قصة قصيرة ـــــ ملوك ـــــ

عبد الله محمد إدريس هيتاي

رغم الآلام التي تواجهها أثناء الحركة بسبب رضوض في قدميها، حاولت جاهدة أن تعيد ترتيب حجرتها التي تصدعت جدرانها جراء القصف، وتناثرت محتوياتها..

كانت تغض طرفها وكأنها تتحاشى النظر للنافذة..

وتنهمر من عينيها دمعة تأخذ طريقها في أخاديد الجروح التي فرضت نفسها على وجهها البدري، ليزيد ابتلال الجرح من آلامها وحرقة قلبها..

عادت بها الذاكرة عشرات المرات لتلك الساعة المشؤومة..

عندما كانت (ملوك)  تجلس مستلقيةً على سريريها تنظر في كتاب، وكأنها تتجاهل صوت القصف الذي دخل صميم كل مسمع، لكنه لم يتجاهلها..

وكان قدر إحدى القذائف أن ترتطم بأحد أركان المنزل..

وبسقوطها اندفع زجاج نافذة حجرتها غارساً في شق وجهها الأيسر فتاته بالمئات وكأنه يحتمي به كاحتماء الطفل بأمه خوفا وخشية..

حتى إن جفن عينها اليسرى الذي كان كثيرا ما يغمض حالما بمستقبل واعد لم يسلم من هذا اللجوء الجبري..

كانت تلمح بين الفينة والأخرى طيف أمها الواقفة بجوار باب الحجرة ترقبها بعيون أحاطها الحزن من كل جانب، وتحدق بيمناها وكأن لمعة خاتم الخطوبة يوحي لها شيئا ما..

أما ملوك، فكانت تتلمس تلك الجروح بأطراف أناملها دون أن تنبس ببنت شفة، لأنها تعتقد أن العض على الجرح في أرض أغردات نوع من أنواع المقاومة..

تحاول الاستسلام للنوم ..لكن وميض النور المنبعث من جوالها الصامت يثير في نفسها قلقاً كلما وهج، فزوج المستقبل لا زال مصراً على تكرار محاولات الاتصال بها.. وبقدر ما أعطى من إصرار كان قلبها يرتجف خوفا من أن يعلم ما حدث لعروسه..

كانت على يقين أنها ستسمع نبأ فسخ خطوبتها في أية لحظة..

لم تستطع الوقوف أمام المرآة ولو لمرة واحدة.. كانت تتلمس وجهها وترسم في مخيلتها صورته الجديدة كما أوحت لها تلك اللمسات..

لقد اجتمع النقيضان في وجه واحد..

شق ينبض بالحياة..

ببياض مائها وحمرة شفق سمائها،

أما الشق الآخر فكانت تُشَبّهُهُ بالأرض الجدباء..

تتمدد الأفاعي في محيطها المصفر..

هكذا كانت تفسر بروز العروق في هذا الشق الأربد..

هاهي الأيام تمر .. تنجلي بلياليها ونهارها .. وينجلي دخان المدافع عن سماء أغردات. .. ويخرج الجميع ليستنشق أنفاس الحياة من جديد، أما هي فلم تجتح كيانها الرغبة بالخروج من تحت ألحفها وكأن النوم قد تمكن من السيطرة على تلك الأجفان الضعيفة .. طُرق باب حجرتها مرتين .. ورائحة شرائح البطاطا المقلية تنبعث من ثقب الباب، ومع الطرقة الثالثة أجابت وهي تضع وسادة فوق رأسها: لا أريد فطورا ..

فتح الباب..

لم تكترث؛ ربما هي أمي تريد شيئا ما من هنا .. لكنها بدأت تشعر بأن السكون قد اجتاح منزلهم الصاخب .. مرتقبة سماع صوت يخلف صوت الباب الذي لايزال مفتوحا .. وطال انتظارها..

وبدأ القلق يساور نفسها شيئا فشيئا .. ولم تر بداً من الدخول في مواجهة مع النعاس، وبكل قوة نهضت من تحت غطائها .. وجمدت أمام الواقع الذي بات يحاصرها..

والدها ووالدتها ولفيف من إخوتها وأخواتها ينظرون إليها بعيون تجمع بين الشفقة والدموع في انتظار ما سيحدث عقب كلمة الفصل المنتظرة .. أما (سعيد) فكان يحدق بشق وجهها الأيسر وما لبث أن فتح ثغره وبدأت شفاهه تهم بالكلام..

ملوك.… ما أجمل اصطفاء الله لك .. هاهي الحرب قد وضعت أوزارها .. متى سيكون موعد زفافنا؟؟!

 

نقلا عن مجلة الناقوس الثقافية العدد السادس

شاهد أيضاً

مواضيع مجلة الناقوس – العدد العاشر- شخصية العدد

الشهيد سليمان ادم سليمان.. عاش انسانا ومناضلا.. أعده / الأستاذ محمود أفندي تغوص بك عزيزي …

من مواضيع مجلة الناقوس العدد التاسع – الملف الثقافي

قصة قصيرة دروب مجهولة (٢) بقلم أبو محمد صالح  صمت الجميع، صمت أعقبه صراخ، الكل …

مواضيع مجلة الناقوس العدد التاسع-الملف الثقافي

مَن الذي اخترع الربابة البجاوية.. ولماذا اسماء اوتارها بالبداويِّت وليست بالتقرايت؟ بقلم عبد العزيز ابراهيم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *