اضاءات حول انتفاضة (أكتوبر)

ثورة الشعب الإرتري في اسمرة وكيف تجلت واثمرت فلسفة النضال المدني.

أبو عثمان –

بالرغم من كل الآهات والجراح وتراكم المظالم والقيود والأغلال وكل وسائل القمع وأساليبه المتعددة وكل ممارسات طمس الهوية وفرض الهيمنة القومية – بكل أبعادها الثقافية لغة ودينا واقتصادا – لمكوّن معين على كل مكونات الوطن الأخرى بسياسة الحديد والنار وبالقضاء على كل من يقف أمام هذا النهج ويرفض أو يُظهر عدم القبول به بالقتل أو السجن أو الإخفاء أو الإبعاد بشكل ممنهج وخلال قرابة الثلاثة عقود. إنها رحلة المتاعب والعذاب الثانية التي فُرضت على الإرتريين ومن كُتبت عليه الأقدار مشاها.

حيث كانت الرحلة الأولى أطول، نضال تحرري خاضه الشعب الإرتري استمر لمدة 30 عاما دفع فيها فواتير ضخمة، أرواحا واشلاءً ودماءً ودموع وتشرد ولجوء. إنه شعب أسطوري وخارق للعادة وفولاذي وعميق الجذور لا تقتلعه العواصف ولا تهزه الزلازل، إنه شعب معجزة رغم كل الانكسارات أحيانا والانتصارات أحيانا أخرى ورغم غياب الامكانات والقدرات والدعم الخارجي والحليف والسند في ظل التآمر الخارجي عليه من القوى العظمى نتيجة لمصالح الإمبريالية وربيبتها إسرائيل نسبة لموقع إرتريا الاستراتيجي على البحر الأحمر الذي كان وبالا على شعبها وأضاف إليه المتاعب نتيجة لدور الكنيسة الأرثودوكسية بشقيها الاثيوبي والإرتري في الترويج والحشد بأن استقلال إرتريا سيشكل خطرا على الكنيسة وسيكون خصما على مصالح أتباعها. دعم هذا التوجه العالم الغربي في فترة تقرير المصير وفِي مرحلة الثورة دعمت الدول الغربية ومكنت الجبهة الشعبية ذات الغالبية والطابع المسيحي في ارتريا وجبهة تحرير شعب تجراي المسيحية في اثيوبيا.

ثم جاءت مرحلة ميلاد الدولة الإرترية في العام 1991 بعد كل المتاعب التي ذكرت ورغم أن الكل كان مرهق ومتعب من مسيرة النضال واللجوء الطويل استبشر خيرا متخيلا ذلك السراب ماءً وإنه سوف يطوي السنين العجاف وينسى جراح الماضي وآهات التشرد ولكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن وبدأ تنفيذ أجندة مشروع الهيمنة القومية “نحنان علامانان” الذي كانت بوادره تلوح في الأفق في مرحلة ما قبل التحرير لمن أمعن النظر في سلوك وممارسات طاغية العصر اسياس وعصابته وهو لا زال في أو دية وتلال الساحل حيث خطط بعناية ونفذ بعض المخططات، منها:

إبعاد بعض الرموز المهمة من أبناء المسلمين عن المشهد.

ضَرَب كل القوى ذات التوجه الوطني والثقافة العربية والخلفية الإسلامية في الثورة الإرترية والتحالف مع عمقه الاجتماعي والديني والثقافي في أثيوبيا (تقراى).

إبعاد اللغة العربية في مرحلة الثورة ومحاربتها وسط المقاتلين في الجيش الشعبي وفى المناطق المحررة واستخدام الضروري منها في معركته العسكرية عبر الإذاعة في ذلك الوقت أو الإعلام الموجه إلى الشتات الإرتري في المنطقة العربية.

دق إسفين الخلافات وزرع التناقضات بين تنظيمات الثورة والمكونات الإرترية الأخرى والعمل على خلق حواجز كبيرة بينهم عبر استخباراته الجاسوسية المتمرسة جدا وباغتيال الرموز والشخصيات الوطنية الفاعلة مثل عجيب وحسب وهنقلا، إلى آخر القائمة.

هذه بعض الاضاءات حول نشأة وتطور ونمو نظام الهيمنة القومية في إرتريا وهذا ليس موضوع حديثنا. وبالرجوع الى ملحمة (اخريا) ومدرسة الضياء ومدير مجلس إدارتها الشيخ موسى محمد نور ولعمل بعض الاسقاطات والاضاءات عليها، نسلط الضوء على النقاط التالية:

مدنية هذه الانتفاضة وجدواها وأثرها في نفسية الإرتريين التي عشعش عليها الانكسار والاستسلام والإحباط وأثرها البالغ في ضرب منظومة العصابة وتعريتها وإحراجها حيث سقطت جميع الأقنعة وكشفت السوءات والْهَبَت مشاعر كل الأحرار في الداخل والخارج.

إن الرسالة التي أطلقها الشيخ الوقور موسى محمد نور من داخل باحة مدرسة الضياء الإسلامية على بعد عشرات الأمتار من مقر إقامة الطاغية وعلى مشهد ومسمع من زبانيته من القتلة والمأجورين والساقطين وصرخات الله أكبر من حناجر الفتيات اليافعات في مدرسة الضياء زلزلت الطاغية ونظامه وأفقدته عقله وصوابه وكانت صدمة له بكل المقاييس وكانت رسالة بليغه عجزت عنها العشرات من فصائل المعارضة الإرترية مجتمعة ومتفرقة. وهذا ما يجعلنا نقف كثيرا ونتأمل ونستخلص العبر من الدرس ونتساءل كثيرا كيف حدث ذلك؟ وهل كنا نتوقع خروج جماهير إرترية بهذا الشكل وداخل الوطن السجن؟ كل هذا يؤكد حقيقة واحدة وهي أن الوعي الجمعي بالحقوق والإدراك يُحَفِّز على الدفاع عنها بالوسيلة المتاحة وابتكار وسائل جديدة. كما يؤكد على أهمية وفعالية العمل المدني الواعي والمستنير والمنظم الذي تبنته رابطة أبناء المنخفضات الإرترية في وثيقتها.
إن انتفاضة (أخريا) مدنية 100% ولهذا قد تميزت كثيرا على جميع الأحداث التي سبقتها مثل (فورتو) وغيرها مع إنها لم تطلق فيها طلقة واحدة من جانب أطفال وآباء وأمهات مدرسة الضياء. وهذا

لا يعنى التقليل من دور العمل المقاوم العنيف إن وجد.
إذن، العمل المدني مكمل وأساسي في كل معارك التغيير التي نأملها ونرجوها.
إن وجود وبناء الإنسان الواعي والمدرك لحقوقه وواجباته يظل ضرورة قصوى ولبنة أساسية في كل عمليات التغيير القادم وهذا عين ما أكده مفجر هذه الانتفاضة الشيخ الجليل موسى محمد نور حين قال: “إننا لا ندافع عن حجر واسمنت، وإنما ندافع عن دين وقيم”.
كسر الحاجز الإعلامي ورفع الستار عن كل جرائم العصابة وكسر حاجز الخوف والرعب الذي خلقه النظام في أو ساط المجتمع. حيث تناولت معظم وكالات الأنباء العالمية والإقليمية الحدث ومن خلاله سلّطت الضوء على الجرح الإرتري الغائر والنازف والوجع المزمن وهذا ما أفقد النظام ما تبقى له من ماء وجه. لقد كان للحدث صداه في كل بقاع الوطن وفى العمق العربي والإسلامي المجاور وهذا ما افتقدناه سنينا عددا. حيث خصص عدد مقدر من أئمة المساجد في المنطقة خطبة الجمعة للأزمة الإرترية بكل أبعادها وهذه إحدى المكاسب التي يجب الحفاظ عليها وتطويرها.

نعم هذه الملحمة أوجدت واقعا جديدا وأحيت آمال ونفوس وفتحت آفاق وأكسبت الإرتريين تعاطفا واسعا كما إنها وحّدت جهود الإرتريين في الوطن والشتات وهذا هو المهم في الأمر.

إن تصرف نظام العصابة الطائفية العنصرية بهذه الطريقة العلنية والواضحة والصريحة وإقدامه على انتزاع حجاب الفتيات ومنع تدريس القرءان وإبعاد اللغة العربية عن المناهج قد كشف النوايا واختصر المسافة ووضّح الأهداف وكشف عن الوجه القبيح الحقيقي للهيمنة القومية فقد أصبح الآن الحال بَيِّن والحرام بَيِّن ولم يعد هنالك متشابه وهذه أجمل هدية يقدمها نظام الطائفة العنصرية البغيضة للشعب الإرتري عامة وللمسلمين الإرتريين خاصة.

بينما تابع الشعب الإرتري بكل فخر انتفاضة مدرسة الضياء في الداخل، قام النظام بقطع شبكة الاتصال ومنع تحرك الأفراد ونشر قواته حول جميع المدن وكثرت الاعتقالات على أساس الاسم والعقيدة ومنعت حركة السيارات وتم التحفظ على عدد كبير منها بحجة عدم الترخيص ومنعت حركة السفريات الداخلية بين المدن وأخرج بعض القيادات المحسوبة على المسلمين من الإقامة الجبرية أو من المتحف القومي مثل الأمين محمد سعيد ورمضان محمد نور إثر أحداث (فورتو) لعمل مسح في الداخل والخارج والتخفيف من آثار الصدمة ولإظهار التنوع والخداع.

أما الجيش فلازال غير موثوق به من جانب النظام وخاصة بعد أحداث (فورتو) ويتم التعامل معه بحذر وذكاء فالطاغية لا يمكن أن يظهر وسط الجيش وقد تم الاعتماد بالكامل على القوات الخاصة المعروفة ب (توروارى سراويت) وأجهزة الأمن والاستخبارات. كما أن الجيش يتعرض باستمرار إلى التنقلات وإعادة التشكيل وتغيير القيادات وقد سبقت هذه الأحداث (انتفاضة أخريا)، تعديلات واسعة في الجيش بالإضافة الى مشكلة الهروب الدائم التي ظل يعاني منها الجيش.

أملى كبير في مبادرات أبناء هذا الشعب العظيم العملاق من الشباب والرجال الابطال الذين هَبّوا في كل الساحات في الوطن والشتات لحظة صرخة الشيخ التسعيني ويافعات الضياء على أولئك تقع المسؤولية والأمل. وهنا أطلب وبشدة من كل الاحرار وحتى لا تضيع ثمرات الثورة التى أشعل فتيلها الشيخ موسى محمد نور وحرائر الضياء في (أخريا) التحرك والمواصلة في دعم الانتفاضة المباركة.

.
.
.

شاهد أيضاً

مواضيع الناقوس-العدد 11- مقابلة العدد مع المناضل/ عبدالله سعيد علاج

الجزء الأول أجرى الحوار: الصحفي محمود أفندي   تحاور مجلة الناقوس المناضل الكبير عبدالله سعيد …

شخصية العدد- المناضل المغييب محمد عثمان داير (الناقوس العدد 11)

       المناضل المغيب / محمد عثمان داير                   …

المنخفضات -تنخفض الأرض.. ترتفع الهمم (الناقوس العدد 11)

بقلم/ ياسين أمير الجغرافيا رسم الاله على صفحة الكون.. والجغرافيا ترسمنا حين نحسب أننا رسمنا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *