رابط الجأش (قصة حقيقية)

 ابوبكر جيلاني

كان العم خيار من أوائل الارتيريين الذين لفظتهم بلادهم خارجها بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي بدأت فيها المعضلة الإرتيرية والمستمرة حتى اللحظة. أم عمنا فقد تنقل في بلاد الله الواسعة بدء ً من جيبوتي ثم الصومال إلى أن استقر به المقام بالمملكة العربية السعودية في أوائل الستينيات من القرن الماضي. كان هدفه تأمين لقمة العيش الكريم لذويه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وجمع بعض النقود لمستلزمات زواجه ليعود إلى موطنه ثم يستقر. إلاّ أن رحلته طالت ليس لطيب المقام بالغربة ولكن لسوء حال بلاده، وكلما أطل على بلاده يجدها  أسوأ حالا من ذي قبل ليعود أدراجه، إلى أن بلغ من العمر عتيا وتجاوز عقده التاسع أمضاها كلها في خدمة بلاد الغربة وكان يعود إلى موطنه كل بضع عشرة سنة. أما الآن فقد أضحى هرما لا يقطع بحرا ولا يصعد جبلا.

  تعودت أن أتجاذب معه أطراف الحديث خارج مسجد الحي على مقعد خشبي مستطيل من النوع الذي تضعه البلديات في الشوارع. أحيانا ينضم إلينا بعض العمال الإرتيريين من سكان الحي، إلا أن العم خيار يفضفض فقط عندما نكون لوحدنا أنا وهو.

هذه المرة قررت أن أجره ليحكي عن تجاربه في عمله بالمملكة العربية السعودية، فقلت، ما هو أفضل شعب لمستَ فيه الاحترام خلال تجوالك  حول العالم وأخطر شيء واجهك أثناء عملك وإقامتك الطويلة بالمملكة العربية السعودية؟

فكر قليلا ثم قال، تريد أن تذكرني بالمخاطر التي نسيتها…

أما بالنسبة لشعب لمستُ فيه الاحترام هم الإيطاليين، كانوا يحترموننِي، خلافا لما كنتُ  أشاهده منهم في بلادي في طفولتي في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي فعلمت أن المواطن الأوروبي في بلاده ليس كالمستعمـِر. وعلمتُ أن الشعوب تتشابه وتشترك في العديد من القيم الحميدة وإن اختلفوا في العقائد وأسلوب الحياة.

أذكر في إحدى زياراتي لاحد من الأصدقاء الطليان طلب مني أن أعيش معهم في إيطاليا ووعدني بمنزل لما رأى مني الصدق والأمانة والإخلاص في فترة إجازتي التي عملت فيها وسيطا ومترجما بين التجار العرب والطليان.

 أما أخطر حالة واجهتني في عملي  فكانت خارج المملكة العربية السعودية في رحلة عمل كلفني بها صاحب العمل.

خرجتُ من تلك الرحلة سالما ولكن تركتْ في نفسي ندبا أبى أن يندمل وخدشا في عاطفة الثقة بالناس التي كنت أتمتع واستمتع بها طول حياتي وكانت عاملا من عوامل سعادتي وطاقتي في مواجهة مصاعب الحياة.

القصة بدأت عندما راسل مجهولون من نيجيريا صاحب المؤسسة السعودية التي كنت أعمل فيها في تلك الفترة. في البداية لم أعلم تفاصيل المراسلات التي تمت فيما بينهم وكيف وصلوا  الى ما وصلوا إليه، ولكن فيما بعد علمتُ إن محتالين من ذلك البلد الإفريقي كانوا يراسلون أصحاب الأعمال في السعودية وربما في دول أخرى يطلبون منهم أوراق رسمية لتحويل أموال بالملايين إلى حسابهم يتقاسمونها معهم فيما بعد بدعوى أن تلك الأموال فائض من حسابات حكومية غير معروفة أو تركة غير متنازع عليها الخ، هنا تكمن اللعبة.

لإخراج تلك الأموال الوهمية من البلاد طلبوا من صاحبنا (رب عملي) إحضار أوراقه الرسمية فارغة ممهورة بختمه لتقدم إلى البنك كفاتورة لبضاعة مستوردة للبلاد وتحوّل الأموال إلى العنوان الموجود على الفواتير.

صاحبنا أختار العبد لله من دون كل الناس في مؤسسته لتلك المهمة، فاتصل بي عبر الهاتف الداخلي وطلب مني الحضور إلى مكتبه.

قال: أستاذ خيار لك مهمة عمل ستذهب إلى لاجوس نيجيريا. المؤسسة اختارتك لهذه المهمة، وأنا أدرى يقصد نفسه بالمؤسسة، هذه عادات يمارسها بعض الناس الذين لا يثقون بأنفسهم أو يجنحون لممارسة التضليل.

قلت: ما نوع هذه المهمة وهل هي ذات علاقة بعملي؟ (وليتني تمسكت بهذا السؤال).

قال: ليس لها علاقة بعملك ولكن أنت الأنسب لها وهذا من ضرورات العمل وأنت أيضا ستستفيد من هذه الرحلة ماديا ووظيفيا.

قلت: أعطني تفاصيل أكثرعنها؟ وأنا خابز الرجل وعاجنه،  لن يعطي تفاصيل وإن أعطى لن يقول الحقيقة وقوله وأنت أيضا ستستفيد من هذه الرحلة ماديا ووظيفيا ما هي إلا كلمات مخدرة ليس لها وجود في قاموس الحقوق لديه.

قال متظاهرً بصرامة عسكرية: ستصل لاجوس الاثنين صباحا مع افتتاح البنوك وسينجز العمل خلال يومين ثم تعود يوم الأربعاء صباحا، التذكرة محجوزة هكذا، مهمتك تنحصر في تسليم مظروف لأشخاص سينتظرونك في المطار ويوصلونك الفندق،  ستستلم منهم مظروف آخر خلال 48 ساعة من وصولك، لا تفتح المظاريف أبدً.

قلت بيني وبين نفسي: أكيد الحكاية فيها فلوس طالما فيها بنوك ومظروف.

قال: سلم واستلم فقط وكأنه سمع وشوشتي وما يدور بخلدي.

أضاف دون أن أنطق ببنت شفه هذه المرة: وما تفتح معهم أي نقاش، قل لهم أنا لم أطلع على شيء، أعرفك أنت تعرف انجليزي زيّ البلبل ويمكن ترغي معهم. هذا ما مسموح.

قلت: أطمئن.  وقلت لنفسي – بلبل كمان.  الله يستر علينا من هذا الحسد، البعيد.

قال: كلها يومين وسنعمل لك تأشيرة الخروج والعودة وتأشيرة الدخول إلى نيجيريا لتسافر الاثنين القادم.

قال: أكيد، ستستلم مبلغ 2000 دولار عهدة وتقدم فواتيرها للمحاسبة بعد العودة.

قلت: توكلنا على الله.

طار الاسبوع كالبرق وطرت أنا بدوري إلى نيجيريا وبدأت القصة المرعبة والغريبة.

بعد وصولي إلى مطار لا جوس ودخولي صالة القدوم أحسست شيء من القشعريرة تسري في عروقي, وشعرت بثقل في رجليّ. قلت اللهم أجعله خير. لاحظتُ أربعة أشخاص كلهم مركزين عيونهم باتجاهي وكأنهم يتفحصون وجهي ويطابقونه مع صورة في خيالهم. كانوا بعيدين عني وبعيدين عن بعض. انهيت إجراءات الدخول وما أدري ماذا كان سيحدث وجسدي مقشعر من حالة غريبة لم أدري كنهها وسببها. وفجأة ظهر أمامي رجل بملابس الزي النيجيري الأبيض واحتضنني ثم قال: أنا مامادوا  أسلمت قبل 11 يوم جيت هنا أشوف أي مسلم قادم من بلاد العرب . انت أخي في الاسلام وأريدك أن تعلمني ديني أكثر وتصلي معي اليوم . قال بلكنة إنجليزية ركيكة علمني الوضوء والصلاة أكثر. لم أستوعب بعض الطقوس بعد. (وفهمتُ ما يريد) .في تلك اللحظة  وعيني تقفز نحو الأشخاص الأربعة  كل ثانية وإذا بهم يجتمعون بسرعة  ثم تحدثوا مع بعضهم برهة ثم انصرفوا  مسرعين واختفوا عن الأنظار. تركوني بين حيرة وانفراج. هل هؤلاء هم الذين كانوا ينتظرونني أم هم رجال أمن انسحبوا عندما رأوا معي ذلك الشخص الوجيه .

قلت بيني وبين نفسي لالا هذا مستبعد لأن رجال الامن  مهما كانوا في بلد مثل نيجيريا أناس رسميين ولا يمكن أن ينسحبوا بهذه السرعة المحيرة.

هل هم الرجال الذين من المفترض يستلموا مني المظروف ويوصلونني  الفندق  ؟ تركوني في حيرة من أمري ولكن قيض الله لي ذلك الرجل الذي بدت عليه ملامح الطيبة والسماحة فأخذت طاقته الطيبة تلك تنتزع رويدا القشعريرة التي انتشرت على جسدي وأحسست بشيء من الطمأنينة والسكون.

قال بإنجليزيته الثقيلة تلك سائح أم رجل أعمال أخي العربي .

قلت أنا رجل أعمال عندي اجتماع مع تجار نيجيريين

قال : أين

قلت في فندق ناشيونال لاجوس

قال فندق جيد وأردف قائلا هل هناك من يأتي ليوصلك.

قلت: لا

قال : اذن أوصلك – وأخني نحو مواقف السيارات وأوصلني الفندق.

شخصان من الجماعة إياهم جاءوا إلى الفندق قبلي فتعمدتُ أسقاط المفتاح لتنبيههم أنا الشخص المطلوب ، وكان ذلك. وتيقنت أن في الأمر خطورة.

قبل نزولي من غرفة الفندق طفتُ بخيالي على كل الأحداث التي سبقت وجودي هنا من الساعة التي أبلغني فيها صاحب العمل بجدة عن الرحلة حتى وصولي إلى هذه الغرفة وتيقنت أن الأمر ينطوي على مغامرة خطيرة ومسئولية قانونية. قررت التخلص من الأوراق بإحراقها ورميها في الحمام دون ترك أثر ووضعتُ الختم في جيبي ثم نزلت وأنا على يقين العصابة ستفش الغرفة بعد خروجي منها للاستيلاء على الأوراق والختم الذي وعدهم به صاحبنا، وكذلك فعلو بالضبط.

وجدت الرجل صاحب الملابس البيضاء بالمسجد المجاور للفندق.  صلينا سويا وكان قد عزمني للعشاء في مطعم سياحي مجاور. ثم من تلقاء نفسه قال لماذا لم تذهب معي إلى البيت لتسلم على أولادي فوافقت وكان هدفي التأخير خارج الفندق لأطول ساعات ممكنة بقدر المستطاع حتى أعطي فرصة لأفراد العصابة لتفتيش الغرفة وكنت أيضا متوجسًا من رؤيتهم بالفندق مرة أخرى.

في اليوم التالي وكان ذلك يوم سفري حسب الحجز المسبق جاء صاحب الملابس البيضاء إلى الفندق وأصر على دفع فاتورة الفندق بالعملة المحلية  ال (نيرا)

وكان له ما اراد  بعد جدال طويل مع مدير الفندق باللغة المحلية. وتأكدتُ من الحديث إن الرجل ذو مكانة عالية في البلد وأن أفراد العصابة لم يختفوا عن الأنظار في صالة المطار إلا بعد ما رأوه  يسلم عليّ بحرارة.

وصلتُ جدة ولكن اسئلة كثيرة ظلت عالقة في ذهني دون أن أبوح بها حتى جاء وقت توثيقها اليوم.

استهجاني لهذا الأمر جعلني أتناسا وإن لم أنسا. ولم أطلب تفاصيل أكثر من صاحب العمل بعد عودتي إلى جدة ، ولكن يبدو لي لو استلموا الأوراق كانوا سيقاضونني بموجب الأوراق التي كان تسليمها لهم مقررا ، وإذا لم يحضر صاحب الأوراق شخصيا كان مصيري القتل بدلا عنه.

الشيء الوحيد الذي قلته لصاحب العمل بجدة، أسأل الجماعة الذين أرسلتني إليهم ماذا حصل أما أنا لا اشتكيك بل اقول الله يهديك ويصلح أمرك. أعطيته الختم وقلت له سوف لا ترى وجهي بعد اليوم وإذا جاءتك الحوالة من البنك نصيبي هدية لك. من نبرتي ووضعي النفسي فهم ما حاق بي من لغوب ومخاطر ولم يتكلم بنت شفا.

حتى اليوم لا أعلم ما الذي دعا ذلك الرجل النيجيري صاحب الملابس البيضاء ليحتفي بي ويقابلني في تلك الساعة تحديد بالمطار. وحتى اسمه الثاني كان إفريقيا فنسيته. ولا أعرف ما ذا كانوا سيفعلون بي الرجال الخمسة العتاة الذين كانوا بالمطار في انتظاري،  ولِماذا اختفوا على وجه السرعة عندما شاهدوا الرجل يسلم عليً بحرارة.

لا أدعي الكرامات ولا الوَلاءات ، أنا أحقر من ذلك ولكن أقول عناية الله فقط هي التي انقذتني من تلك العصابة وأنا ذاهب لأقوم  بمهمة كلفني بها صاحب عملي فلبيت طلبه توطيدا لحسن المعشر وحسن الأداء ظانا ثقته بي.

لا أزكي نفسي على الله ولكن أقول سخر ليَ الله ذلك الرجل صاحب الملابس البيض الذي لم أره قط من قبل ولا من بعد. والدرس الذي تعلمته من تلك المغامرة أن لا اقوم بمهمة لا أعرف تفاصيلها ومشروعيتها  وأن لا أصدق أحدً في مثل هذه الأمور.

وختم حديثه :أنظروا ماذا تصنع الغربة بالناس، فضمن مساوئها الكثيرة ، تجعلك تركب المخاطر غصبا عنك لتضمن استمرار وظيفتك.

 

عن المحرر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *