تكوين جميل لايصال الرسالة: قراءة نقدية في لوحة (حائكة الحصير) للفنان التشكيلي محمود دبروم

إن أعمال دبروم الإبداعية وإن تبدت فيها البساطة، و كل مناحي الواقعية التسجيلية، إلا أنها في أحايين كثيرة تقترب من خيال المشاهد بالمادة البصرية التي تشكلها عين المتلقي، وهو ما يصنع انسجاما بينه وبين شعور وأحاسيس المتلقين.

أحد أهم الأساليب التشكيلية الواقعية التي يستند عليها الفنان التشكيلي محمود دبروم، هي اعتماده الأشخاص كمادة واقعية أولا، ثم كتعبير فني ثانياً، ليفصح عن دواخله وشعوره بطريقة فنية معبرة. نستطيع القول بأن دبروم هو فنان تشكيلي متعدد الرؤية، فعناء الحياة والهموم اليومية، كلها تعبيرات حتمية تنبع بصدق من نفسية المبدع بعد أن ينسجها إلهامه واجتهاداته في قوالب تعبيرية محببة.

وبالرغم من واقعية العمل لدى دبروم إلا أن أعماله التشكيلية تَنْفُذ مباشرة إلى أعماق المتلقي. كما أن الموضوعات التي تشملها، تتوافر فيها الرؤية الموضوعية للحياة و تتبدى فيها تجليات الواقع اليومي. مما يجعل منها لوحة تفاعلية بأبعاد حقيقية ملموسة من الواقع.
أعمال الفنان دبروم بصفة عامة تحمل خصائص معينة فريدة وجديرة بالفحص والمتابعة النقدية الجادة، لأن البعد الإنساني في اعتقادي يحتل في أعماله الفنية مكانة خاصة وكبيرة. ولأن الفنان دبروم رصد بعض الأشكال الإنسانية ومنحها أبعادا قيمية وأخلاقية.

وهنا سوف نتناول البناء المحوري في تكوين إحدى لوحات دبروم وكيف جعل المتلقي يركز حول محور مركزي لأهميته.
إن التكوين في أي عمل فني وبالذات الفن التشكيلي ليس شيئ عابر نمر عليه مرور الكرام ، بل يجب أن نقف عنده كثيراً ،وحينما نتطرق إلى البنية كدراسة، لابد من تناولها حتى نعطي هذا الموضوع المهم حقه .

العشاء الاخير – ليوناردو دافنشي

.

التكوين هو مصطلح يستخدم لوصف ترتيب العناصر البصرية في اللوحة أو غيرها من الأعمال الفنية. من المعلوم أن التكوين موجود في كل شئ فني بصري ، و الأسس التي يعتمد عليها التكوين بصفة عامة هي مركز الاهتمام أو بؤرة التركيزو الوحدة والتوازن والتأطير. لأن هذه العناصر تساعد في إغناء المشاهد تفهما للعمل الفني . والتكوين في مجال الفنون البصرية، هو وضع أو ترتيب العناصر البصرية أو المكونات حسب أهميتها في عمل فني تمييزا لها .
,

حائكة الحصير- للفنان التشكيلي محمود دبروم

.
.لوحة (حائكة الحصير) للفنان التشكيلي الإرتري محمود دبروم أثارت اهتمامي أكثر وشدت انتباهي لما حملته هذه اللوحة من بناء رائع، بالإضافة إلى مضمون قوي ومؤثر .فعند النظر في هذا  العمل الفني تقع العين مباشرة على المرأة الجالسة, مرسومة من الأمام, هذه المرأة  الشابة ترتدي الملابس التقليدية لأهل المنخفضات الإرترية وهو عبارة عن غطاء للرأس وللجزء العلوي من الجسم “دوتيّ” وغطاء آخر لأسفل الجسم “فوطت” بألوانه الحارة المعهودة . تسريحة شعرها أيضا تقليدية وهي على شكل ضفائر رفيعة تنسدل على طرفي الرأس. وهذه التسريحة متوارثة عبر العصور وقد شاهدت تسريحات مماثلة للفراعنة في المتحف المصري في القاهرة تكاد تكون متطابقة بكل تفاصيلها.  نرى أيضا وجود أساور في يدها وإن لم تكن ظاهرة بشكل لافت للنظر وهذه الأساور “مناجير” في العادة تكون بألوان وخامات مختلفة وهي باهرة و مكملة لجمال وأناقة المرأة.

تقوم هذه المرأة بحياكة الحصير الإرتري المعروف ب “قلوت” أو “تكوبت” وهي حرفة شعبية متوارثة و ضاربة في عمق جذور إرثنا الثقافي. والحرف اليدوية باستخدام المواد الطبيعية والتقنيات التقليدية هو عمل خلاق ، وتعتبر من الأعمال الإبداعية للشعب.

نلاحظ أن عيون المرأة مركزة على اليدين والتي تقع في قلب الصورة (مركز الاهتمام) ويبدوا عليها أنها مركزة على هدف معين وبشكل متواصل وبدون أي شرود ذهني للوصول إلى هدف تصبو إليه بغض النظر عن الظروف والعقبات، مما يوحي للناظر بأن العمل الذي تؤديه حائكة الحصير مهم جدا لحياتها، وعليها أن تدفع نفسها إلى الرغبة في هذا العمل.  واليدين هنا هما مركز الاهتمام ( النقطة المحورية “المركزية” ) ، هي الدائرة الرئيسية في الصورة التي تنجذب إليها العين مباشرة  أي عين الناظر إلى موضوع اللوحة وهو العمل.

مما لا جدال فيه أن للعمل أهمية كبرى بالنسبة للفرد و المجتمع. فهو غاية إنسانية و واجب اجتماعي في الحياة و هو في نفس الوقت من القيم الدينية التي تصل إلى مستوى العبادة . و العمل أيضا يعطيك إحساسا بقدرتك على قهر صروف الزمان والعيش بكل كرامة و شرف و عزة .إن الإيمان بعمل ما والشغف به هو جدار الدفاع الذي يحمي المرء من مكاره اليأس و بالتالي فان العمل يمنحك الشعور بالأمل و يبعد عنك الإحساس بالإحباط و هو أيضا يرتقي بالذهن.

هذه الرسالة النبيلة مع توازن الصورة من حيث البناء التكويني المحكم لموضوع اللوحة ومدى توافق الرؤية البصرية مع موضوعية اللوحة والذي يريد أن يوصلنا إليه دبروم وهو أهمية العمل والتفاني في اتقانه جعل اللوحة جميلة والأهم بأن موضوعها أجمل.

 اعتقد أن دبروم نجح في التعبير عن موضوعه وإيصال مشاعره إلى المتلقي والتأثير عليه من خلال هذا العمل. ولعل جمال التكوين في هذه اللوحة فاق الجمال البصري لينفذ إلى الموضوع مباشرة وهذا هو القصد.

إنها لوحات ناطقة، ورسالة صريحة إلى المتلقي، يرسلها دبروم بقدر ما يستدعي العمل الفني من لوازم.

سليمان بكيت – فنان تشكيلي

 

 

عن المحرر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *