الهروب بالأحلام

مريم صالح

قبلتني وسبق دمعها دعاؤها:

_هاتفيني عند وصولك.. أدارت ظهرها ثم التفتت في غفلة مني وأشارت بالسبابة إلى عينيها فأومأت موافقة لها..

داخل ظلامٍ دامس ترجّلت خطواتنا مُسرعة بلا صوت هناك ضجيج خائف كاد أن يفسد فرحة المغادرة، كف كل واحد منا تعانق الأخري، أحسست بالأمان والمدن تبتعد، نقترب من الحلم بكل خطوة والكل يحمل ثقل أيامه الماضيات على ظهر قلبه ويجره لأيام جديدة….

همس قائلا:

_أنت الزهرة التي تنبت حلما متوردا، وجودك جانبي هو ذات الأمنية.

ابتسمت وشيء من الخوف يلامس جدار قلبي وفي لحظةٍ ما خفت أن أفقده، انحدرت دمعة مالحة وساخنة

بت أشعر أنه لا حالٌ يسُّر ولا روحٌ هانئة..

نبتعد، تبتعد الذكريات، كل الأشياء التي كانت تعنينا أصبح بيننا وبينها حيزا وفارقاً من الوقت.

أشار الجمال الأحمق ذو الملابس الرثة، الذي ساومنا على مبلغ باهظ مبررا أنه تحت أي لحظة يمكن أن يقبض عليه ويصبح دودة تحت الأرض “اخفضوا أصواتكم، اكتموها”

 أمرنا بأن ننقسم إلى فوجين ونمشي على مسافةٍ من بعضنا !

“هنا يميناً يوجد طريق كثيف الأشجار وبه أشواك، لا تميطوها لكي لا تبين آثار أقدامكم. وعلى حدود كيلو متر ربما نلتقي تحت شجرة كبيرة ظليلة أسفلها حجر كبير بيضاوي أملس”.

سلكنا طريقنا بخوف لكن بحماس زادت حركتنا، أزحنا بقايا الرمم والأجساد التي عبرت حاجز الحياة الضيق في الليلة الفائتة، واحتمينا بحلكة الليل إلى غربة أخرى فالطريق إلى الشجرة ماكان إلا نفقا نجتر فيه أشياءنا التي تضاهينا والأمل ضوء على آخره.

_طقس سيء وفصل من فصول حياتنا أسوأ.

_ابتسم لكن الحياة ليست بسيئة

حاولي أن تتطلعي بثقب إبرة إلى آفاق بعيدة

_ كيف يستمد القلب قوته بعد أن أنسته الحياة أين تكمن القوه؟

ونحن نري آثار أقدام من سبوقنا الرحيل للوجه الآخر.

وآثار أحلام تساقطت هنا سهوا وأمنيات هلكت من طول الطريق، وقلوب افترقت:

_هنا طريق، أنت لا تختاره بل قدرك يرسم لك خارطة لاتشبهك ..

_تأملي بأن في الغد حلولا لم نرها بعد.

_كيف ينفض المرء عنه غبار اليأس غبار آلام الابتعاد عن الوطن؟

لمحت في عينه شيء من يأسي ومن حزني.

_لم نقترب بعد توجد مسافه، قالها وتأفف!

لم نسترخ وبدت خطواته (الجمال) حتى اقترب

هيا – وبهذا تجنبنا الخطر

بخطوات لاهثة، نعيد الطريق مرتين لمجرد احتمال وجود جندي، شحبت وجوهنا ونحلنا ونحلت أحلامنا لا نعرف للنوم جفن ولا لفتات “الباني” الناشف طعم كل مايدفع همتنا نشوة الوصول والمغادرة لوطن يفي بوعده.

أسدل ستار ليل بارد والتحفت جذع شجره أخضر

قطعه لي عندما فركت يداي حين ارتجفت.

ثمة آثار أقدام وأُمنيات ماتت على حواف الحدود..

سألته: ألا يمكن لإنسان ما أن ينتعل نعلاً واحداً ؟ ثم نظرت في عينيه

_”اكيد لا، كما عيناك”

.لا يمكن تدمع إلا فرحاً ممسكاً بيداي، هنا الموت أو الخلاص

أجهشت باكية ولم أصمت إلا عندما بانت وعثاء السفر على أحدهم فتقيأ، وإلتففنا حوله وصببنا عليه آخر قطرات الماء التي بحوزتنا وحمله أحدهم وهو يئن، لوّح لنا راعٍ أسمر، مغبر الملابس طيب الملامح كأنه يعرفنا من قبل تهافتنا عليه وأسقانا ماءٌ طعمه مختلف.

_ يبدو أنكم من؟

لم يكمل سؤاله لم نجب عليه فأعيننا كانت خير دليل

على ضياعنا، يبدو أنه لم يتحمل قسوة المناخ ولا الابتعاد عن الوطن فتركه، مات حلما قبل أن يولد.

كل الرحلات التي قمت بها لمن قبلكم كانت لشباب في مثل

أعماركم، كانوا يساومونني أقل من السعر الذي أفرضه، كان يبتسم بخبث، وأردف:

وعند وصولهم اكتشفت أنهم كانوا حمقي، طماعين وضحك ساخرا. من شدة فرحتهم يهبونني كل مايملكون وسأنال منكم، كان يستغل فكرة الهروب بالأحلام ويحل لنفسه بيعها.

اليوم الخامس عشر على حدود خارطة لا تعرف مدى للرعاة، انتهى هنا وطن وبدأ وطن آخر بنفس الملامح ونفس السُحن ونفس البيئات!

تسقط الشمس ويتنحي الجمال ويختفي بعد أن يجمع غنائمه، انتهى ماء الجسد وبانت علينا آثار الجوع والعطش، أصبحنا مشوهي الأحلام، خارت القوة والقدرة على التحمل، نسير خلف بعض على شكل طابور انتظار يمشي ببطء مميت و هو غائر العينين مصفر الجسد يكاد ينفر الدم من أوردته، ترتجف يداه متورم القدمين حين سقطت حملني كنت أعد نبضات قلبه وهي تنخفض فتدنو مني ومن الخلاص

الكل أجمع على أن نمضي الليلة هنا إلا هو أصرّ على المضي قدما للحلم مشيا على الأقدام.

_ اقتربنا من الحلم.

يكمل حديثي سيكتمل بإذن الله ويبتسم بتفاؤل

وتفاصيل وجهه الوسيم صارت شاحبة ومال لون عينيه لاصفرار غامق كما تتكدس فيها حكايات، وبانت عليه تفاصيل الرحيل الأبدي ونحن نقترب من الحلم بخطوة

وعند مفترق الحدودين زبلت الوردة التي أهدتني رحيقها دفنت أمنية كانت في القلب تكبر مع العمر ملاذي الآمن فقدته أشيائي التي أحبها، تلاشى الحلم الذي تشبثت به وأصبح ندبةً عميقة من جرح رسمها الحظ والقدر.

وفي وطن آخر اعتدت الحزن ووحدة الأبدية.

(إلى الذي خبأته بين أضلعي اليوم أفصح أنا هشة دونك)

 

نقلا عن مجلة الناقوس الثقافية العدد السادس

شاهد أيضاً

مواضيع مجلة الناقوس – العدد العاشر- شخصية العدد

الشهيد سليمان ادم سليمان.. عاش انسانا ومناضلا.. أعده / الأستاذ محمود أفندي تغوص بك عزيزي …

من مواضيع مجلة الناقوس العدد التاسع – الملف الثقافي

قصة قصيرة دروب مجهولة (٢) بقلم أبو محمد صالح  صمت الجميع، صمت أعقبه صراخ، الكل …

مواضيع مجلة الناقوس العدد التاسع-الملف الثقافي

مَن الذي اخترع الربابة البجاوية.. ولماذا اسماء اوتارها بالبداويِّت وليست بالتقرايت؟ بقلم عبد العزيز ابراهيم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *