أصابعه ـ أي مجموعة متكاملة من الدلائل التي تشير دون أيما لبس إلى أن حامل هذه الوثيقة هو فلان، وأنه لا يوجد، من بين بلايين البشر الآخرين شخص واحد مطابق له، ولو كان شبيهه أو شقيقه التوأم. إن هويتي هي التي تعني أنني لا أشبه أي شخص آخر. واستناداً إلى هذا التحديد، يبدو مفهوم الهوية دقيقاً نسبياً ولا يفترض به أن يؤدي إلى الالتباس. فهل ثمة حاجة فعلاً للخوض في استدلالات مطوَّلة من أجل الاثبات أنه لا يوجد ولا يمكن أن يوجد كائنان بشريان متطابقان؟ وحتى لو توصَّل العلماء في المستقبل إلى “استنساخ” البشر، كما يخشى البعض، فهذه النسخ البشرية لن تكون متطابقة تماماً إلا ساعة “ولادتها”، لأنها ستختلف وتتباين حالما تخطو خطواتها الأولى في معترك الحياة. وتتألف هوية كل إنسان من جملة عناصر لا تقتصر على تلك الواردة في السجلات الرسمية، ومن بينها، بالنسبة إلى السواد الأعظم من الناس، الانتماء لمذهب ديني، وجنسية وأحياناً جنسيتين، ومجموعة أثنية ولغوية، وأسرة قد تكبر أو تصغر، ومهنة، ومؤسسة، ومحيط اجتماعي معين.. غير أن القائمة تطول ولا تنتهي من الناحية الافتراضية ، فقد يشعر المرء بانتماء قوي ، بهذا المقدار أو ذاك، إلى إقليم أو مدينة أو قرية أو حي أو عشيرة أو فريق رياضي أو جماعة مهنية، إلى شلة أصدقاء، أو نقابة أو شركة أو حزب أو جمعية أو كنيسة رعوية أو مجموعة من الأشخاص يتقاسمون الهوايات نفسها أو الميول الجنسية عينها أو المعوقات الجسدية ذاتها أو يتعرَّضون للمضايقات نفسها. ولا تكتسب كل هذه الانتماءات الأهمية عينها ولا في اللحظة نفسها مطلق الأحوال. غير أن لا انتماء منها يفتقر تماماً إلى الأهمية. إنها العناصر المؤسسة للشخصية، أو “جينات الروح”، إذا ما صح التعبير، شرط التحديد بأن معظمها ليس فطرياً. ولئن توافر كل من هذه العناصر لدى عدد كبير من الأفراد، فالتشكيلة عينها لا يمكن أن تتوافر لدى شخصين مختلفين، وهذا بالضبط ما يكوِّن غنى كل فرد وقيمته الخاصة وهذا ما يعني أن كل كائن فريد وغير قابل بالقوة للاستبدال.

ثم يتحدث الأستاذ معلوف عن بعض الوقائع التي تحرك الانتماءات أو دوافع الانتماءات مثل طبيعة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعاشة فيقول : يصدف أن يكتسب حدث، مفرح أو مؤلم، أو حتى لقاء عابر، أهمية في إدراكنا لهويتنا أكثر من الانتماء إلى إرث عريق يعود لآلاف السنين. فلنتخيل مثلاً صربياً ومسلمة التقيا، منذ عشرين سنة، في مقهى بمدينة ساراييفو، فتحابَّا ثم تزوجا. لن يتمكن الاثنان فقط من إدراك هويتهما كما يفعل زوجان صربيان أو مسلمان ، فموقفهما من الإيمان ومن الوطن على حد سواء لن يبقى على حاله. وسوف يحمل كل منهما في أعماقه على الدوام الانتماءات التي ورثها عن أهله عند الولادة ، ولكنه لن ينظر إليها بالطريقة نفسها، ولن يوليها الأهمية عينها. فلنبق في ساراييفو، ولو من الناحية النظرية، للقيام بتحقيق وهمي، ولنراقب في الشارع رجلاً في الخمسين من العمر. في أوائل عام 1980، لو طلب من هذا الرجل تحديد هويته، لأجاب فخوراً ودون تحفظ: “أنا يوغسلافي”، ولو تحدَّد السؤال، لأوضح بأنه يعيش في جمهورية البوسنة والهرسك الفدرالية وأنه ينتمي عرضا إلى عائلة مسلمة. ولو التقينا الرجل نفسه، بعد اثني عشر عاماً، حين كانت الحرب على أشدها، لأجاب عفوياً وبعزم لا يلين: “أنا مسلم”!، ولعله قد أرسل لحيته تطبيقاً لتعاليم الشريعة، ولأضاف على الفور أنه بوسني، ولما استساغ مطلقاً أن يذكره سائله باعتزازه السابق بجنسيته اليوغسلافية.

أما اليوم، لو سئل هذا الرجل في الشارع عن هويته، فلا بد أنه سيجيب بأنه بوسني أولاً ثم مسلم، ويوضح أنه كان ذاهباً إلى الجامع، ولكنه سوف يؤكد أنه بلاده تنتمي إلى أوروبا، وأنه يأمل انضمامها يوماً ما إلى الاتحاد الأوروبي .

ولو صادفنا هذا الرجل في المكان نفسه بعد عشرين عاماً، فكيف سيحدد هويته يا ترى؟ وأياً من هذه الانتماءات سيذكر في المقام الأول؟ كونه أوروبياً؟ مسلماً؟ بوسنياً؟ أو شيئاً آخر؟ بلقانياً، ربما ؟ لن أجازف بإطلاق التكهنات فكل هذه العناصر تشكل بالفعل جزءاً من هويته. ولقد ولد هذا الرجل في كنف عائلة مسلمة، وهو ينتمي بحكم اللغة التي ينطق بها إلى الشعوب السلافية الجنوبية التي انضوت في الماضي تحت لواء دولة واحدة، ولم تعد كذلك اليوم، وهو يعيش على أرض كانت عثمانية تارةً، ونمساوية طوراً، وقد نالت نصيبها من المآسي الكبرى التي شهدها التاريخ الأوروبي. وفي كل حقبة، تضخم هذا الانتماء لديه أو ذاك، إذا ما صح التعبير، بحيث حجب كل انتماءاته الأخرى واستوعب هويته بكاملها. ولقد سمع هذا الرجل، خلال حياته، شتى الخرافات، فقيل له إنه بوليتاري فقط لا غير، وأنه يوغسلافي فحسب، وفي الآونة الأخيرة، أنه مسلم وكفى بل ربما حمله البعض على الاعتقاد، أثناء الأشهر العصيبة، أنه يملك قواسم مشتركة مع سكان كابول أكثر من سكان ترييستا!  ويضيف كذلك : لقد عرفت كل العصور أشخاصاً اعتبروا أن هنالك انتماءاً أساسياً يسمو على كافة الإنتماءات الأخرى مهما كانت الظروف، يمكننا أن ندعوه بصورة مشروعة “هوية”، وهو الأمة بالنسبة إلى البعض، والدين أو الطبقة بالنسبة إلى البعض الآخر. ولكن يكفي أن نستعرض النزاعات المختلفة الدائرة في أرجاء العالم لنتحقق من أن لا انتماء يسمو بالمطلق. فحيث يشعر الناس بأن إيمانهم مهدد، يختصر الانتماء الديني هويتهم بكاملها. أما إذا كان الخطر يحدق بلغتهم الأم ، أو مجموعتهم الأثنية، فهم يقاتلون بضراوة إخوانهم في الدين . إن الأتراك والأكراد مسلمون على حد سواء ولكنهم لا يتكلمون اللغة نفسها، فهل يكون نزاعهم أقل دموية؟ والهوتو والتوتسي كاثوليكيون ويتحدثون اللغة نفسها، ولكن هل شكل ذلك رادعاً لهم لعدم التناحر والاقتتال؟ والتشيكيون والسلوفاكيون كاثوليكيون بدورهم، فهل أسهم ذلك في تعزيز عيشهم المشترك؟ أسوق كل هذه الأمثلة لأشدِّد على أن الهوية ليست ثابتة بل هي تتحوَّل مع الوقت وتحدث في السلوك البشري تغييرات عميقة، وإنْ وجدت، في كل الأوقات، تراتبية معينة بين العناصر المكوِّنة لهوية كل إنسان. أضف إلى ذلك أن الانتماءات التي تكتسب أهمية في حياة كل إنسان ليست دائماً تلك الانتماءات المهمة المعروفة التي تتعلق باللغة ولون البشرة والجنسية والطبقة الاجتماعية أو الدين. وغالباً ما تتطابق الهوية التي ينادي بها الإنسان ـ سلبياً ـ مع هوية العدو. فالإيرلندي الكاثوليكي يتمايز عن الانكليزي بالدين أولاً، ولكنه سوف يجاهر بانتمائه الجمهوري ضد الملكية. وإذا كان لا يلم باللغة الإيرلندية كفاية، فهو سيتكلم بلكنته الخاصة على الأقل؛ والزعيم الكاثوليكي الذي يتكلم الانكليزية بلهجة أوكسفورد قد يعتبر مرتداً. وبوسعنا أن نذكر عشرات الأمثلة في هذا السياق لتوضيح مدى التعقيد ـ المضحك أحياناً، والمأساوي في أغلب الأحيان ـ الذي تتسم به آليات الهوية.

ويمكن تلخيص هذا الفصل كالتالي : أن الهوية لا تُعطى مرة واحدة وإلى الأبد إلى الفرد، بل تتشكل من عدة انتماءات تتبدل ويختلف تراتب عناصرها طوال حياته وتالياً (الهوية) قابلة للتغير والتَّبدّل حسب تأثير الآخرين بشكل أساسي على عناصرها. وأن الفرد يميل بطبعه فيما يخص تعريف هويته وتحديد انتمائه بأكثر عناصر هويته عرضة للخطر – خطر الإهانة أو السخرية أو التهميش أوالقمع… إلخ -. ويركز الكاتب في هذا الفصل على خطر “تأكيد الهوية” وكيف من الممكن أن تتحول إلى “أداة حرب”، وتأكيد الهوية هو اجتماع واتحاد وتعاضد فئة تتشاطر في تراتب الانتماء أو على الأقل في الانتماء الأكثر عرضة للخطر، فيشكلون مواجهة للطرف الآخر ويَرَون تأكيد هويتهم عملاً ضرورياً شجاعاً ومُحَرِّراً. وعليه لا يجد الكاتب بأن تسمية “الهويات القاتلة” تسمية مبالغ فيها، إذ يقول: “أتحدث في بداية هذا الكتاب عن هويات قاتلة. ولا يبدو لي أن هذه التسمية مبالغ فيها، ذلك لأن المفهوم الذي أفضحه، والذي يختزل الهوية إلى انتماء واحد، يضع الانسان في موقف متحيز ومذهبي ومتعصب ومتسلط، وأحياناً انتحاري، ويحولهم في أغلب الأحيان إلى قتلة أو إلى أنصار للقتلة. إن رؤيتهم للعالم مواربة ومشوهة. فالذين ينتمون إلى جماعتنا ذاتها هم أهلنا الذين نتضامن مع مصيرهم، ولكننا لا نسمح لأنفسنا في الوقت ذاته بأن نكون طغاة تجاههم ، وإذا بدوا لنا فاترين نتنكر لهم ونرهبهم ونعاقبهم بوصفهم خونة ومارقين. أما بالنسبة للآخرين ، الموجودين على الضفة الأخرى، فلا نسعى أبدا لأن نضع أنفسنا مكانهم، نمتنع عن التساؤل عما إذا كانوا غير مخطئين تماماً حول هذه المسألة أو تلك، ولا نسمح لأنفسنا أن نتأثر بشكاواهم وآلامهم والمظالم التي كانوا ضحيتها. ما يهم هو وجهة نظر جماعتنا فقط، التي غالبا ما تكون وجهة نظر أكثر الناس تشدداً في الجماعة وأكثرهم ديماغوجية وسخطاً”.

أما في الفصل الثاني (عندما تأتي الحداثة من عند الآخر)  يرى الأستاذ أمين معلوف أن الدراسات والآراء التي تتحدث عن مدى تأثير الأديان والعقائد على الأفراد والشعوب ، ما هي إلا دراسات تقود إلى نظرة أحادية للواقع، مما تؤدي إلى تشويهه  ، وتالياً ضبابية النتائج التي قد تتأتى عن تلك الدراسات، وعليه يتناول في الفصل من كتابه، مدى تأثير الشعوب والتاريخ على الأديان والعقائد، إذ يرى معلوف أن جميع الأديان والعقائد قادرة على استيعاب متطلبات عصرها والتّطور، ويُورِد معلوف العديد من الأمثلة التاريخية على هذا التأثير، إذ يرى أن كل عقيدة أو ديانة في كل عصر تحمل بصمات عصرها وزمانها ومكانها، وإن تقييم التصرفات الناجمة عنها يتم وفقاً لقرنها ومدى قدرة المجتمع على تطوير الديانة.

“عندما تحمل الحداثة علامة “الآخر” لا يكون مفاجئاً أن نرى بعض الأشخاص يرفعون شعارات السلفية من أجل تأكيد اختلافهم، وهذا ما نشاهده اليوم عند بعض المسلمين من الرجال والنساء، لكن هذه الظاهرة ليست وقفاً على ثقافة أو ديانة.”

 و يبين في هذا الفصل كذلك ما هو مطلوب من الشعوب المتخوفة والمناهضة للحداثة المتمثلة بظاهرة العولمة مؤكدا ضرورة أن تناضل هذه الشعوب وتنخرط وتتفاعل في إثبات خصوصياتها واختلافاتها ضمن مفاهيم التنوع والغنى، وبعيداً عن الانغلاق والتصادم. وتبرز برأي الكاتب في هذا الصدد، مسألة اللغة الوطنية، في مقدمة التحديات التي يجب مواجهتها، كونها من أكثر عناصر الهوية منافسة للدين. فاللغة الخاصة بكل من شعوب الأرض جديرة بالحماية التامة، لأنها الانتماء الأكثر تجذراً على مر العصور ولأنها حاجة أساسية للإنسان لا يمكن أن يعيش بدونها حتى لو أمكنه أن يعيش من غير دين محدد، وكما أنها بعكس الدين عامة وليست حصرية إذ بإمكان الفرد أن يمتلك عدة لغات ولا يمكنه أن يعتنق أكثر من دين واحد. ولو تمكنت أوروبا الساعية إلى الاتحاد والتكتل، أن تتفق دولها على عملة واحدة أو دستور واحد أو نظام اقتصادي أو سياسي واحد، لكنها قطعاً لا يمكنها أن تتجاوز مسألة اللغة الوطنية لكل دولة من دولها. ويخلص الكاتب إلى التأكيد على مركزية الرؤية التي يتبناها والقائمة على الدعوة للمحافظة على التنوع الخاص بكل فرد وتحويل الانتماء المزدوج لدى اي منهم إلى فعل تلاق مع الثقافات الأخرى دون تمزق أو تردد أو خوف.وإذ يعلن الكاتب بصوت عال اعتزازه بانتمائه المتعدد ، فلكي يدعو إلى القضاء على زمن القبائل من اجل إقامة السلم الاهلي ولكي يعطي لهويته وهويات الآخرين بعداً إنسـانياً أكبر وأشمل.

يتساءل الأستاذ أمين في بداية الفصل الثالث: (زمن القبائل الكونية) عن الأسباب التي أدت بالمجتمعات على اختلاف أصولها في شتى أنحاء العالم على تنامي الانتماء الديني لديهم وتأكيده بطرق مختلفة في هذه المرحلة، في حين تراجع هذا الانتماء فيما سبق، ويُرجع ذلك إلى أسباب عدة منها: تراجع العالم الشيوعي ثم انهياره، الأزمة التي تصيب النموذج العربي، والمأزق التي آل إليها حال مجتمعات العالم الثالث. كما يُؤكِّد على تنامي وتطور مختلف مجالات الاتصالات و”ما اتفق على تسميته بالعولمة”، إذ أن المعارف تتقدم بصورة سريعة جداً يواكب هذا التقدم انتشار لهذه المعارف مما يجعل المجتمعات الإنسانية أقل تمايزاً، مما يدفع بالبعض أن يدافع عن عناصر هويته الأهم برأيه مثل اللغة والدين، كرد فعل ليؤكد على اختلافه ويدافع عن هذا الاختلاف. ومن هنا يعلِّل الأستاذ أمين تسمية “زمن القبائل الكونية”، إذا يرى أن جماعات المؤمنين في مضمون هويتها أشبه (بالقبائل)، وفي سرعة انتشار أفكارها (بالكونية). ويضيف غالباً ما ينزع المرء إلى التماهي مع أكثر انتماءاته تعرضاً للتجريح. وحين لا يقوى على الدفاع عن نفسه أحياناً، يخفي هذا الانتماء الذي يبقى متوارياً في أعماقه، قابعاً في الظل، ينتظر ساعة الانتقام. وسواءً اضطلع المرء بهذا الانتماء أم قام بإخفائه، سواءً تحفظ عن إعلانه أم جاهر به على الملأ، فهو يتماهى معه، وعندها، يسيطر هذا الانتماء المستهدف ـ اللون، الدين، اللغة، الطبقة الاجتماعية.. ـ على الهوية بكاملها، ويولِّد تضامناً لدى الأشخاص الذين يتقاسمونه، فيجتمعون ويتحركون ويشجع بعضهم بعضا، ويهاجمون “الفريق الآخر”. ويصبح “تأكيد الهوية” بالضرورة فعلاً شجاعاً وعملاً تحريرياً… ومن الطبيعي أن يبرز في كل جماعة مضطهدة محرِّضون يتميزون بشراستهم أو انتهازيتهم، فيروِّجون خطاباً ديماغوجياً يبلسم الجراح، ويعتبرون أنه لا يجب استجداء احترام الآخرين لأن هذا الاحترام حق مكتسب، بل يجب فرض هذا الاحترام على الغير، ويعدون بالنصر أو بالانتقام، يلهبون المشاعر، ويلجأون أحياناً إلى الوسائل المتطرفة التي قد يحلم بها سراً بعض إخوانهم المضطهدين. وهكذا يكتمل الإطار ويمكن للحرب أن تندلع. ومهما حصل، يكون “الآخرون” قد استحقوا عقابهم، و”نحن” لا ننسى “كل ما جعلونا نقاسيه” منذ فجر التاريخ ، كل الجرائم، كل الانتهاكات، كل الإهانات، كل المخاوف، كل الأسماء والتواريخ والأرقام.

و بشأن الحلول يقول الأستاذ أمين  لست بصدد اقتراح حل عجائبي، فأنا لم أعد أؤمن لا بالحلول ولا بالهويات التبسيطية. فالعالم آلة معقدة لا يمكن تفكيكها بسهولة، ولكن هذه الحقيقة لا يجب أن تمنعنا من المراقبة ومحاولة الفهم والافتراض والمناقشة واقتراح هذا المنحى التحليلي أو ذاك في بعض الأحيان. أما المنحى التحليلي الذي يستشف في هذا الكتاب فيمكن صوغه كما يلي: إذا كان البشر في كل البلدان، ومن كل الطبقات وكافة المعتقدات يتحولون بسهولة فائقة إلى قتلة، وإذا كان المتطرفون من كل المذاهب ينجحون بسهولة بالغة في فرض أنفسهم كمدافعين عن الهوية، فذلك لأن المفهوم “القبلي” للهوية الذي لا يزال سائداً في العالم أجمع يشجع هذا التدهور، وهو مفهوم متوارث عن النزاعات الماضية قد يرفضه الكثيرون منا لو نظروا إليه عن كثب، ولكننا لا نزال نعتنقه بحكم العادة، أو بسببب افتقارنا إلى الخيال، أو إذعاناً منا للأمر الواقع، مساهمين بذلك، عن غير قصد، في المآسي التي سوف تحرك في أعماقنا غداة وقوعها مشاعر صادقة من الأسى والتأثر. وعلاوة على ذلك، وهنا يكمن أهم جانب تجدر الإشارة إليه اليوم. فاللغة الإنتمائية واللغة العالمية لا تكفيان في عصرنا الراهن، ويجب على كل الناس الذين يملكون الوسائل والسن المناسبة والقدرات، الذهاب أبعد من ذلك.

و في الفصل الرابع (ترويض الفهد ) يقول الأستاذ أمين كدت أن أضع لهذه الدراسة عنواناً مزدوجاً: الهويات القاتلة أو ما السبيل لترويض الفهد. لماذا الفهد؟ لأنه يقتل إذا ما تعرض للاضطهاد، ويقتل إذا ما سنحت له الفرصة، والأسوأ هو إطلاق سراحه بعد إصابته، ولأنه قابل للترويض تحديداً. وهذا ما كنت أريد قوله قليلاً في هذا الكتاب عن الرغبة الانتمائية، أنه لا يجب التعامل مع هذه الرغبة لا بالاضطهاد ولا بالتساهل بل مراقبتها، ودراستها بهدوء، وتفهمها، ثم ترويضها وتدجينها لو شئنا ألا يتحول العالم إلى غابة، وألا يشبه الغد أبشع صور الماضي، وألا يضطر أبناؤنا، بعد خمسين أو مائة عام، أن يشهدوا المجازر والترحيل وغيرها من أشكال “التطهير”، أن يشهدوها مثلنا عاجزين بل ويقعون أحياناً ضحاياها. وقد فرضت على نفسي  كلما دعت الحاجة أن أذكر الوسائل التي قد تهدئ من روع “الفهد”، لا لأنني أملك حقائق تخولني القيام بذلك، بل لأنني، ومنذ أن شرعت بهذه الدراسة: لم أعتبره تصرفاً مسؤولاً أن أكتفي وأعدِّد الشروط الضرورية بل أن أشير كذلك على مر الصفحات، إلى بعض الطرق التي تبدو لي واعدة، وبعضها الآخر الذي يتراءى لي مسدوداً. غير أن هذا الكتاب، بالرغم من ذلك، ليس دليلاً للعلاجات الشفائية. فعندما يتعلق الأمر بحقائق بالغة التعقيد والاختلاف، لا يمكن نقل أي صيغة كما هي من بلد إلى آخر. وقد استعملت كلمة “صيغة” عن قصد لأنها في لبنان تتكرر دائماً في الأحاديث للدلالة على التسوية التي تتوزع بموجبها السلطة بين الطوائف الدينية الكثيرة. وأنا أسمعها حولي منذ حداثتي، بالإنكليزية والفرنسية، ولاسيما بالعربية، وهي كلمة تذكر بصياغة الحلي. وتستحق “الصيغة اللبنانية” في ما تحمله من خصوصية، دراسة مطوَّلة، ولن أذكرها في هذا المقام إلا من أجل طابعها على الأقل خصوصيةً والأكثر نموذجيةً وقدوةً، ليس بصفتها لائحة تضم حوالي عشرين جماعة لا تزال تسمى “طوائف”، بمساراتها الخاصة ومخاوفها الأزلية وصراعاتها الدموية ومصالحاتها المدهشة، بل فقط من حيث فكرتها التأسيسية ومفادها أن احترام التوازنات يجب أن يتأمن بنظام محاصصة دقيق.

ويتساءل الأستاذ أمين معلوف: عندما يشعر سكان إحدى الدول أنهم ينتمون إلى جماعات مختلفة ـ دينية ولغوية وإتنية وعرقية وقبلية وغيرها ـ، كيف يجب إدارة هذا الواقع؟ هل تؤخذ هذه الانتماءات في الحسبان؟ وإلى أي حد؟ هل يجب أن نتجاهلها بالأحرى ونتصرف كما لو أننا لا نراها؟  تبدو الأنظمة الديكتاتورية “العلمانية” المزعومة موائل للتطرف الديني، فالعلمانية دون ديمقراطية كارثة للديمقراطية وللعلمنة على حد سواء… إن الاعتراف داخل المجتمع الوطني بعدد من الانتماءات ـ اللغوية والدينية والإقليمية، الخ.. ـ غالباً ما يخفف حدة التوترات ويصحح العلاقات بين الفئات المختلفة من المواطنين. ولكن هذه العملية دقيقة ولا يمكن الخوض فيها بسطحية لأن أشياء بسيطة تحدث قد تؤدي إلى عكس ما نتوخاه. فنحاول تسهيل اندماج إحدى الأقليات، ونكتشف بعد عشرين عاماً أننا وضعناها في غيتو لا تستطيع الخروج منه؛ وأننا، بدلاً من تصفية الأجواء بين الفئات المختلفة من المواطنين، قد أنشأنا نظاماً لا ينتهي من المزايدات والاحتجاجات والمطالب الحقودة مع سياسيين جعلوا منها علة وجودهم وخبزهم اليومي. تتسم كل ممارسة تمييزية بالخطورة حتى لو كانت تجري لصالح جماعة قد عانت وذاقت الأمرين، ليس فقط لأننا نستبدل ظلماً بظلم ونعزز الحقد والريبة، بل لسبب مبدئي أكثر خطورة في اعتقادي: فطالما أن موقع الفرد في المجتمع سوف يبقى مرتبطاً بانتمائه إلى هذه الجماعة أو تلك، نكون كمن يعمل على استمرار نظام فاسد لا بد أن يعمِّق الانقسامات؛ ولو شئنا تقليص أشكال التفاوت والظلم والنزاعات العرقية أو الإتنية أو الدينية أو سواها، فالهدف العقلاني الوحيد، وكذلك الهدف المشرِّف الوحيد، يقوم على السعي من أجل أن يعامل كل فرد كمواطن كامل بغض النظر عن انتماءاته. وبالطبع لا يمكن تحقيق هذا الهدف بين عشية وضحاها، ولكن هذا ليس سبباً لتوجيه العربة في الاتجاه المعاكس. لقد أدت مساوئ نظام “الطائفية” إلى الكثير من المآسي في مناطق عديدة من العالم بحيث برَّرت الموقف المعاكس الذي يفضِّل تجاهل الاختلافات والاستناد في كل شيء إلى حكم الأكثرية المعروف بأنه لا يخطئ.

ويقول:وعندما تعاني إحدى الأقليات من القمع، لا يحررها الاقتراع العام بالضرورة بل قد يضيق عليها الخناق ويجب الكثير من السذاجة ـ أو، على العكس، الكثير من اللؤم ـ للتأكيد على أن إعطاء السلطة للأكثرية يؤدي إلى التخفيف من معاناة الأقليات. وما جرى في العديد من البلدان في السنوات الأخيرة يجب أن يثير ريبتنا كلما استعمل مفهوم ذو طابع عالمي في إطار نزاع يحمل طابعاً يتعلق بالهوية.

لإحلال الديمقراطية ، يجب تداول الآراء في مناخ من الهدوء النسبي، ولتكتسب الانتخابات معنى، يجب أن يحل الاقتراع الواعي الذي يشكل التعبير الحر الوحيد محل الاقتراع الآلي، الاقتراع الإتني، الاقتراع المتطرف، الاقتراع الانتمائي. وما أن نكون في منطق طائفي أو عنصري أو توتاليتاري، لا يقوم دور الديمقراطيين، في كل أرجاء العالم، على إعطاء الغلبة لميول الأكثرية بل على احترام حقوق المستضعفين، ضد قانون العدد لو اقتضت الحاجة. إن ما هو مقدس في النظام الديمقراطي هو القيم وليس الآليات. وما يجب احترامه بالمطلق ودون أي تنازل هو كرامة البشر، نساءً ورجالاً وأطفالاً، بغض النظر عن معتقداتهم أو لون بشرتهم أو أهميتهم العددية، ويجب تكييف نظام الاقتراع مع هذا الشرط. إذا أمكن للاقتراع العام أن يمارس بحرية دون الإفضاء إلى الكثير من الإجحاف، فلا بأس، وإلا يجب اللجوء إلى الضوابط. وقد لجأت كل الأنظمة الديمقراطية الكبرى إلى هذه الضوابط بين الحين والآخر.

نبذة عن المؤلف:

    بعد فراغي من قراءة كتاب الهويات القاتلة الذي أعجبني كثيرا ، رأيت من حق المؤلف عليّ معرفته والبحث عن معلومات عنه أقدمه بها لقارئ ملخصي هذا ، فوجدت في الويكبيديا المعلومات التالية عنه.

   أمين معلوف أديب وصحافي لبناني ولد في بيروت في 25 فبراير 1949م  ، امتهن الصحافة بعد تخرجه من كلية الاقتصاد والعلوم الاجتماعية بالجامعة اليسوعية في بيروت فعمل في الملحق الاقتصادي لجريدة النهار البيروتية ، و في عام 1976م هاجر إلى فرنسا  حيث عمل في مجلة إيكونوميا الاقتصادية، واستمر في عمله الصحفي فرأس تحرير مجلة جون أريك ، وكذلك استمر في العمل مع جريدة النهار اللبنانية وجريدة النهار العربي والدولي وثم بعد ذلك تفرغ للكتابة.

فأصدر أول أعماله الحروب الصليبية كما رآها العرب عام 1983م ، وتوالت أعماله بعد ذلك  ونال عليها عدة جوائز أدبية فرنسية منها جائزة الصداقة الفرنسية العربية عام 1976م عن روايته ليوان الإفريقي ، وحاز كذلك على جائزة غونكور، كبرى الجوائز الأدبية الفرنسية، عام 1993م عن روايته صخرة طانيوس ، وقد نال كذلك جائزة أمير أوسرترياس للأدب في عام 2010م ، تميز مشروع أمين معلوف الإبداعي بتعمقه في التاريخ من خلال ملامسته أهم التحولات الحضارية التي رسمت صورة الغرب والشرق على شاكلتها الحالية.

شاهد أيضاً

تهنئة

بمناسبة عيد الفطر المبارك تتقدم رابطة ابناء المنخفضات الإرترية للشعب الإرتري الأبي بأصدق التهاني القلبية …

الاعلام بين الماضي والحاضر

بقلم محمد نور موسى ظهر الإعلام الإرتري مع ظهور الحركة الوطنية الإرترية في مطلع أربعينات …

من مواضيع مجلة الناقوس-العدد التاسع

سعدية تسفو فدائية من جيل آخر! نقلا من صفحة الاستاذ ابراهيم حاج لترجمته من كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *