الرئيسية / قضايا / لماذا كانت رابطة المنخفضات ضرورة؟

لماذا كانت رابطة المنخفضات ضرورة؟

 .الحسين علي كرار

يقول علماء علم الاجتماع أن الأسرة هي الخلية الاجتماعية الأولى التي تطورت إلى العشيرة ثم الأفخاذ والقبيلة و الإقليم والقومية والدولة، فالأسرة وهي النواة الأولى للحياة الاجتماعية المنظمة، تعطي الحقوق لأفرادها وتلزمهم بالواجبات ولكن لصغر حجمها فإن إطار حدود الحقوق والواجبات يكون محدودا، وفي مراحل العشيرة والأفخاذ والقبيلة والقومية والدولة يصبح إطار الحقوق والواجبات أوسع، ولتمسك كل من هذه الكيانات بماضيها الوراثي فإنها لم  تستطع إلغاء الحقوق والواجبات السابقة في أطرها والتي اكتسبتها تلك المكونات عبر القرون، فالحقوق والواجبات كثيرة ولكن ما يعنينا هنا هو حق الدم وهو حق الدفاع عن النفس،وحق ضريبة المال في إعداد المحاربين ودفع الديات، فنجد أن هذه الحقوق والواجبات التي فرضتها عليهم التحديات من الأعداء بغزواتهم لنهب المواشي واسترقاق الأفراد  قد تطورت، لهذا كان الدفاع بضريبتيه الدم والمال ضرورة لحماية هذه المكونات  من دفع الديات وإعداد المقاتلين لحماية الجماعة وعندما وصل التطور  إلى مرحلة الدولة وحماية نسيجها الاجتماعي وترابها وأمنها الداخلي والخارجي، هبت الشعوب لحماية نفسها ومصالحها وأرضها للحفاظ على كينونتها وحضارتها وعقائدها وثقافاتها وتراثها، ولهذا كانت هبة الشعب الإرتري للدفاع عن أرضه بدمه وماله ضد الإيطاليين والبريطانيين والأثيوبيين كضريبة واجبة الدفع، لاكتساب الحقوق الواسعة في الدولة التي كانت حلما وتحققت  بالتضحيات الجسام بفاتورة التحرير الغالية والمكلفة في ضريبتي الدم والمال حتى تحقق له الإنتصار وكان فخرا عظيما.

ولكن كانت صدمة الشعب الارتري كبيرة بسبب السطو الذي حصل في نظام الحكم الذي حلموا به، فقد انهار هذا الحلم في لحظات دموع الفرح عندما نزلت فكرة الدولة القومية إلى فكرة هيمنة دولة الطائفة التي اختزلت  الدولة لنفسها واستأثرت بها، وأحدثت الدمار الهائل في الأسرة والقبيلة والإقليم وغيّرت مفهوم الدولة لصالح إقليمها وقوميتها وطائفتها وأنهت الدولة القومية الشاملة للجميع، وأصبح هذا الخطر ودماره أقوى من دمار العدو الخارجي، فقد استهدفت  أراضي المنخفضات التي كانت مدنها دمرت بالكامل أثناء حرب التحرير، وأحرقت قراها بالكامل، وأصبح مجتمعها في معسكرات اللجوء بالكامل. استهدفتها دولة الطائفة بالدرجة الأولى في أرضها وإنسانها وتاريخها وثقافتها وقيمها وتراثها، لاختلاف الهويات، فبدأت هذه الفئة الحاكمة بتعزيز طائفتها التي وطنتها في الأمن والجيش والاقتصاد والإدارة وفي كل مناحي الحياة، وعزلت شعب المنخفضات عن كل ما يمس سلطة الدولة الوليدة، فبدأت أولا بإضعافها بتفتيت قيم الأسرة العريقة ثم انتقلت بالتفتيت إلى القبيلة العتيقة فدمرتها ثم انتقلت إلى كامل الإقليم الغني فأفقرته، وأوصلت إنسانه إلى درجة اليتيم ذا المتربة، وعندما تمكنت من كل ذلك وتم لها الإضعاف  بالضرب المتواصل من العزل والقتل والتعذيب والسجون وإلغاء الهوية، أنكرت ما دفعته المنخفضات من ضريبة الدم والمال وحصرت انجازات الحرية في دماء إقليمها، ورفضت إعادة لاجئي حرب التحرير أبناء المنخفضات من المعسكرات، فعوضا عن أن تكافئهم وتعوضهم عن ما فقدوه بتلك التضحيات، وزعت أراضيهم التي أخرجتهم منها أثيوبيا بالقتل والدمار لشعبها المختار، وفرضت ثقافتها وقيمها وأخلاقها وعاداتها بقوة سلاح الدولة الذي هو ملك الجميع  لطمس الهويات المخالفة لهويتها وفي مقدمتها الهوية الإسلامية وثقافتها المتمثلة في اللغة العربية، وأعادت مجتمع المنخفضات بنشر ثقافة التجهيل إلى عصور النهب والرق فجعلتهم عبيدا يخدمون للورد الجديد ويأتمرون بأمره، وإلا فالعصي والسوط لمن عصى، حتى من عارضوا منهم نظام الحكم تمسكوا بميزة التفوق والحفاظ علي الغنائم التي اعتبروها حقهم الطبيعي ومكاسب للطائفة قدمها لهم هذا النظام الطاغي العنصري الذي يحبونه ويكرهونه في آن واحد وهي معضلة جمع النقيضين.

بالتقري نقول للقرية الكبيرة المترامية الأطراف (دقا) وللقرية الصغيرة التي تبحث عن الكلأ والماء وتذهب  إلى الأودية بنعاجها وأبقارها ونوقها بعيدا عن قرية الدقا التي لا تتوفر لها ميزة الانتقال  لكبر حجمها تسمى (قيشوت) تصغيرا من شأنها، ومصيبة القيشوت، أنها إذا قتل أحد أفرادها شخصا آخر فإنها عاجزة عن دفع الدية، وإذا حصل عليها غزو فإنها عاجزة أن تدافع عن نفسها، وإذا توفي أحد أفرادها فإنها عاجزة أن تدفنه بمفردها، وإذا مر بها موكب زفاف عابر فإنها لا تستطيع بمفردها إكرامه .

  وإذا سأل أحد (ما) كم عدد القوشّي من الفصائل المحسوبة على المنخفضات في المعارضة؟ والتي انتقلت من الدقا الكبير وتشتت وضؤل حجمها بالضعف الذي أصابها فأصبحت عاجزة مثل القيشوت أن تتصدى لأعدائها وخصومها وأن تدفع الدية وتدفن الأموات وتكرم الضيوف، لهذا كان قيام رابطة المنخفضات ضرورة لحماية النفس والعرض والمال والأرض والقيم والأخلاق والهوية والتراث وكرامة حقوق الإنسان، لأن ما حدث كان نتيجة لحدوث شرخ في مجتمع المنخفضات تسبب في اختلال الميزان، فإعادته ضرورة بجمع الشمل وتجاوز الماضي لمواجهة الخطر الجاثم الذي استفرد بمقومات الدولة.

–  إن مغتصبي السلطة في إرتريا يملكون دقا في أسمرا وبيدهم كل مقومات الدولة، ويملكون دقا في أديس أبابا بحراسة أثيوبيا لمصالحها القومية والدينية، ويملكون دقا في الولايات المتحدة تحميه الكنائس العالمية، فقيام دقا واحد للمنخفضات لتحمي به نفسها أصبح المرعب لهم وفي يدهم كل أدوات الدولة التي ينشرون بها الإرهاب، وللأسف فإن بعض أبناء المنخفضات هم الأشد فتكا في محاربة الرابطة، ولكن قطارها انطلق ولا يستطيع أحد إيقافه فأهل القوشّي عرفوا إن الدقا المترامي الأطراف هو حماهم يردون به أعدائهم وخصومهم ويدفنون به أمواتهم ويستضيفون به ضيوفهم.

فمن يطلب أن تتوقف مسيرة عجلة التاريخ فإنه لا يستطيع إيقاف مسيرة التاريخ حسب رغبته .

ومن يريد أن يعيد مياه الأنهار إلى الوراء سوف لا يستطيع إعادتها و ستسير الأنهار على مجاريها الطبيعية .

ومن يطلب أن تتوقف عقارب الساعة فإن عقارب الساعة سوف لا تتوقف وسوف تسير الأيام بليلها وأنهرها.

ومن يطلب أن تتوقف مسيرة الحياة الطبيعية في التغيير فإن مسيرة الحياة سوف لا تتوقف وسيصبح الحاضر ماضيا وسيأتي التغير بالجديد.

فالتغيير سيحدث وسوف يعاد الميزان لوضعه الطبيعي المتساوي بعد لم الشمل بإعادة مجتمع المنخفضات لدوره الطبيعي في رسم سياسة الدولة ورفع المخالفات والظلم وإقرار دولة المؤسسات والقانون .

الثورة الارترية بدأت بالرصاصة ضد الأعداء وغيرت ما بعدها

ورابطة المنخفضات بدأت بالقلم ضد الخصوم وستغير ما بعدها لا مجاملات في الحقوق، ولا قبول لاستغلال المستهتر، المنخفضات لها أرضها وهويتها وثقافتها ولها تضحياتها وإرثها الغالي في النضال وإرثها الحضاري فمن يحلم أن يسرق هويتها وأرضها وتراثها ويستغلها فهو واهم كالجاري خلف السراب.

 

عن الاستاذ الحسين علي كرار

كاتب ومحلل سياسي ارتري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *