التوعية وأهميتها

عثمان إسماعيل (ود بركة)

كان سجن الباستيل في الأصل قلعة محصنة في شرق باريس وكان محميا بجيش مدجج، ومع كل هذه التحصينات سقط في يد المدنيين إبان الثورة الفرنسية وتم اقتحام هذه القلعة بأسرع وقت وكان أمر غير طبيعي لأن هذه القلعة من الصعب للجيوش القوية الإقتراب منها ناهيك عن اقتحامها.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن،هو، كيف استطاع اولئك المدنيون اقتحام تلك القلعة المحصنة؟
ومن أين استمدوا هذه القوة القاهرة؟
وكيف استطاعوا اسقاط حكم الملك وغيروا فرنسا إلى دولة الحريات؟
وهل هذا كله حدث مجرد صدفة ؟
كلا، لم يكن مجرد صدفة، إذا تأملنا في ثورات الشعوب نجدها دائما مسبوقة بحراك توعوي مستمر وهذا الحراك هو الذي يحرك هذه القوة الكامنة ويقلبها إلى قوة جبارة تحطم كل ما يقف أمامها، وهذا هو الذي حدث قطعا في الثورة الفرنسية.
هذه الثورة العظيمة التي جاءت بمبادئها الثورية – العدالة، الحرية والمساوة – التي تمخضت عن معاناة الشعب الفرنسي لم تأتي فجأة بل جاءت بعد وعي الشعب الفرنسي بأهمية ممارسة حقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت مسلوبة عنه بسلطة الملك الجائرة وبعض الفئات من الأغنياء والأشراف. وتعتبر هذه الثورة بمثابة النواة الأولى للحركات الاجتماعية بمفهومها الحديث ثم تلتها حركات كثيرة مثل حركات العمال والطلاب وحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة بقيادة مارتن لوثر وأخيرا ثورات الربيع العربي.
بدأ في ارتريا مثل هذا الحراك منذ الأربعينات عن طريق الجمعيات الوطنية مثل الرابطة الإسلامية وبقية الكتلة الاستقلالية لاحقا، وتعتبر الرابطة هي رائدة الحراك الوطني وملهمة الشعب في تلك الفترة وقد استخدمت الرابطة وسائل ناجعة للتوعية وذلك عن طريق الأوراق المقروءة كالصحف: مثل جريدة (صوت الرابطة وصوت إرتريا) والمجلات مثل مجلة (المنارة) وأيضا منابر المساجد وإرسال المندوبين إلى شيوخ القبائل، وهكذا هيأت الشعب وشبّعته بالتوعية حتى صار فطنا يعي ما يحاك ضده، وبالفعل قد تصدى لضم إرتريا إلى إثيوبيا.
وبعد ابتلاع إثيوبيا إرتريا بمباركة دولية، دعم الشعب الثورة المسلحة بالمال والعتاد مثل دعمه للرابطة من قبل بل وأكثر من ذلك، وقد استخدم الاستعمار كل أساليب التركيع مثل المجازر وحرق القرى والتنكيل بأبنائه لمنعهم من الدعم لكن كل هذا لم يثنيه بل استمر بالتضحية حتى بزوغ فجر الاستقلال.
بعد الاستقلال الذي حولته حكومة الهيمنة القومية إلى الظلم والتجويع والتجهيل وإدخال شبابه في حروب عبثية وخدمة إجبارية سرمدية وأغلقت عليه الأبواب وحرمته من التواصل مع جيرانه وامتداداته الطبيعية وصار حبيسا في سجن كبير، يتخبط يمينا ويسارا ليجد من يخرجه من عنق هذه الزجاجة وليأخذ انفاسه وينجو من هذه المحرقة. فصار الإفلات من هذا الأخطبوط أمنية غالية لصعوبتها وخطورتها، حتى صار كل فرد لا يفكر إلا في الهروب بجلده، فهرب من استطاع إليه سبيلا ومن لم يستطع صار يتلوى تحت هذا الجحيم ويرى بأم عينه انتهاك العرض والأرض ولا يستطيع عمل شيء، وذلك ليس عن ضعف، فإن التاريخ يشهد أن الشعوب تستطيع أن تقهر العتاة الظلمة كما قال الشاعر ” إذا الشعب يوما اراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر”. لكن هذه الطغمة افقدته الثقة في نفسه عن طريق التجسس والتشكيك وبذر الفتن والفرقة، وثانيا افقدته الثقة في قوة معارضته عن طريق إطلاق الشائعات بأن المعارضة عنصرية، وثالثا تعمدت تجهيله بحجب كل منابر الوعي عنه مثل الإعلام الحر والنقابات الطلابية والعمالية، وحتى الشباب الذي هاجر من البطش لم يسلم من هذه التأثيرات، فصار يتوارى عن كل شيء سياسي من شدة ما تعرض له من هذه الطغمة .
وفي ظل هذا الظلام الحالك ظهر بصيص أمل في الأفق ينادي الشباب وكافة الشعب الى الاستفاقة والوعي بالحقوق ولم الشمل حول مبادئ واضحة المعالم، وكان ذلك في ٢٩مارس ٢٠١٤م حيث تم الاعلان عن رابطة أبناء المنخفضات الإرترية، كمنظمة مجتمع مدني. قدمت وثيقة أعدت بعناية فائقة عرفت بورقة ميثاق العمل والمبادئ المشتركة – مبادرة لم شمل مجتمع المنخفضات الإرترية- ، وفي طياتها تفند أن هذا المجتمع دفع الثمن باهظا ابتداء من عصابات الشفتة والأرض المحروقة من الكوماندوس وأخيرا عصابة اسياس التي دنست العرض وسلبت الأرض حتى أصبح بقاء هذا المجتمع وتاريخه المشهود معرض للخطر، وآن الأوان لجمع شمل هذا المجتمع وتحريك قواه الإجتماعية والسياسية لحماية حقوقه المسلوبة. وقد لفتت أنظار الجميع منذ الوهلة الأولى لجرأة طرحها ومبادرتها المتميزة في الساحة الإرترية، وقد التف حولها لفيف من الشباب الوطني.
هذه المبادرة التي قدمتها (وثيقة لم الشمل) شهد لها القاصي والداني لحرفتيها وملامستها الواقع الإرتري، وقد لقيت قبولا منقطع النظير من المجتمع، وإن كان هناك البعض من أبناء المجتمع الذين قاموا بتشويهها ومحاولة وأدها في مهدها وضربها من الداخل والخارج. هذا على الرغم من أنها منذ البداية قد أعلنت للجميع أنها ليست خصما على قوة المعارضة بل هي إضافة لها، وآليتها مدنية وسلاحها خلق الوعي لدى أصحاب الحق بحقيقة الصراع والحل المناسب للمشكلة المزمنة.
فعلا بدأت بتحريك المياه الراكدة وذلك عن طريق حشد الشباب والفئات الأخرى من المجتمع للحراك المدني حتى توجس منها النظام وأرسل زبانيته لتشويهها وإطلاق الشائعات بأن الرابطة انفصالية وجهوية وعنصرية، لكنها تصدت لكل ذلك بحزم وتقدمت بمبادرة ميثاق العقد الاجتماعي الذي كان قد ورد في وثيقتها، ومخرجات مؤتمرها، تؤكد فيه أهمية اتفاق جميع المكونات الإرترية عليه من أجل وطن يحفظ الحقوق للجميع ويحترم التعدد في ظل حكم لامركزي دستوري يضمن العدالة في السلطة والثورة بين جميع مكوناته.

.

.

.

.

شاهد أيضاً

مواضيع الناقوس-العدد 11- مقابلة العدد مع المناضل/ عبدالله سعيد علاج

الجزء الأول أجرى الحوار: الصحفي محمود أفندي   تحاور مجلة الناقوس المناضل الكبير عبدالله سعيد …

شخصية العدد- المناضل المغييب محمد عثمان داير (الناقوس العدد 11)

       المناضل المغيب / محمد عثمان داير                   …

المنخفضات -تنخفض الأرض.. ترتفع الهمم (الناقوس العدد 11)

بقلم/ ياسين أمير الجغرافيا رسم الاله على صفحة الكون.. والجغرافيا ترسمنا حين نحسب أننا رسمنا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *