الفاتح من سبتمبر درس في الإرادة

بقلم: محمود أفندي

يحتفل الشعب الإرتري في كل عام بذكرى انطلاقة الكفاح المسلح الذي فجر شرارته القائد الشهيد البطل حامد إدريس عواتى ورفاقه الميامين من الرعيل الأول الذين وهبوا أرواحهم فداءً لهذا الوطن مخططين لنا بداية الطريق نحو الحرية والاستقلال في الفاتح من سبتمبر من عام 1961م.                                  

ومن جبل أدال بدأت فكرة تحرير الأرض والإنسان من الاستعمار الإثيوبي الغاشم بإرادة وعزيمة لا تلين وطرد المعتدي المدعوم دوليا أمام قلة من الرجال وعتاد زهيد من السلاح الأبيض وبندقية عواتى التي أشاعت الكفاح المسلح، حيث توافد الشعب اتجاه ثورته المسلحة ومن هنا خلقت الثورة شعبا تجاوز كل الفتن التي كان يمارسها الإمبراطور هيلي سلاسى ضد هذا الشعب الأعزل وإفشال كافة المحاولات التي كانت تحاك ضده. كل هذه المؤامرات زادت شعبنا إيمانا وقوة وصلابة جعلته يختار طريقا وعرا تمكن من خلاله كسر ظهر المعتدين وإجبارهم راكعين لرغباته بعد مقارعة دامت ثلاثة عقود، قدم فيها شعبنا أروع الأمثلة في ساحات الوغى واهبا فيها مئات الآلاف من الذين سقطوا في كل شبر من هذه الأرض وسقوا شجرة الحرية بدمائهم الطاهرة في معركة العز والكرامة إلى أن تحقق الاستقلال المجيد في العام 1991م

                                      

بالرغم من أن الشعب الإرتري هزم الأعداء شر هزيمة، وتوج كفاحه التحرري المسلح بتحرير كامل التراب الإرتري ، إلا أنه ظل يعيش المأساة والمعاناة جراء ممارسة نظام عصابة “الهقدف” الذي مارس كل  أعمال البطش والتنكيل من القتل والسجون والإقصاء والتمييز والتهجير القسري والذي حول حياة آلاف الشباب إلى جحيم مما جعلهم يغادرون البلاد مجبرين، فاختاروا الهروب من الأرض التي ضحى إخوانهم وآبائهم من أجل أن يعيشوا فيها بكرامة وعز، لكن وبسبب هذا النظام التعسفي ظل الشباب يقرر الهروب بأي ثمن وأي وسيلة مهما كلف الأمر للوصول إلى دول الجوار ومناطق أخرى في شتى بلاد العالم ، حيث أصبحوا سلعة رخيصة في أيدي عصابات الإتجار بالبشر والموت الجماعي في الصحاري والبحار، ونتج جراء هذا الهروب أيضا  تفكيك وانهيار النسيج الاجتماعي للأسرة الإرترية التي فقدت من يقدم لها الدعم النفسي والمعنوي والمادي وخلو البيت من الأب  الذي أصبحت مهمته أن يضيع جل وقته فيما يسمى بالدفاع الشعبي في مهمة تقوم على حراسة الشوارع والمؤسسات بعد إخلاء النظام المدن من العسكر خاصة العاصمة اسمرا والذي نتج جراء الخوف من تكرار محاولة إنقلاب عسكري كالتي قامت بها حركة فورتو بقيادة الشهيد سعيد علي حجاي (ود علي) والتي شكلت تهديدا حقيقيا لنظام العصابة الطائفية الحاكمة                

 كما لا يخفى على الجميع أن الشباب ومنذ عام 1994م أدخلهم النظام في دوامة خدمة العبودية التي ليس لنهايتها أي سقف زمني عكس ما هو عليه الحال في كافة بلدان العالم، إضافة إلى تزوير التاريخ والقيم وانتشار انعدام الثقة في أوساط المجتمع وضعف روح الوحدة الوطنية من خلال الانتهاكات المستمرة اتجاه حقوق شعبنا في المنخفضات وحرمانه من الأراضي المملوكة له وحتى التابعة للرعي بتوزيعها على المزارعين القادمين عن طريق الهجرة المنظمة من المرتفعات إلى المنخفضات الشرقية والغربية مما أدى إلى تهجير الناس ومواشيهم على حد سواء. ولم يسلم من هذا الظلم حتى رفاق عواتى وصناع الفاتح من سبتمبر  فمنهم من يقبع في غياهب السجون ومصيرهم مجهول منذ السنوات الأولى للتحرير فك الله أسرهم، ومنهم من هاجر وعبر القارات بعيدا عن  هذا الوطن الذي وهبوه كل شبابهم، والبعض تم تهميشهم ولسان حالهم المناضل العم شلال محمد رحمة الله عليه ، الذي التقيته في مقر إقامته قبل أكثر من عشرة أعوام بمنطقة فورتو ساوا لإجراء مقابلة بمناسبة ذكرى سبتمبر وذكرياته مع القائد عواتى، فوجدته جالس أمام كوخ من القش يمكن أن تدخل عليه من أكثر من مدخل نظرا لتهالكه، تبادلنا التحية وحاول إكرامنا رغم كبر سنه، لكنني كنت أشعر بالحزن لحاله، وبدأت محاولة الدخول مباشرة في أجواء المقابلة، بالفعل بدأت السؤال الأول عن حديث ذكريات سبتمبر ورفيقه عواتى، انتظر قليلا ونظر إلى الأرض ومسح بيده اليمنى التراب، حيث نطق قائلا وبكل هدوء (الحمد لله لم يحضر عواتى واستشهد قبل أن يرى هذه المآسي) سألته وأنا أيضا أعيش لحظات من الألم من جهة وأن لا أعود خالي الوفاض لمجلة “صوت ساوا” التي كنت أود نشر تلك المقابلة فيها من جهة أخرى وفي هذه اللحظات أيضا أصابني الإحباط نظرا للموافقة التي وجدتها بصعوبة لإجراء هذه المقابلة من إدارة المجلة لكونها كانت شبه رافضه فكرة الحوار مع العم شلال بحجة أن الرعيل تحدثوا بما فيه الكفاية ولابد من إجراء مقابلات مع الشباب أو مع أفراد من القوات المسلحة. عموما كنت أكثر إصرارا بحجة أن الرجل لم يلقى نصيب من المقابلات مع إنني كنت أدرك أن الاعتراض على المقابلة ينبع من الحقد ولهذا كان لابد أن ألح على إجراء المقابلة مع العم شلال وبعد جهد جهيد تمت الموافقة.                                                         

 بدأت ألملم أطراف كافة المعاناة والمشاهدات من جهة وأن أرى حال أحد رجالات الرعيل ورفيق عواتى بهذا المنظر يعيش وحيدا وهو يفتقد كل شيء من مقومات الحياة يسكن في أطراف قرية بعيدة كل البعد عن أقرب مدينة، أدهشتني كل هذه المشاهدات لكنني حاولت أن أطرح السؤال مرة أخرى وبشكل يطيب الخاطر لمواصلة المقابلة من جديد لكنه رد قائلا (يا ابني التاريخ الذي تريده لقد سرق ولا أريد الحديث في شيء تمت سرقته، لكن لا مانع أن نقول ما نعلمه أرجو أن لا يطول حديثكم). ازداد إحساسي بالقهر وبدأت تلك الكلمات تدور في ذاكرتي، وبدأت معه المقابلة لكنني تأثرت كثيرا بهذه العبارات التي قالها، رغم أنني كنت على علم بأن “الهقدف” ومنذ فترة الكفاح المسلح  لا يعترف بهذه الذكرى الغالية لو لا أن فرضتها عليه الظروف في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وخير دليل على ذلك  الاحتفالات التي يقيمها  بذكرى الفاتح من سبتمبر من كل عام والتي لا تليق بها وتَعْبُر وكأنها أشبه بمناسبات  يوم الملاريا أو حملات إصحاح البيئة، حيث يتم الإحتفال بها على مضض، وبطريقة لا تليق بمكانة وعظمة هذه المناسبة المجيدة على نفوس الشرفاء من الإرتريين وبهذا اليوم التاريخي الذي هز أركان الإمبراطورية الإثيوبية، وكنا نكتشف كل صباح أن التاريخ سرق أولا وسرق أيضا الوطن من بعده.

.

نقلا عن مجله الناقوس الثقافية العدد الثاني

 

:

:

شاهد أيضاً

مواضيع مجلة الناقوس – العدد العاشر- شخصية العدد

الشهيد سليمان ادم سليمان.. عاش انسانا ومناضلا.. أعده / الأستاذ محمود أفندي تغوص بك عزيزي …

من مواضيع مجلة الناقوس العدد التاسع – الملف الثقافي

قصة قصيرة دروب مجهولة (٢) بقلم أبو محمد صالح  صمت الجميع، صمت أعقبه صراخ، الكل …

مواضيع مجلة الناقوس العدد التاسع-الملف الثقافي

مَن الذي اخترع الربابة البجاوية.. ولماذا اسماء اوتارها بالبداويِّت وليست بالتقرايت؟ بقلم عبد العزيز ابراهيم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *