إنسان المنخفضات وعلاقته بالكتاب

بقلم: محمد نور موسى

الكتاب أفضل صديق للإنسان،عبارة كان يرددها لنا مدرس اللغة العربية “رحمه الله وغفر له” كنا وقتها في المرحلة الإبتدائية ، وكان المنهج التعليمي في المدارس الحكومية في ذلك الزمان باللغة العربية … مُدرسنا “رحمه الله” كان يُدرك تماماً أهمية الكتاب ودوره في تهذيب وتطوير ملكات الإنسان والرقي به إلى أعلى المراتب ، هذا الحديث لم ندرك أهميته إلا في وقت متأخر لجهلنا بقيمة الكتاب وكذلك لصغر سننا ، وكان من بيننا بعض الطلاب من ذوي الميول والرغبة في القراءة والمطالعة، إلا أن هذه الرغبة وهذا الطموح لم يتحقق لندرة الكتاب الثقافي في مدرستنا وحتى في مدينتنا الحبيبة.

وبالرغم من ندرة الكتاب الثقافي في بلادنا في ذلك الزمان ،كنا ندرس ضمن مادة اللغة العربية حصة مطالعة  وإنشاء (تعبير) وحفظ الأناشيد ، في الواقع مُعظمنا كنا نواجه صعوبة كبيرة في كتابة الإنشاء أو التعبير، فيضطر مدرس اللغة العربية ليحول حصة  الإنشاء إلى الحديث عن الكتاب وفوائده التي لا تحصى ، أو إلى الأناشيد التي كانت محببة لدى كل طلاب المدرسة بدون استثناء… وكان الأستاذ يتحدث عن الكتاب ويذكر لنا سيرة الكاتب وكنا نستمع له باهتمام وشوق شديد وخاصة عندما يكون الحديث عن كتاب يتعلق بالتاريخ.

لم تكن هناك مكتبات في مدينة كرن في ذلك الزمان، بالرغم من وجود عدد لا بأس به من المثقفين من أبناء مدينة كرن من الذين كانت لهم بصمتهم في نهضة العلم والتعليم في مدينة كرن .. كان هؤلاء يتبادلون فيما بينهم الكتب والمجلات المصرية التي كانت تأتي من أسمرا إلى دكان “حفني ” ذلك التاجر الذي كان يعيش بيننا في مدينة كرن الجميلة، لست متأكداً حتي اللحظة إن كان هذا التاجر من بلاد الشام من سوريه أم أنه من لبنان، أم من أقباط مصر أم أنه يهودي … كان لدينا إعتقاد بأن كل ذا بشرة بيضاء إيطالي ما عدا الإخوة  اليمنيين بحكم العلاقة بين الشعبين الإرتري واليمني، أما غيرهم كنا نعتبرهم طُليان، ولكننا إكتشفنا مؤخراً بأنهم ليسوا إيطاليين بالرغم من أنهم كانوا يتحدثون اللغة الإيطالية فهم من جنسيات أخرى يونانيين وأرمن من بلاد الشام ،وأقباط من نصارى مصر، ويهود لا نعرف من أي بلاد العالم كانوا يأتون إلى إرتريا، هكذا كان الفهم السائد لدى سكان مدينتنا عن الذين كانوا يعيشون بيننا وكنا نعتبرهم جزءا منا في تلك المدينة الجميلة .. هذا التاجر “حفني” كان متخصصا في بيع المجلات المصرية التي كانت تأتي من أسمرا، وعلى ما أذكر الوكيل للمجلات المصرية وكتاب الهلال في إرتريا تاجر يمني يُدعي “باحمدون” المجلات التي كان يبيعها التاجر “حفني” في مدينة كرن هي مجلة المصور، ومجلة  آخر ساعة، ومجلة  روز اليوسف وكتاب الهلال، كل ذلك في نهاية خمسينيات القرن الماضي ومطلع الستينات.

ز

.

كنا نشاهد هذه المجلات خلف البترينة معروضة للبيع. بالإضافة إلى هذه المجلات تميز محل التاجر حفني ببعض الأشياء التي تحظى باهتمام الأطفال كالحلويات واللبان وبعض الألعاب والبالونات، وكان لهذه المجلات قرائها ومُحبيها الذين كانوا يشترونها ويتبادلونها فيما بينهم، لا أدري كم كان سعر المجلة.. اشتهر دكان “حفني” في “روشان ريبا” ببيع أشياء كثيرة كانت محببة لدى الأطفال.

كان في مدينة كرن عدد لا بأس به من أشهر وأبرز المثقفين الإرتريين في ذلك الزمان من بينهم بعض الشعراء وبعض الصحفيين الذين كان لهم باع طويل في صحف الأربعينات، وكان للبعض من هؤلاء المثقفين مكتبات عامرة بأمهات الكتب في بيوتهم، مع الأسف الشديد لم يخطر في بال  أحد من هؤلاء أن يفتح محل لبيع الكتب ،ليساهم في نشر العلم والمعرفة لدى سكان المدينة ، قد يكون السبب قلة المال أو ضعف القوة الشرائية مقارنة بارتفاع سعر الكتاب أو نسبة الأمية لدى سكان المدينة ،  لأن الوضع الاقتصادي لسكان مدينة كرن يعتمد على الزراعة الموسمية وهذا يعني أربعة أشهر عمل وباقي  شهور السنة بدون عمل ،إلا أنه بالرغم من الظروف المالية الصعبة  للناس، فإن حبهم للمعرفة ومتابعة الأخبار شديد حيث يشتري البعض منهم “جريدة الزمان” وهو  لا يقرأ ولا يكتب وتجد بيده الجريدة ليقول لمن يقرأ،  اقرأ لي ما بهذه الجريدة من أخبار.

 إذًا- حرف جواب وجزاء ومكافأة

إذًا، الكتاب أفضل صديق للإنسان، علينا أن نمارس هذه العبارة قولاً وفعلاً، إذا كنا نريد أن نلحق بركب التطور وننقل شعبنا من الواقع المؤلم الذي هو فيه إلى وضع أفضل ثقافةً وعلماً، لأن الكتاب كما نعلم يمد صاحبه بالثقافة والمعرفة ويرفع من شأن صاحبه قدرا ومكانةً وعلواً في المرتبة. ولا ننسى أن الكتاب له مكانة هامة قديماً وحديثاً، فالشعوب التي جعلت من الكتاب أنيسها استطاعت الخروج من الظلام الدامس إلى النور الساطع، وقد رفع الكتاب قدر هذه الشعوب وارتقى بها وأصبح لها باع طويل في الحضارة الإنسانية في أيامنا هذه.

بينما الشعوب التي أقامت السدود والحواجز بينها وبين الكتاب ظلت في مؤخرة الأمم وليس لها أية مساهمات في الحضارة الإنسانية المعاصرة، ونتيجة لذلك تعاني من ارتفاع نسبة الأمية وتفشي الجهل في صفوف أبنائها، لتعيش في دوامة من المشاكل والحروب والأمراض الفتاكة…فالكتاب كما نعلم يرفع من شأن صاحبه ويسمو به إلى المراتب العليا.

  فإذا ما أردنا أن نرفع من قدر مجتمعنا وإخراجه من الظلمات إلى النور، علينا أن  ننكب على القراءة والمطالعة، حتى نحقق بالعلم والمعرفة بناء أمة إرترية متعافية خالية من المرض والجهل والفقر. وعلى شبابنا أن يجعلوا من الكتاب أفضل صديق ليملؤا الفراغ الفكري والثقافي الذي يعيشه شبابنا اليوم، فكلما  احتمى الشباب بالكتاب كلما تمكن من تجاوز كل المعوقات والموانع التي تعترض طريقه، الشاب الذي يجعل من الكتاب صديقه الحميم هو ذاك الشاب الذي اختار لنفسه أن يكون صاحب الشخصية القوية، لأن القراءة كما يعلم الجميع تساعد بدرجة عالية على صقل شخصيته والارتقاء بطريقة تفكيره وترسم في نفس الوقت واقعه الاجتماعي، ليس هذا فحسب، بل تعمل على تنمية الاتجاهات والقيم المرغوب فيها لديه.

فإذا ما نظرنا إلى  علاقة شباب المنخفضات بالكتاب نجدها علاقة معدومة نهائياً، كأن الكتاب ليس ذا قيمة مفيدة، ما نلاحظه ونتابعه لواقع الشباب من أبناء المنخفضات في هذه الأيام، نكتشف أنه لا علاقة له بالكتاب على أرض الواقع … هذا العزوف التام عن الكتاب هو السبب فيما نحن فيه من جهل ونفور وعدم احترام الرأي والرأي الآخر في الساحة الإرترية. مع الأسف يُفضل شبابنا الجلوس في المقاهي أكثر من قراءة كتاب يفيده ويرفع من مقامه…هناك دولة صغيرة في أوروبا اسمها لوكسمبورغ يبلغ تعداد سكانها (455 ألف نسمة)، ما يقرأه شعب هذه الدولة في شهر يعادل ما يقرأه الوطن العربي الذي يقدر عدد سكانه بأكثر من ثلاثمائة مليون نسمة في عام كامل … وكما أسلفنا، فالشعوب التي أولت الكتاب اهتمامها تتربع في قمة الأمم المتحضرة، الله سبحانه وتعالى قال في محكم التنزيل “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”.

 القراءة تعد أفضل وسيلة لتحصيل العلم وإدراكه؛ لأن المرء كما نعلم يقرأ في مختلف العلوم الشرعية وغير الشرعية، ويقرأ في القديم والحديثً؛ ومن خلال القراءة تتوسع مداركه وتتفتح عقليته، والقراءة هي أنجح وسيلة للاستفادة من الوقت، ولا ننسى أن المرء محاسب على وقته ومسؤول عنه، ومن يستفيد من وقته بالقراءة والبحث حتماً هو المستفيد من تجارب  الآخرين.

فإذا أدركنا فوائد القراءة وأهميتها حتماً سنلجأ إلى الكتاب وسنجعل منه صديقنا ونتمسك به إلى أن يُصبح الصديق الحميم، ولكي نتغلب على النفور السائد من القراءة علينا أن نتمسك بالكتاب، وأن نعمل على أن نحبب أبنائنا في القراءة والمطالعة في سن مبكر، وأن نقلل قدر المستطاع من ارتياد المقاهي والجلوس فيها لساعات طويلة نهدر فيها وقتنا بدون أية فائدة، ثم علينا أن نعتاد على القراءة الجماعية في مجالات المعرفة والثقافة العامة لأنها تساعد وتُشجع في خلق روح التنافس بين القراء .. فليعمل كل واحد منا على تطوير ذاته وتحصيل أكبر قدرٍ من المعارف، فهو بذلك يهتم بما يفيده وبما يفيد الآخرين.

وفي الختام يُعتبر الكتاب الوسيلة الأساسية لزيادة الثقافة العامة عند الأشخاص الراغبين بذلك. حيث أن القراءة تعمل على بلورة الأفكار وأنها تمكن الشخص من تحصيل كافة الخبرات السابقة وكافة العلوم المختلفة. فالاطلاع والقراءة تُكسب المرء معلومات في مجالات متنوعة وفي شتى الميادين.

عن المحرر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *